تصريحان متزامنان؛ الأول من وزير الخارجية الأميركي يقول إن أمريكا لن تظل تفاوض في فيينا إلى الأبد، وبالمقابل ردّ فعل يصدر عن طهران بنفس المعنى: "لن نظل في فيينا بدون جدوى".
سياسة عضّ أصابع بين الطرفين يفوز فيها من بالُه أطول، ولديه قدرة على المناورة وكسب الوقت أكثر. هل تتذكرون كم ظلت المفاوضات جارية بين إيران و5+1؟
صانع السجاد الإيراني لديه من الصبر الكثير لإدراكه أن ما يجري لصالحه، كيف؟
الصين تبحث عن النفط والغاز، وروسيا لها مصالحها مع إيران وسوريا وليست ببعيد، وإيران في العراق منتصرة، واستطاعت أن تصل إلى باب المندب، وفي فلسطين تنطلق الصواريخ ويدري الجميع من أين مصدرها، وفي لبنان وجودها ظاهر وليس مستورًا، ونصر الله يدري ما يقول، مقابل الحريري وحتى المسيحيين، لا يدرون أين يضعون أقدامهم! لغة نصر المهذبة والذكية لا تستطيع أن تخفي الرائحة الإيرانية، لكن الرجل وما يمثّله، يدري كيف يتماهى مع سياستها وتوجُّهها في المنطقة، والخليج لن تُقْدم لأجله أمريكا، ولا حتى الشيطان، على حرب، لأن ترامب أول الناس، رغم جنونه لم يطلق رصاصة واحدة، لأنه يدرك ماذا يعني شرخ زجاج في "برج خليفة" نتيجة طلقة طائشة!
في المنطقة العربية إيران تدري ماذا تريد، وقد أكملت أحزمتها حول دول البترول وبالذات السعودية، فما الذي يدعوها للاستعجال، وقد استطاعت أن تسحب بساط القضية الفلسطينية من تحت أرجل العرب، وأضحت الراية بيدها، مقابل سياسة الشيكات التي تقطر ذهبًا ولم تؤدِّ إلى حلول!
الوجه الآخر للأمر
بعض السذّج من المحللين يظنون- أتحدث عن العرب تحديدًا- أن أمريكا تخاف إيران، وأن الإدارة الحالية مترددة وخائفة، عكس الإدارة السابقة صاحبة القرار، وينسون أن الاتفاق النووي أُنجز في عهد أوباما، الذي كان أذكى من ترامب الذي لم تؤدِّ عقوباته إلى شيء، بل شحذت إرادة التحدي لدى محور إيران ليحقق ما تخشاه الإدارة الحالية وتراه في غزة، بل وشاهدته مؤخرًا في صواريخ تنسكب كالمطر فوق الملاجئ الإسرائيلية.
منطق الرئيس السادات أن 99% من أوراق اللعبة في يد أمريكا لم يعد منطقًا يناسب اللحظة. فالصين تطل برأسها تارة من الفضاء وأخرى من بحر الصين، وهناك "الدب الروسي"
إسرائيل تولْوِل طوال الوقت لتثير خوف الخليجيين فيدفعون للحماية وللأمريكيين، فيُخرجون أحدث ما في ترسانتهم حفاظًا على التفوق النوعي على كل العرب، وأولهم الامارات!
أمريكا ليست دولة صغيرة يحكمها فرد. أمريكا مهما صحنا وصرخنا ووجهنا إليها اللعنات، هي دولة عظمى، وعينها على الصين وروسيا، وعين أخرى على قوى صاعدة مع المدى ستشكل صداعًا لسياسييها على المدى القريب والبعيد. تريد أمريكا بهذا الهدوء الذي يفلق الحجر أن تستعيد، إذا استطاعت، إيران من حضن الصين وروسيا، وعينها في المنطقة على تركيا. تدري أن إسرائيل مثل المرابي "شايلوك"، تصيح وتصرخ للحصول على قطعة اللحم الطازج بدون تعب!
أين السعودية تحديدًا؟
يلزمها وقت طويل حتى تؤسس دولة بالمعنى الحقيقي وتخرج من عباءة الأسرة وكشف اللجنة الخاصة والشيكات مقبولة الدفع، لتتحول إلى دولة تصنع وتدير قرارها السياسي، وبالذات الاستراتيجي منه؛ مؤسسات حقيقية غير "مجلس الشورى" و"لجنة البيعة" اللذين يؤمران فيطيعا، دولة مؤسسات تعيد صياغة رؤية للتعامل مع من حولها بعيدًا عن مقولات عبدالعزيز ومشورات مشائخ كشف "اللجنة الخاصة".
لا أحد يستطيع إنكار أن محمد بن سلمان، ومن وحي مقابلته التلفزيونية الأخيرة، أن الرجل ظهر بمظهر رجل الدولة واستطاع إقناع المشاهد برؤيته للسعودية "2030"، وما بعدها، لكن يلزمه وقت طويل، إذا وجد أدواته، للوصول إلى بداية الطريق؛ دولة سعودية لا تلغي الآخر بشيكاتها ومِنَحها! دولة تتعامل مع محيطها طبقًا لما تمليه عليها مصلحتها، فمنطق الرئيس السادات أن 99% من أوراق اللعبة في يد أمريكا لم يعد منطقًا يناسب اللحظة. فالصين تطل برأسها تارة من الفضاء وأخرى من بحر الصين، وهناك "الدب الروسي"، وبهدوء، يتقدم أو على الأقل يدري أين يضع مخالبه.
تدرك أمريكا جيدًا حكمة القول: "إذا يدك تحت الحجر اسحبها بالبَصَر"، وتدرك إيران أنها ليست أقوى من أمريكا، لكنها تجيد سياسة الصبر، كصانع السجاد، لذلك لا بد من اتفاق. أما كيف سيكون لونه وطعمه ورائحته، هنا السؤال.
يدرك أي متابع بذكاء، أن إيران وأمريكا ليستا المعنيتان وحدهما بالتوصل إلى اتفاق، بل إن المتصارعين الآن في الميادين البديلة، يهمهم أن يعرفوا مواضع أقدامهم في جولات الصراع القادمة، والتي ستكون أشرس من سابقاتها، وقد نعيش حربًا باردة أخرى، كلاهما تستعدان بالسيطرة على مناطق نفوذ، وعلى اختيار حلفاء جدد يقفون هنا أو هناك.
أين العرب؟
يكفي أن يطّلع المرء على بيان الخارجية الإثيوبية ردًا على ما صدر عن الجامعة العربية حول سد النهضة. ستظل النار تشتعل هنا وهناك حتى تخرج مفاوضات فيينا إلى طريق، تشتدّ وتهدأ انعكاسا لما يدور ويرشح عن طاولة المفاوضات.
عض الأصابع سيستمر، والأكثر صبرًا والأكثر أوراقًا في اليد سيكسب؛ هنا وفي الجولات التي تلوح في الأفق.