تعيش اليمن، لأكثر من عقد من الزمن، آثار الصدى والرجع الذي أحدثته الانتفاضة الشعبية التي قامت ضد النظام الحاكم سنة 2011، وإذا كانت تلك الهزّة العنيفة قد أحدثت كل هذه التصدعات في بنية النظام وشكله، فإننا لا نناقش مشروعية تلك الثورة ولا أهدافها، بل نقف على واقع مختلف كانت بدايته من هناك، ولكننا حين نتحدث عن لحظة مفصلية بعينها فإنّ علينا العودة إلى "أولًّا"، ولا نحاكم تلك الواقعة بتجريد يهدف لتبرئة السابق وإدانة اللاحق من النظم السياسية التي حكمت بلداننا عقودًا عديدة.
غير الأسباب الاقتصادية والمعيشية قبل الثورة، كانت اليمن تعيش، قبل أحداث "الربيع العربي"، بداية تصدّع دستوري يقوض شرعية النظام الحاكم حينها، تمثّلت في محاولة الرئيس الأسبق علي عبدالله صالح تعديل الدستور، ليسمح له الترشح لفترتين رئاسيتين جديدتين مدتهما ١٤ عامًا، أي إنّ صالح كان سيستمر حتى العام ٢٠٢٨. لكن النقطة الأهم كانت تأجيل الانتخابات البرلمانية التي كانت مقررة في أبريل ٢٠٠٩، وهو ما جعل الطريق مسدودًا أمام الحلول السياسية مع اتجاه النظام نحو تكريس نظام فردي أوليغارشي يتزامن مع القضاء على الحياة السياسية حينها.
أفضت الاحتجاجات الشعبية إلى قبول النظام الحاكم بحلول وسطى يتنحى بموجبها الرئيس لنائبه، لتجري بعدها انتخابات توافقية بمرشح وحيد لإضفاء شرعية جديدة على الرئيس الانتقالي الجديد، وفي تلك الأثناء غابت شرعية الدستور وحضرت شرعية التوافق، بداية من انتخابات رئاسية بمرشح وحيد في سابقة لم تحصل في أيٍّ من ديمقراطيات العالم، مرورًا بتهميش دور مجلس النواب في مناقشة القضايا الرئيسية التي تخص المرحلة الانتقالية.
تشكّلت الشرعية الجديدة بأصوات سبعة ملايين يمني أدلوا بأصواتهم لمرشح التوافق، بينما بقي مجلس النواب على حاله، ودخل عامه العاشر حينها دون تغيير.
اتفق الفرقاء على فترة انتقالية لسنتين، فقط، قابلة للتمديد عامًا واحدًا، تجري بعدها انتخابات رئاسية وبرلمانية جديدة، وهو ما لم يحصل لأسباب عديدة، أولها عند نهاية الفترة الانتقالية المقدرة بسنتين اتفقت القوى السياسية على تمديد لعام واحد، تستكمل فيه بقية استحقاقات المرحلة الانتقالية.
وأثناء العام الثالث من ولاية الرئيس السابق عبدربه منصور هادي، سيطر الحوثيون على صنعاء وعادت البلاد للوراء بالبحث عن اتفاقيات شراكة موسعة في محاولة لإيجاد مشروعية جديدة للوضع الذي انتهت إليه الأوضاع بعد ليلة 21 سبتمبر 2014، ولكن بعد ضغوطات الحوثيين على الرئيس هادي بطلب تعيينات بالجملة واحتلال المؤسسات، اضطر لتقديم استقالته في 21 يناير 2015، ولكن الإقامة الجبرية التي فرضت عليه ومنع انعقاد مجلس النواب من قبل الحوثيين، وفقًا للدستور النافذ، ألغت الاستقالة بعد ثلاث أيام، وتأكدت في هروب الرئيس إلى عدن في فبراير 2015.
في السادس من فبراير 2015، شكّل الحوثيون ما سمّي "الإعلان الدستوري" أعلنوا فيه حل مجلس النواب وتشكيل مجلس رئاسي، وتشكيل "مجلس وطني" يحل محل البرلمان بقوام ٥٥١ عضوًا، لكنّ الإعلان الدستوري لم يلقَ النجاح المطلوب بسبب اندلاع الحرب في مارس من العام ذاته، فبقيت اللجنة الثورية برئاسة القيادي في الجماعة، محمد علي الحوثي، هي التي تحكم، ولكن دون مسوغ أو إطار دستوري ناظم.
في هذه السنين بقي هادي رئيسًا بسبب الحرب ولأنّ الرئيس الانتقالي يجب أن يسلّم السلطة لخلف منتخب، وهذا ما لم يحدث. بينما في صنعاء لم يكتسب الحوثيون صفة دستورية بتشكيلهم اللجنة الثورية العليا وحلهم لمجلس النواب، لكنهم تراجعوا عن ذلك بعد تحالفهم مع الرئيس الأسبق علي عبدالله صالح، وفي منتصف أغسطس من العام ٢٠١٦، انعقدت جلسات البرلمان اليمني في صنعاء، وكان، إلى تلك اللحظة، هو البرلمان المعترف به، وهيئة الرئاسة هي من تتواصل مع الاتحاد الدولي للبرلمانيين، تلا ذلك تشكيل مجلس حكم بمسمى "المجلس السياسي" تمخض عنه تشكيل حكومة صادق عليها عدد من أعضاء البرلمان في صنعاء، لكن دون نصاب كافٍ يمثل الأغلبية المطلقة النصف زائدًا واحد.
في أبريل 2019، اجتمع أعضاء من مجلس النواب في سيئون، واختاروا سلطان البركاني رئيسًا لمجلس النواب، لكن مركز صنعاء للدراسات، قال إنّ النصاب لم يكتمل في مادة نشرها بعد انعقاد الجلسة وانتخاب البركاني. منظمة البرلمانيين الدوليين قالت إنّ النصاب لم يُستوفَ؛ أي لم يحضر 134 عضوًا، وهو النصاب القانوني للأعضاء الأحياء البالغ عددهم 265 عضوًا، وقالت وسائل إعلام محلية، إنّ عدد الحضور بلغ 106 نوّاب فقط، لكن هيئة الرئاسة المنتخبة بالتزكية في سيئون، استطاعت جمع توقيعات إضافية لتقنع اتحاد البرلمانيين الدولي بمشروعية الخطوة ليصبح البرلمان معترَفًا به دوليًّا.
بلغ عدد المتوفين من أعضاء مجلس النواب اليمني المنتخب سنة 2003، أكثر من ستين نائبًا، وفق إحصاءات غير رسمية، لكنّ الحوثيين أقاموا انتخابات تكميلية في 24 دائرة في المناطق الخاضعة لسيطرتهم قبل ثلاث سنوات، حين كان عدد المتوفين 36 نائبًا في أبريل 2019، ويبدو أنهم سيقومون بخطوة مماثلة للأعضاء المتوفين في الثلاث السنوات الماضية، في محاولة منهم لإضفاء أي مشروعية على سلطتهم الجبرية على البلد.
وفقاً للمادة (65) من الدستور اليمني، يظل مجلس النواب قائمًا حتى انتخاب مجلس بديل عنه، وتزول الظروف القاهرة، وهذا يعني أنّ الشرعية الوحيدة في اليمن حاليًّا هي للمجلس، وإن طال عمره ليقترب من عشرين عامًا. البرلمان ما يزال هو المؤسسة الدستورية الوحيدة المتبقية على الساحة اليمنية، ودون تلك القوى الممثلة داخل المجلس، قوى سياسية وعسكرية بدعم إقليمي ودولي تفتقد الشرعية في السيرة والتكوين.
الحديث عن الشرعيات في اليمن معقّد وشائك، خصوصًا بعد تسليم هادي السلطة لمجلس رئاسي بطلب سعودي، وأدائهم ليمين دستورية في عدن في جلسة غير مكتملة النصاب، ولكن التعويل الآن على التسويات السياسية مثلما حصل أيام الانتفاضة الشعبية؛ بمعنى تنحية الجدل حول الشرعيات جانبًا، ومحاولة استيعاب واقع جديد أفرزته الحرب لا السياسة.
نحن اليوم أمام أسوأ واقع لتفكك وتفسّخ الدولة، وغياب تام للسياسة وحضور للقوى المسلحة فقط، واقع أصبحت فيه الأحزاب هامشًا تحضر "كمالة عدد"، والمنظمات المدنية يقتصر جهدها على التوثيق حينًا والمناصرة الحذرة أحايين أخرى.