في "مؤتمر المثقفين" (1)، المنعقد في المكلا من 1-2 أغسطس/ آب 2021، قُدِّمَتْ على مدى اليومين أربع أوراق، وسأقوم بقراءة ما توفر لدي منها؛ لأن بعض أوراق المؤتمر لم يتم توزيعها، آملًا الحصول عليها مكتوبة في وقت لاحق.
كانت الورقة الأولى هي: "مستقبل الدولة في اليمن"، لمحمد العلائي. ومستقبل الدولة في اليمن سؤال الأسئلة كلها؛ فغياب الدولة قد حول اليمن -كل اليمن- إلى نهب للميليشيات المتحاربة، وعاد باليمن إلى عصور ما قبل الوطنية والتاريخ، وجعل من اليمنيين كلهم ضحايا. فالبحث عن مستقبل الدولة هو الهمٌ الأكبر، وما قدمه الباحث السياسي النابه محمد العلائي اجتهاد سياسي من أهم ما قُدِّم في المؤتمر.
تتناول الورقة ثلاثة مفاهيم رئيسية: مفهوم المستقبل، ومفهوم الدولة، ومفهوم اليمن. يقصر الباحث العلائي مفهوم اليمن في البعد السياسي (الدولة)، وإن كان لا يغفل البعد الحضاري والتاريخي لبلدٍ وكيان وُجِدَ منذ ما قبل ميلاد المسيح بقرون.
واضح أن البحث شديد الاحتفاء والاهتمام بالمستقبل، مشيرًا إلى تلك الكيانات التي يشيع الحديث عنها عندما يكون الحديث عن جزء من أجزائها. وكلام الباحث صائب؛ فاليمن التي شهدت قيام عدة دويلات وكيانات في غير زمان ومكان كان يطلق عليها في ذلك الحين مسمى اليمن.
يقف إزاء إشكالية مفهوم الدولة، مائلًا أكثر إلى الصياغة الأدبية ذات البعد الرومانسي، مع إشارته للمفكر العربي الكبير عبدالله العروي، وهو من أهم المفكرين العرب، وكتابه "مفهوم الدولة" درس فيه إشكالية المفهوم، والأبعاد المختلفة لهذا المفهوم، لكن العلائي يحبذ -وهذا حقه- تقديم مفهومه هو، مفضلًا الميل للتعريف الشاعري للدولة، مع أن الدولة أبعد ما تكون عن هذا المعنى؛ فالدولة هي الأمة في شكل لائق كتعريف اشبنجلر- الفيلسوف الألماني، ويأتي الباحث على العديد من التعريفات، لعل أهمها تعريف ماكس فيبر؛ فالدولة هي الجهة التي تمتلك وحدها الحق في احتكار العنف.
وبعد استعراض مهم لمفهوم الدولة، وقراءة صائبة للأبعاد والدلالات المختلفة حد التناقض، يخلص إلى القول: "وبعيدًا عن عالم المفاهيم، فالدولة المطلوب الآن استشراف مستقبلها ليست سوى هذه الدولة اليمنية التي شهدنا انهيارها للتو"، وهي الدولة الآتية من اندماج دولة الشمال، والجنوب، بحسب إشارته.
في توصيفه لتحالف الدولتين: الـ ج. ع. ي، وجمهورية اليمن الديمقراطية، يشير إلى أن جمهورية الشمال تبدو أقرب للمعسكر الغربي الرأسمالي بقيادة أمريكا، بينما كان الجنوب واقعًا كلية في دائرة نفوذ المعسكر الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفيتي. ربما كان ذلك رؤيةَ القيادة الجنوبية في مرحلة معينة، ولكن القيادة السوفيتية موقفها مختلف، وربما كانت دولة الشمال نقطة التقاء القطبين؛ ومن هنا الحرص المشترك على بقائها.
يضع الباحث احتمالين لمستقبل الدولة في اليمن: إمكانية إعادة تأليف الشظايا، والأجزاء المنفصلة في إطار وطني واحد، أو عدم إمكانية ذلك، ويعلل، ومعه حق، أن العودة إلى وضع ما قبل الوحدة سببه نشوب الحرب؛ فهو يرى أن قرب العهد بزمن الانقسام ما يزال حاضرًا في أذهان من عايشوا زمن الوجود البريطاني، ووجود أكثر من 25 سلطنة. والتعليل صحيح، والقراءة صائبة، كما أن الخطورة -كل الخطورة- تكمن في استمرار الحرب، وطول أمدها؛ لأن معنى ذلك غرس العداوات والأحقاد، وتعميق الفرقة، وتمزيق النسيج المجتمعي، وخلق كنتونات، ومصالح خاصة لا صلة لها بالإرادة الوطنية العامة.
وهو يرى أن إعادة تأليف، وخلق كيان سياسي، يتم إما عبر السيطرة والإخضاع، وهو غير ممكن، أو عبر برنامج توحيدي، وهو غير ممكن أيضًا حاليًّا. ورأيه صائب في الظرف الراهن، وفي ظل هدير المدافع، وقصف الطيران، والحصار الشامل، وتغوّل الصراع الإقليمي. ومن هنا، فإن مطلب وقف الحرب هو الأساس؛ فعندما تسكت الحرب، يتكلم كل شيء، وتُطرح أهم الأسئلة المغيبة؛ فإيقاف الحرب يخلق واقعًا جديدًا مغايرًا ومختلفًا، وتحليل الباحث للحالة البائسة القائمة دقيق ومهم.
يتناول الصحفي النابه فكرة الجمهورية، وطبيعة النظام الجمهوري بحب ومسؤولية رفيعة، ناقدًا شرعية الثروة في دول الخليج، ورافضًا الشرعيات التقليدية، والحق الإلهي، ويقرأ عميقًا مآسي الفقر، وشح الموارد، مشيدًا بالحالة الراهنة التي أعقبت عام 1990، وحتى العام 2011، مقللًا من مخاطر حرب 1994، وحروب صعدة الستة. والواقع أن حرب 1994، وحروب صعدة هي "كعب أخيل" في تجربة الوحدة السلمية والديمقراطية؛ فقد أعادت الحربُ اليمنَ إلى حكم الغلبة والتفرد والاستبداد.
وأخيرًا، يلقي الباحث بالمسؤولية على قصر النظر، وانعدام الصبر في إشارته للربيع العربي في اليمن، ومع اختلافنا مع الأستاذ الجليل الباحث والصحفي النابه والقدير، إلا أن ذلك لا يقلل بحال من أهمية مبحثه، وقراءته المائزة.
الدراسة الثانية: الجماعات المسلحة إطار تعريفي
وهي مبحث أكاديمي، تناول فيها الباحث نشوان العثماني، الجماعات المسلحة في طول اليمن وعرضها، ابتداء من الحوثيين (أنصار الله)، وتفريعات أجهزتهم: الأمن الوقائي، ومكتب الأمن والاستخبارات، والزينبيات، ثم المجلس الانتقالي الجنوبي، وتشكيلاته وفصائله: قوات الحزام الأمني، وقوات الدعم والإسناد، والنخبة الحضرمية، والنخبة الشبوانية، وقوات المقاومة الشعبية متعددة الولاءات، والمقاومة الوطنية، وحراس الجمهورية، وقوات العمالقة الجنوبية، والمقاومة التهامية، والحشد الشعبي، وتنظيم القاعدة، وقاعدة الجهاد في جزيرة العرب، وتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش).
"يدرس الباحث نشوان العثماني، تفاصيل دقيقة ومهمة داخل الجماعات المسلحة، وممارساتها القامعة، واتجاهاتها السياسية شديدة التخلف والجنوح للعنف".
المبحث دراسة دقيقة وعلمية تدرس تكوينات هذه الجماعات بدقة وموضوعية، متتبعة تكويناتها، ومناطقها، وتسليحها، وتعداد بعضها، وتشير بأصابع ضوئية إلى دور الإمارات العربية المتحدة في تكوين وتسليح الأحزمة الأمنية والنُّخب [العسكرية]، والمجلس الانتقالي المسلح الداعي للانفصال.
الباحث يدرس تفاصيل دقيقة ومهمة داخل الجماعات المسلحة، وممارساتها القامعة، واتجاهاتها السياسية شديدة التخلف والجنوح للعنف، يقول في مدخل بحثه القيم: "في النزاع اليمني تظهر عديد الأهداف والمسميات للجماعات المسلحة، بما فيها نزعات المقاومة الشعبية، والتحرر والاستقلال، وهي -بحسب رؤيته- لا تنطبق بموجب القانون الإنساني سوى على حركات التحرر الوطنية التي تقاتل الهيمنة الاستعمارية، والاحتلال الأجنبي، والأنظمة العربية في ممارسة حقها من أجل تقرير المصير".
غاب عن الدراسة الضافية والدقيقة التشكيلات في: تعز، ومأرب، وهي تشكيلات لا تختلف عن التشكيلات الأخرى، ومجموعة أبو العباس (عبده فارع) الخارجة من تعز، واحدة من تشكيلات مسلحة كثيرة هناك، وتتبع أكثر من جهة، شأنها شأن التشكيلات المسلحة في مأرب؛ فالجيش الوطني جرى تمزيقه وتوزّعه على أكثر من طرف، والحروب التي شُنت على العراق وسوريا وليبيا واليمن، كان هدفها الأساس تدمير كيانات هذه البلدان، وتمزيق جيوشها كتهيئة لصفقة العصر.
هامش:
(1) "مؤتمرالمثقفين"؛ مؤتمر نظمه مركز صنعاء للدراسات الإستراتيجية، وانعقد في المكلافي الفترة 1-2 أغسطس 2021