تعاني اليمن مشكلةً كبيرة لا تحظى بالاهتمام المناسب مع توسع تبعاتها بشكل كارثي، تتمثل في عزل وحصار المدن، وتضييق الخناق على سكانها في ظل تمدد الفقر وبؤر الجوع، وتتركز بدرجة رئيسية في المناطق ذات الكثافة السكانية الواقعة تحت جحيم الحصار والتضييق من جميع أطراف الصراع في البلاد.
وتعدّ المحافظات التي تتقاسم أطراف الصراع السيطرةَ عليها، مثل الحديدة وتعز وحجة والضالع والمدن الواقعة شرقي اليمن، الأكثرَ معاناةً من الفقر والبطالة والتجويع؛ وذلك نتيجة للحصار الخانق المطبق عليها، حيث يعجز سكانها من الوصول إلى سُبل العيش المتاحة والخدمات العامة التي أصبحت بمثابة حلم يراود نسبة كبيرة من مواطني سكان هذه المدن.
تمثل المناطق الشرقية للحديدة (شمال غربي اليمن) نقطةَ تماس فاصلة بين الحوثيين وفصيل طارق صالح، المحسوب على الحكومة المعترف بها دوليًّا (قائده عضو في مجلس القيادة الرئاسي) والمدعوم من الإمارات، إذ يشكو السكان صعوبة التنقل والوصول إلى أعمالهم وأنشطتهم ومراعيهم ومزارعهم الموزعة بين مناطق طرفي السيطرة، في حين تعيش محافظات مثل الضالع وحجة وأجزاء من البيضاء وأبين، أوضاعًا مشابهة وبنسب متفاوتة.
في السياق، قال تقرير للبنك الدولي، صادر مطلع يوليو/ حزيران الماضي 2024، اطلعت "خيوط" على نسخة منه، إنّ اليمن شهد انخفاضًا بنسبة 54% في نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي الحقيقي، مما يترك أغلب اليمنيين في دائرة الفقر، بينما يؤثر انعدام الأمن الغذائي على نصف السكان، بالإضافة إلى ارتفاع معدلات الوفيات بين صفوف الشباب.
نقاط تماس محفوفة بالمخاطر
ترصد "خيوط" قصصًا مؤلمة عاشها ويعيشها اليمنيون، تتمثل في معاناة نقل المرضى أو المسافرين الذين يلقون حتفهم بين الجبال أو في عمق الصحراء، ومنهم من يتعرض للسلب والنهب والقتل، كما يحدث في صحراء الجوف، أو يقع ضحية للمتفجرات والألغام، كما يحصل في الحديدة والضالع في حال التنقل بين المناطق للعمل أو لقضاء مصلحة عامة أو لزيارة عائلية، فضلًا عن تضرر القطاع التجاري الذي يشكو من "ابتلاع" الطرق البديلة الوعرة لبضائعهم وتجارتهم مع تنامي مخاطر وتبعات التهريب.
يتحدث المواطن حلمي سعيد، من سكان الحديدة، لـ"خيوط"، عن أنه يواجه صعوبة في الانتقال إلى مزرعته الواقعة تحت سيطرة الحوثيين وهي على بعد أمتار قليلة من سكنه في المنطقة الواقعة تحت سيطرة الطرف الآخر، في حين يعاني موفق صهيب من الوصول إلى منطقة الاصطياد الواقعة في الجزء الساحلي الواقع تحت نفوذ القوات المحسوبة على الحكومة اليمنية، وفي حال استطاع النفوذ، يكون مصيره غالبًا بين يدي قوات عسكرية تابعة للسلطات الإريترية التي تفرض حصارًا خانقًا على مناطق الاصطياد والصيادين اليمنيين.
تمثّل المناطق الشرقية للحديدة (شمال غربي اليمن) نقطةَ تماس فاصلة بين الحوثيين وفصيل طارق صالح، المحسوب على الحكومة المعترف بها دوليًّا (قائده عضو في مجلس القيادة الرئاسي) والمدعوم من الإمارات، إذ يشكو السكان صعوبة التنقل والوصول إلى أعمالهم وأنشطتهم ومراعيهم ومزارعهم الموزعة بين مناطق طرفي السيطرة، في حين تعيش محافظات مثل الضالع وحجة وأجزاء من البيضاء وأبين أوضاعًا مشابهة وبنسب متفاوتة.
من جانبه، يروي المواطن علي مهيوب، قصته المؤلمة، لـ"خيوط"، عندما اضطر للتنقل والسفر إلى محافظة حضرموت (جنوب اليمن) عبر طريق مأرب البديل عبر الجوف، بالقول: "إن المسافر وشاحنات نقل البضائع تغرق في صحراء الجوف؛ المعبر البديل للطريق المقطوع عبر نهم إلى مأرب، وهناك تجد المتقطعين الذين ينهبون ما بحوزة المسافرين بطرق تسبّب الرعب والفزع لكلّ من يضطر لاستخدام هذا الطريق"، بينما يجد التجار صعوبة بالغة في نقل بضائعهم إلى متاجرهم الموزعة بين مناطق نفوذ أطراف الصراع في محافظة الضالع (جنوب اليمن).
تضييق الخناق وتمدّد الأزمة
يعاني اليمن -كما ترصد "خيوط"، وتوصيف اقتصاديين وباحثين- من بروز أدوات ووسائل متعددة للنهب والتكسب غير المشروع، يتمثل في قطع الطرقات الرئيسية والفرعية بين المحافظات أو في إطار المحافظة أو المدينة الواحدة، في حين توجّه الاتهامات للقيادات العسكرية والأمنية في السلطات المركزية وفي المحافظات، بالمسؤولية عن قطع الطرقات على طول خارطة اليمن، ابتداء من حرض وميدي، مرورًا بالخوخة والجراحي والمراوعة وحيس والمخا وتعز، وصولًا إلى إب والضالع والبيضاء ومأرب والجوف، وذلك بالنظر إلى العوائد المالية التي تجنيها نقاط التفتيش على تجارة السلع المهربة، إضافة إلى ما تسبّب به حصار المدن وقطع الطرق من فرض وتوسع سلطتين نقديتين متنافستين وعملتين مختلفتين.
الأكاديمي والباحث الاقتصادي ياسين القاضي، يرى في حديثه لـ"خيوط"، أنّ اليمن يعيش وضعية اقتصاد "الحرابة" بشكل واضح وجلي، بالنظر إلى الأمر الواقع الذي تشكّلَ نتيجة لذلك، حيث هناك نظامان نقديان وعملتان مختلفتان، وتفشي ما كان يُعرف سابقًا في الجبايات بـ"نظام المكووس" الذي تحول إلى أحد أنواع اقتصاد "الحرابة"، والذي ضيق الخناق على اليمنيين والقطاع التجاري، وكان أحد مسببات تفكك مؤسسات الدولة والاقتصاد الوطني، فضلًا عن كونه أحد أسباب الأزمة الإنسانية وتمدّد الفقر.
لا تزال جميع الأطراف تفرض حصارًا مشددًا على اليمنيين في تنقلاتهم ومعيشتهم ومصادر دخلهم بشتى سبل التضييق والتشديد، سواء من خلال نقاط التفتيش المنتشرة على امتداد خطوط السير المستحدثة، أو عبر حزم الجبايات والإتاوات، واستيراد السلع والمواد الأساسية، وفي عبور شاحنات نقل البضائع بين المدن، إذ يتكبد اليمنيّون كُلفة مالية عالية نظير تنقلاتهم.
نهاية الشهر الماضي، تابعت "خيوط" نتائجَ وتأثير توجيهات عضو مجلس القيادة الرئاسي في عدن أبو زرعة المحرمي، الذي استلم الملف الأمني للعاصمة المؤقتة للحكومة المعترف بها دوليًّا، التي تتحكم بها عسكريًّا وأمنيًّا عشرات الأحزمة (تشكيلات عسكرية) بمسميات مختلفة، تتبع المجلس الانتقالي الجنوبي أو محسوبة عليه. التوجيهات تلزم النقاط العسكرية المنتشرة في مناطق محافظات عدن وأبين وشبوة ولحج، بالتوقف عن الجبايات غير القانونية التي يتم فرضها على الشاحنات التجارية.
لم تُحدِث هذه التوجيهات أيّ صدى أو تأثيرٍ يذكر، حسبما أفاد ذلك لـ"خيوط"، تجّار وسائقو شاحنات نقل تجاري، إذ استمرت هذه النقاط بفرض الجبايات والإتاوات، كما هو الوضع، بل وأكثر بأضعاف، في النقاط العسكرية المنتشرة بمناطق نفوذ جماعة أنصار الله (الحوثيين).
المحلل الاقتصادي صادق علي، يشير لـ"خيوط"، إلى أن عملية الاستغلال والنهب لا تتوقف عند هذا الحد في عزل المدن ونقاط التفتيش والجبايات وتمدد سلطات الأمر الواقع، بل هناك أساليب متنوعة للاستغلال وسلب اليمنيين، أهمُّها التلاعب بالعملة والمضاربة بها وفوارق صرفها، ونقاط بيع وصرف العملة في مناطق التماس، وهي نقاط صرافة تتوسط نقاط تمركز كل طرف.
حصار لم يسبق له مثيل
لا تزال جميع الأطراف تفرض حصارًا مشدّدًا على اليمنيين في تنقلاتهم ومعيشتهم ومصادر دخلهم بشتى سبل التضييق والتشديد، سواء من خلال نقاط التفتيش المنتشرة على امتداد خطوط السير المستحدثة، أو عبر حزم الجبايات والإتاوات، واستيراد السلع والمواد الأساسية، وفي عبور شاحنات نقل البضائع بين المدن، إذ يتكبد اليمنيون كُلفة مالية عالية نظير تنقلاتهم، أو نقل السلع والبضائع بين المحافظات والمدن المتروسة بالحواجز والموانع ونقاط التفتيش.
ويؤكّد الباحث الاقتصادي محمد علي قحطان، في هذا الخصوص لـ"خيوط"، أن حصار السكان في المدن اليمنية بطريقةٍ لم يسبق لها مثيل في تاريخ الحروب، ومنع الناس من التنقل عبر المعابر والطرق الرئيسية، أدّى إلى تقطيع أوصال مناطق الدولة، وحرمان الأسر من التواصل مع بعضها سنوات، في ظروف اقتصادية ومعيشية سيئة للغاية، وتجاوزات مهينة لكرامة الإنسان.
بالمقابل، تعتبر تعز (جنوب غربي اليمن) من أكثر المدن اليمنية معاناة، حيث تسبب الصراع في تقسيمها إلى ثلاثة أجزاء؛ فالمخا والشريط الساحلي الممتد من ذوباب إلى باب المندب تخضع لسيطرة القوات العسكرية التي يقودها طارق صالح، والمدنية وغربها تخضع لإدارة الحكومة المعترف بها دوليًّا من خلال إدارة محلية وتشكيلات عسكرية متعددة، وهناك الجهة الشرقية التي يُحكِم الحوثيون السيطرة عليها.
ويرزح في اليمن، أكثر من 80% من السكان تحت وطأة الفقر، وقد أدّى ضعف الاقتصاد إلى التضخم، مما جعل من الصعب على ملايين الأسر تحمل تكاليف الاحتياجات الأساسية، بما في ذلك الغذاء والوقود والمياه. وقد أضاف التفشي الحالي للكوليرا والفيضانات الأخيرة في بعض مناطق البلاد، تحديات إضافية للأشخاص الذين هم بالفعل في حاجة ماسة إلى المساعدة الإنسانية.
منذ عام 2015، انكمش إجمالي الناتج المحلي للبلاد، بأكثر من 50%، وأدّى التراجع الاقتصادي إلى خفض مداخيل الأسر، ممّا أدّى إلى انعدام الأمن الغذائي وسوء التغذية، فضلًا عن ضعف الوصول إلى خدمات الصحة والمياه والحماية والتعليم.