في تتبّع لسيرة الدكتور جعفر الظفاري، يقول عنه الشاعر كريم الحنكي:
"من أبناء عدن التي وُلد فيها تجسيدًا لروح اليمن بجل مكوناتها الرئيسة التي صاغته من أب ظفاري، زيدي المذهب، قدم من صهبان في مرتفعات اليمن الوسطى، وأم تهاميّة، شافعية المذهب، قدم والدها من حيس في سهول اليمن الغربية، إلى عدن، حيث انعقدت حياتهما، وأثمرت: جعفر عبده صالح الظفاري، الذي اتصل مقامه فيها طوال سني التشكل الأساس، فتدخلت فيه بكل ما في بيئتها وأحوالها -آوانئذٍ- من عوامل التأثير الثقافي في ذوي النجابة من ناشئتها، ليعتضد -بذلك- الموروث والمكتسب، في التهيئة لإعداد أحد أجل علماء اليمن المعاصرين، وأول من جسّد في ثقافتها الحديثة معنى «الأكاديمية» ومبناها، نظريًّا ونظرًا، فيما قال، وماخط وما فعل"(1).
تقول تراجم سيرته أنّه من مواليد عدن، في العام 1936، حيث درس في مدارسها الابتدائية والمتوسطة والثانوية، حتى حصوله على الثقافة العامة عن ثمانية موضوعات في جلسة واحدة، ليتحصل بعدها على منحة دراسية إلى الجامعة الأمريكية في بيروت، في العام 1956، وبدأبه وعلمه الغزير حاز على البكالوريوس في الأدب العربي إلى جانب دبلوم في التربية، وحين عاد إلى عدن مطلع الستينيات عمل مُدرِّسًا في المدرسة الثانوية الحكومية لمادتَي الأدب العربي والدين الإسلامي، بعدها بقليل تحصّل على منحة إلى معهد الدراسات الشرقية والإفريقية في جامعة لندن لدارسة الماجستير، غير أنّ المشرف على رسالته وبعد قراءة خطّته العلمية، تم ترفيعها إلى مساق الدكتوراة، التي أنجزها بالإنكليزية الرفيعة، وموضوعها كان عن (الشعر الحميني في اليمن)، وحين عاد إلى عدن في العام 1966، عمل ضابط معارف للنشر في وزارة المعارف الاتحادية.
سافر إلى القاهرة للتدريب في مجال التوثيق التربوي في العام 1968، ليعمل بعد عودته مديرًا للتوثيق التربوي في وزارة التربية والتعليم، في بداية تكوينها بعد الاستقلال. وحين تأسّست، مطلع السبعينيات، كلية التربية العليا كنواة لجامعة عدن، صار عميدًا لها بالوكالة، وبعد إشهار الجامعة في العام 1975، صار نائبًا لرئيس الجامعة للشؤون الأكاديمية حتى العام 1982، حين تقدّم لاختبارات مفاضلة عربية للعمل في لليونيسكو، وبعد نجاحه عمل خبيرًا لمادتَي الأدب العربي والدين الإسلامي في (مدارس الأونروا) للاجئين الفلسطينيّين في سوريا ولبنان والأردن وفلسطين حتى العام 1985. عاد إلى جامعة عدن من جديد، وساهم في تأسيس (مركز البحوث الدراسات اليمنية) في الجامعة، وقد ترأّسه حتى وفاته، وعن هذا المركز صدرت (مجلة اليمن) المحكمة التي رأس تحريرها من عددها الأول الذي صدر في العام 1988، حتى وفاته أيضًا، وبعد وفاته سُمِّي المركز باسمه، وصار يعرف بـ(مركز الظفاري للبحوث والدراسات اليمنية)(2).
تُوفِّي في (12 تموز/ يوليو) 2009، في مدينة عدن التي وُلِدَ فيها، عن 73 سنة.
(**)
لا يُستدلّ على الظفاري عند عشرات القرّاء إلّا من خلال كتابين يتيمين؛ الأول صدر قبل وفاته بقليل، والثاني جُمِّع وصدر بعيد وفاته بخمسة أعوام، ومحتوى الكتابين في الأصل قليل من انصرافات الراحل العلمية والبحثية التي ابتدأت مطلع الستينيات ولم تتوقف إلّا مع توقّف قلبه، بعد ثلاث وسبعين سنة في مدينة عدن، التي وُلد فيها في العام 1936.
الكتاب الثاني المعنون بـ"الشعر الحميني في اليمن"، هو في الأصل ما قام بترجمته، بعد إلحاح شديد من طلابه وزملائه، من رسالة الدكتوراة التي تقدّم بها لجامعة لندن في العام 1966، باللغة الإنكليزية، ونشرها في أعداد منفصلة من مجلة اليمن التي تصدر عن مركز الدراسات اليمنية بجامعة عدن- اللتان كان يرأسهما منذ التأسيس في 1986، حتى وفاته في 2009، وساهم الدكتور أحمد علي الهمداني بجهد واضح ورصين في تحريره وإصداره بمدخل هو أقرب إلى مقتربات لسيرة المؤلف، بالإضافة إلى مقدمة مكملة في العام 2014.
المنشور في هذا الكتاب هو أربعة أبحاث تشكّل تقريبًا الجزء الأهم من رسالة الدكتوراة التي تعدّ أول رسالة بهذا الاتجاه، وفتحت تاليًا الباب واسعًا أمام الدراسات التي اتخذت من الشعر الحميني موضوعاتها العلمية. وهذه الأبحاث على التوالي "الشعر الحميني في اليمن- وقفة حول المصطلح"، وهو الموضوع ذاته الذي صار المقدمة الأهم في كتاب القلائد الحكمية "تاريخ الشعر الحميني في اليمن"، و"بحور الشعر الحميني في الدواوين اليمنية"، و"شعر الموشح العربي في الديار اليمنية" هي الأبحاث المكملة في الكتاب، الذي صدر عن جامعة عدن في العام 2006.
الكتاب الأول، وعنوانه: "عرف الخُزامى"، صدر في العام 2008، ومكوّن من دراستين شديدتَي الخصوصية والخطورة معًا؛ الأولى عنوانها: "عقدة اللون الأسود ومسألة الوجود الفارسي في اليمن بعد الإسلام"، وكان قد نشرها المؤلف في مجلة الثقافة الجديدة في عدن، في عددها الثالث من السنة الثالثة مارس 1974، وفي هذه الدراسة طرق المؤلف ما لم يُطرق من قبل، من قِبل دارسي التاريخ وباحثيه، وفيها، حسب مدخل الدراسة، ربط حرب الردة -التي دارت رحاها في اليمن- بالوجود الفارسي في هذه المنطقة، وأظهرت طبيعة هذه الردّة كما تتبدّى في نصوص مستقاة من الطبري وابن الديبع وغيرهما من المؤرّخين، وهي في طبيعتها انتفاضة شعبية ضدّ استبداد المركز القرشي في مكة وليس ارتدادًا عن الدين، كما حاولت تسويقه القراءات التاريخية المدرسية والأيديولوجية.
تتبعه التاريخي لحضور الكيان "الأبناوي" في المنطقة اليمنية في ظل الإسلام، وتصوير ما جرى لهذا المجتمع الغريب من أحداث وخطوب، وفي مقدّمها: طردهم من صنعاء وعودتهم إليها في سياق تحالفات سياسية جديدة ضمنت لرموزه أن يصيروا جزءًا فاعلًا في بنية الحكم حتى الآن.
تأكيده على أنّ النظم الشعوبي في الأدب العربي لم يبدأ إلّا في حدود المنطقة اليمنية، لتوافر بواعثه ودواعيه منذ مطلع القرن السابع الميلادي، قبل أن يظهر في العراق وجغرافيته القريبة بعشرات السنين. وأخيرًا تفسير المعالم الأساسية في سيرة سيف بن ذي يزن على أنّها انعكاس لواقع نفسيّ، أسهمت في تعميقه الشعوبية الفارسية والعرقية العربية.
الدراسة الثانية والمعنونة بـ"نشر عرف الخُزامى بذكر هجرة الصحابة إلى الحبشة في أرض تهامة"، نشرت أول مرة في العدد 17 مايو 2003، في مجلة اليمن التي تصدرها جامعة عدن، وفيها يصل إلى استنتاجات، بعد تأليفه بين أقوال متنافرة وتنقيتها ممّا يشتم فيها من عصبية أو هوى أو يدخل في باب الأوهام والخرافات، بأن الهجرة كانت إلى أرض الحبشة في تهامة، وحسب قوله أنّ من الهذيان العلمي الذهاب إلى أنّ الصحابة وصلوا أكسوم واستقروا فيها، وحاوروا النجاشي الأعظم بلسان عربي مبين.
وغير هذين الكتابين يمكن اعتبار كتاب التأبين (وحده يحيا الظفاري) الذي صدر عنه بعد وفاته، مؤلفًا ناقصًا له لاحتوائه على بعضٍ من نتاجاته المنشورة في مجلة الثقافة الجديدة، تحت عنوان "الحركات الشعبية في اليمن"، وصحيفة 14 أكتوبر تحت مسمى "كشكول اليمن"، ولم يحتوِها قبلًا أي إصدار مطبوع، وهي مواد في انصرافها العام تضاف إلى الحقل الفكري والتاريخي الذي انغمس فيه الظفاري لعقود طويلة(3).
________________________________________
(1) ينظر صحيفة الجمهورية 20 - 12 – 2006، وذات الموضوع نشر في موقع صحيفة الأمناء لكن دون ذكر لاسم الكاتب https://al-omana.net/m/details.php?id=12097
(2) ينظر كتاب "الشعر الحميني في اليمن"، جمع وتقديم: د. أحمد علي الهمداني، مركز عبادي صنعاء- طبعة 1، 2014.
(3) محمد عبدالوهاب الشيباني، التنويري المغيَّب الذي رأى اليمن كما لم يره غيره! https://almahriah.net/opinions/124