نشرت هيئة البث البريطانية "B.B.C" تحقيقًا استقصائيًّا حول دور الإمارات العربية المتحدة في تمويل وتنفيذ الاغتيالات السياسية في المحافظات الجنوبية لليمن، بمساعدةٍ من مرتزقة أمريكيين وعناصر سابقة في تنظيم القاعدة قامت بتوظيفهم.
لم تكن قناة (بي بي سي) صاحبة السبق في الكشف عن دور الإمارات في الاغتيالات السياسية في المحافظات التي تدار من قبل أدواتها، بل سبقها موقع "بزفيد نيوز" الأمريكي، غير أن التحقيق الذي نشرته القناة البريطانية، وأعدته الصحفية اليمنية نوال المقحفي طيلة أربع سنوات متواصلة، تضمن وثائق وصورًا وفيديوهات وشهادات واعترافات أدلى بها مرتزقة أمريكيين شاركوا في تنفيذ عمليات الاغتيال عبر شركة أمنية أمريكية خاصة تدعى "سبير"، أسسها المقاول الأمني الهنغاري الإسرائيلي أبراهام غولان. وكشف التحقيق أن الاغتيالات طالت أكثر من 160 شخصية سياسية ودينية، معظمها تنتمي إلى حزب التجمع اليمني للإصلاح، ذي التوجه الإسلامي.
فما هو الدافع لدى الإمارات لاستهداف حزب الإصلاح في اليمن؟
ليس هناك من حالة ثأر أو عداوة سابقة نشبت بين دولة الإمارات وحزب الإصلاح اليمني، حتى يُبرر للإمارات اقتراف ردة فعل انتقامية ضد الإصلاح، ولكن الإمارات تتخذ موقفًا عدائيًّا متشددًا تجاه تيارات الإسلام السياسي المعتدل، ولا سيما الحركات السياسية المرتبطة بجماعة الإخوان المسلمين. وتضخم هذا العداء الإماراتي تجاه الإسلاميين، عقب اندلاع ثورات الربيع العربي 2010–2011، التي رفعت وتيرة الخوف والرعب لدى الأنظمة الملكية التقليدية حيال التغيير المرتقب الذي لم يكن.
ومن هنا سارعت دولة الإمارات إلى حظر نشاط جمعية الإصلاح والتوجيه الاجتماعي، وهي جمعية خيرية دعوية معتدلة، واعتقلت العشرات من منتسبيها، وفي مقدمتهم رئيسها الشيخ سلطان القاسمي عام 2012، وما زال قيد الاعتقال في أبوظبي حتى اليوم. وسلطان القاسمي هو سليل أسرة تنتمي إلى الأسرة الحاكمة في إمارة رأس الخيمة.
وقبل أسابيع أعادت السلطات القضائية الإماراتية محاكمة 84 مواطنًا إماراتيًّا، بتهمة الإرهاب، وأغلبهم من المحسوبين على جماعة الإخوان المسلمين، وجميعهم معتقلون سابقون تجاوزوا فترة محكوميتهم في السجون الإماراتية.
وكان السبب الحقيقي في اعتقالهم عام 2012، أنهم وقّعوا وثيقة تطالب قيادة الإمارات بإحداث إصلاحات سياسية في البلاد ليس إلا. ولم تكتفِ القيادات الخليجية بتأمين ذاتها من التغيير في بلدانها، بل أعلنت الحرب المشتركة على ثورات الربيع العربي؛ سواء بالاحتواء، كما حدث في اليمن، أو بالإجهاض كما حدث في تونس، أو بالانقلاب كما وقع في مصر.
وحملت الإمارات على عاتقها محاربة جماعة الإخوان المسلمين وكل الحركات المحسوبة عليها في أنحاء الوطن العربي.
وفي اليمن، شاركت الإمارات في التحالف العربي ضد جماعة الحوثيين في اليمن، في مارس 2015، ولم تكن مشاركتها تلك من أجل عيون السعودية أو خاطر (الشرعية)، وإنما لتحقيق هدفين رئيسَين: الأول يتمثل في رغبة إماراتية جامحة للاستحواذ على سواحل اليمن والموانئ اليمنية لتعزيز مكانة ميناء جبل علي، وتوسيع المساحة الاستيطانية لموانئ دبي العالمية المسيطرة على موانئ القرن الإفريقي، إضافة إلى موانئ جنوب شبه الجزيرة العربية (اليمن)؛ لتغدو الإمارات مركزًا اقتصاديًّا يربط بين شرق إفريقيا وجنوب آسيا. ومن هنا تتكشف دوافع الإمارات من وراء سيطرتها على ميناء عدن، ومينائَي الضبة والشحر في حضرموت، وميناء قشن في المهرة، ومينائي بلحاف وقنا في شبوة، وميناء المخا في تعز.
وحتى تتحقق استدامة السيطرة الإماراتية على المياه اليمنية، يستوجب عليها تغذية الصراعات اليمنية الداخلية، وضمان انفصال جنوب اليمن عن شماله، وتحجيم المكونات السياسية الكبيرة المنتشرة على امتداد الجغرافيا اليمنية، ومنها حزب التجمع اليمني للإصلاح وهذا هو الهدف الثاني لمشاركة الإمارات في التحالف.
ولهذا استخدمت الإمارات كل وسائل العنف لاجتثاث حزب الإصلاح من جنوب اليمن، فعمدت إلى إقصاء القيادات الإصلاحية من مناصبها الحكومية، كما حدث مع نايف البكري، محافظ عدن الأسبق، ثم إقصاء محافظ شبوة، محمد صالح بن عديو، وقبله إقصاء محافظ البيضاء، نايف القيسي، ومحافظَي الجوف الحسن أبكر ثم أمين العكيمي. بل وصل التأثير الإماراتي إلى وزارة الخزانة الأمريكية التي أدرجت القياديَّين الإصلاحيين، نايف القيسي والحسن أبكر، في قائمة الإرهاب، بإيعاز من الإمارات.
كما عملت الإمارات على إقصاء القيادات العسكرية المحسوبة على حزب الإصلاح، سواء بفرض تغييرها بقرار رئاسي، أو بقصفها بغارات جوية، مثلما حدث في أكثر من واقعة، وراح ضحيتها مئات الضباط والجنود.
وترمي السلوكيات العدائية الإماراتية إلى شيطنة حزب الإصلاح بهدف إجباره على النكوص الفكري والارتداد السياسي، والعودة به إلى مرحلة العمل السري، ليغدو مؤهلًا لممارسة العنف على أصوله، وهذا ما يضمن استدامة الصراعات السياسية في جميع أنحاء اليمن.
كما أنشأت الإمارات السجون السرية، ونفذت حملات الاعتقالات والإخفاءات القسرية بحق كوادر حزب الإصلاح، ومن لم تستطع اعتقاله، طالبت بنفيه إلى خارج البلاد، كما حدث مع الشيخ حمود سعيد المخلافي.
وعلاوة على هذا كله، يؤكد التحقيق الاستقصائي البريطاني أنّ الإمارات دفعت عشرات الملايين من الدولارات مقابل استئجار مرتزقة أمريكيين لتنفيذ عمليات الاغتيال ضد قيادات ونشطاء حزب الإصلاح في اليمن.
ورغم الجهد الكبير المبذول في هذا التحقيق، فإنه تناول نزرًا يسيرًا من ضحايا هذا الملف الأسود والجريمة المنظمة التي أدارتها الإمارات في اليمن، إذ اقتصر التحقيق على فترة زمنية تتراوح بين عامي 2015 و2018، فيما الإمارات ما زالت تمارس وتدير عمليات الاغتيالات عبر أدواتها وأذرعها في البلاد، وآخر عملية اغتيال سياسي حدثت في شهر ديسمبر الماضي، واستهدفت إمام مسجد في محافظة لحج، وبذات التكتيك المتبع لدى شركة "سبير". وإذا كان عدد ضحايا الاغتيالات الإماراتية في اليمن بلغ (160) ضحية خلال ثلاث سنوات، فكم سيكون إجمالي الضحايا خلال خمس سنوات إضافية أخرى؟!
وأخطر ما كشف عنه هذا التحقيق هو تجنيد العشرات من عناصر تنظيم القاعدة لتنفيذ الاغتيالات، وضمهم ضمن ما تسمى بقوات النخبة، وأبرز تلك العناصر القيادي المعروف في تنظيم القاعدة ناصر الشيبة، الذي كان مسجونًا بتهمة الإرهاب، كما كان أحد أبرز المشاركين في استهداف المدمرة الأمريكية (يو إس إس كول)، وبات اليوم قائدًا في إحدى الفصائل المسلحة التابعة للإمارات في جنوب اليمن.
وهذا دليل دامغ على أن الإمارات تتولى تنفيذ عملية ممنهجة لاجتثاث الأحزاب السياسية والمكونات المعتدلة التي تؤمن بالعمل السياسي السلمي التنافسي، واستبدالها بكيانات دينية متطرفة، وتشكيلات مناطقية منغلقة، وفصائل مسلحة تدين بالولاء المطلق لها. وكل من يأبى التعامل معها أو يرفض تعليماتها ويقف عائقًا أمام أطماعها ومخططاتها فهو إرهابي يستوجب القتل على طريقتها الخاصة!
وترمي هذه السلوكيات العدائية الإماراتية إلى شيطنة حزب الإصلاح بهدف إجباره على النكوص الفكري والارتداد السياسي، والعودة به إلى مرحلة العمل السري، ليغدو مؤهلًا لممارسة العنف على أصوله، وهذا ما يضمن استدامة الصراعات السياسية في جميع أنحاء اليمن، من وجهة نظر إماراتية.
والغريب في الأمر أنه، ورغم هذا العداء الإماراتي تجاه حزب الإصلاح، ما زال الحزب يحرص على ترميم علاقته بالإمارات، ومؤخرًا قال القائم بأعمال الأمين العام للحزب، عبدالرزاق الهجري: "إن لدى دولة الإمارات سوء فهم مع حزب الإصلاح لكننا نتمنى تجاوزها".