قصص نساء ملهمة في صنعاء القديمة

رائحة القهوة والتوابل ممزوجة بعرق الكفاح اليومي
عُلا السفرجل
June 3, 2024

قصص نساء ملهمة في صنعاء القديمة

رائحة القهوة والتوابل ممزوجة بعرق الكفاح اليومي
عُلا السفرجل
June 3, 2024

في أضيق أزقة صنعاء القديمة، تقدم "أمي ضبية" -كما يحلو للسكان هناك مناداتها- صورةَ كفاح يوميّ مُلهِمة بعملها بائعة في بقالة صغيرة، تعيل بواسطتها أسرة لا مصدر دخل لديها سوى هذا "الدكان" الصغير الذي دفعها الفقر للعمل فيه منذ 24 عامًا.

على بعد أمتار منها، تشارك "أمي فاطمة" زوجها الذي يبيع الشاي والقهوة والمشروبات في أشهَر سمسرة داخل صنعاء القديمة، في حين تعبر نادين (اسم مستعار) بكل فخر عن عملها بائعة للخبز و"الملوج" الشعبي، بالقول لـ"خيوط": "يجب أن يدرك من يرمقون بنظراتهم أو يعيبون خروجنا لطلب الرزق، أن العمل ليس عيبًا، ولم نقُم بأي شيء يعيبنا في عملنا".

قصص ملهِمة للنساء، ترصدها "خيوط" من أزقة صنعاء القديمة وحوانيتها التي لا يفوح منها عبق التاريخ فقط، بل وكفاح النساء، حيث تمتزج رائحة كفاحهن اليومي برائحة الحياة التي تنبض في الأسواق والسماسر، حيث القهوة والتوابل والمخبوزات.

تقول "أم فاطمة غرارة" لـ"خيوط": "كان يقول لي زوجي لا داعي لأن تنزلي السوق للعمل. رفضت طلبه، وقلت له: المرأة الحقيقية لا تتخبَّى بالبيت ما دامت نظيفة وغرضها شريف في العمل ومساعدة زوجها وأسرتها، فالعمل ليس عيبًا، العيب من سار عرض الطريق".

أم ضبيبة بائعة في إحدى البقالات الصغيرات بصنعاء القديمة

ابتسامة ممزوجة برائحة الشذاب

عند تجوُّلك في هذا المكان النابض بالحياة، تقابلك كرامة المهتدي، في العقد السادس من عمرها؛ بابتسامتها وريحانها، حيث تبيع "الشذاب" ومنتجات أخرى لتعيل أسرة كبيرة يصل عددها إلى أكثر من 15 فردًا.

تقول المهتدي لـ"خيوط": "أبيع الشذاب والريحان والعنصيف (نباتات عطرية) إلى جانب البيض البلدي. لا أستطيع أن أفعل أي شيء في الحياة اليومية، ولا أشارك المجتمع من الأهل والأقارب والمجتمع مناسباتهم، فيومي كله أقضيه في السوق".

تضيف: "خرجت إلى هنا للعمل بعد أن توفِّي زوجي قبل 20 عامًا، نشتري الريحان والشذاب والبَيض من نساء في منطقة بني حشيش (شرق صنعاء)، وقبل ذلك كنت أعمل في التوليد (قابلة)، وفي بيع الخبز".

في حارة "الطواشي"، أضيق الأزقة في صنعاء القديمة، هناك امرأة خالدة في ذاكرة المكان والناس من مختلف الأعمار؛ المرأة السبعينية "أمي ضبية" زرقاء العينين ولها من لونهما نصيب في المثابرة والهدوء والكفاح. تفتح دكانها الصغير الذي لا يزيد عرضه على ثلاثة أمتار وطوله على ستة أمتار عند الساعة السابعة صباحًا بشكل يومي دون كلل أو ملل.

يقتضي الأمر قبل ذلك التوقف عند فاطمة غرارة، التي تعمل في سمسرة وردة، وهي كما يقال لها هنا، "أم السوق" بصنعاء القديمة. تروي لـ"خيوط"، جزءًا مهمًّا من سيرتها الكفاحية، وكيف بدأت العمل وسط ممانعة شديدة من زوجها: "أنجبت عشرة أولاد وبنات وأنا هنا في نفس المكان، حيث كنت في السمسرة وانتقلت للعيش فيها تجنبًا للحِلال (مشاركة نفس المنزل مع العائلة)؛ كي أستقل بأسرتي، فيما رفض زوجي استقراري فيها مخاطبًا والدتي بالقول: امنعي بنتك من الذهاب للسوق، الشرف غالي والله يبري ذمتي".

تتابع حديثها: "رديت عليه بلهجتي الصنعانية، قلت له: أنا بنت ناس ولا أقوم بعمل غلط. وما دفعني إلى ذلك والعمل على إعداد القهوة والشاي هو أني عندما كنت أنزِلُ السوق بالخفاء بالقرب من "الخزانة" داخل السمسرة، أشاهد الأقلاص (أكواب القهوة والشاي) يتم أخذها وسرقتها، وبعضهم كان يأخذ الشاي ويذهب لغليهِ عند آخرين في السمسرة أثناء توزيع زوجي للشاي في السوق وتجميع الأقلاص، وبعدها قررت النزول للعمل، قلت في نفسي: رزقنا للناس وأنا هنا جالسة في البيت لا شغل ولا مشغلة".

في السياق، تعتبر السمسرة منشأة معمارية، تؤدي وظيفة اجتماعية واقتصادية، ارتبط ظهورها بنشوء وتطور الإنتاج الحرَفي والمهني، كما تعتبر السماسر من مكونات مدينة صنعاء، كحاضرة ومركز تجاري. 

تروي فاطمة بعض المواقف التي حصلت معها: "في يومٍ جاء زوجي وأنا فوق (الوجك)، كنت أرتعش خوفًا منه، وسألني ما بي، قلت له: افتجعت (خفت) منك، رد عليَّ باللهجة الصنعانية: ما ذلحين عتقهوي، وفعلًا بقيت أعمل معه ولم يرضَ بمفارقتي، يوميًّا ننزل سويًّا حتى لو كنت متعَبة، حتى كبر أولادي العشرة ليستمروا بالمحافظة على رزقنا".

تضيف: "عملت أيضًا في إعداد وخَبز الملوج (نوع من المخبوزات)، وبيعها في السوق، وقمت بتنقية الزبيب واستكفيت بأبنائي وبناتي (عملت على إعالة أولادي)، وتكفلت بكل شيء مع زوجي، حيث عملنا معًا في صناعة القهوة بالبرموص (نوع من الأواني النحاسية) وصداه الذي كان يصعد للأدوار العلوية في السمسرة (شقة فوق المقهى)، حيث كنا نقيم منذ 50 عامًا، قبل أن ننتقل إلى منزل آخر"، وهي تحظى باحترام وتقدير كل من يعمل في أسواق صنعاء القديمة. 

كرامة المهتدي - بائعة الشذاب في أحد أزقة صنعاء القديمة

مساعدة الأم بدلًا عن الزواج

من أشهر أسواق صنعاء القديمة؛ سوق الملح، الأكثر ازدحامًا، هنا في إحدى أزقّتهِ الغنية برائحة المأكولات الشعبية التي تُصنع بالأيادي الصنعانية، أهمّها الخبز "الملوج" المنزلي، ليباع في مطاعم السلتة والفسحة.

وتبيع كثير من النساء الخبز في هذا المكان، منهن (نادين) التي عملت في صناعة وبيع (المَلُوج) منذ سن مبكرة، حيث لم يكن هناك من يعيلها هي وأمها بعد وفاة والدها.

تقول: "اشتغلت ببيع الخبز والملوج منذ أن كنت صغيرة؛ لأنه لا يوجد من يعولني أنا وأمي، وهي من كانت تعمل من أجلنا، حيث تعمل في هذا المجال، وجدتي كذلك"، مضيفةً: "عمري اليوم 23 عامًا، فيما كنتُ أدرسُ في المدرسة، وتركت تعليمي في الصف السادس كي أعمل وأساعد أمي، ولم أفكِّر في مستقبلي حتى اللحظة، وأفكر في أمي ولم أقبل بالزواج كي لا أتركها".

ليس ببعيد عن هذا المكان في صنعاء القديمة، وتحديًدا بجانب بوابة باب اليمن الشهير، تبيع أم سعيد اللبانَ البلدي والفلفل الأحمر، كما تعيل فاطمة محمد أربعة أبناء، حيث تعمل جوار مدرسة الشيماء بحارة الدار الجديد في بقالة عبارة عن صندقة خشبية صغيرة توفر فيها احتياجات الطالبات في هذه المدرسة.

في حارة الدار الجديد كذلك، هناك حبيبة التي تعمل في بيع الخضار منذ نحو ثلاث سنوات، بعد أن كانت عاملة في منازل.

أمٌّ لم يُثنِها الحزن

في حارة الطواشي، أضيق الأزقة في صنعاء القديمة، هناك امرأة خالدة في ذاكرة المكان والناس من مختلف الأعمار؛ المرأة السبعينية "أمي ضبية" زرقاء العينين ولها من لونهما نصيب في المثابرة والهدوء والكفاح.

تفتح دكانها الصغير الذي لا يزيد عرضه على ثلاثة أمتار وطوله على ستة أمتار عند الساعة السابعة صباحًا بشكل يومي دون كلل أو ملل. تقول لـ"خيوط": "تُوفي زوجي وأولادي السبعة لا يزالون صغارًا، حيث دفعني ذلك إلى الكفاح من أجلهم، وكنت أخبز الخبز، ونبيعه في سوق الملح صباحًا، وفي المساء أظل في دكاني أشقى على عيالي، وأعمل من أجل أولادي الأيتام".

تتوقف بُرهة، قبل أن تواصل حديثها بلهجتها الصنعانية، بالقول: "والله، يا بنتي، لا ذبحنا ولا قدحنا إلا ملانها والماء"؛ المثل الذي يدل على ستر الحال ولا يزيد على ذلك.

ها هي اليوم تعول أسرتها مع أولاد ابنها المتوفَّى، بالرغم من تحفظ أهالي صنعاء القديمة من خروج المرأة وعملها في مجالات لا يخوضها سوى الرجال، وحتى مجالات أخرى عدا أن تكون معلمة أو طبيبة، لكن رغم ذلك لم يضايقها أو يمنعها أحد، بل وجدت -كما تؤكّد- كل التعاون معها؛ كونها تعمل من أجل إعالة أسرتها، فيما كان ابنها من يشتري ويوفر لها احتياجاتها السلعية للدكان قبل أن يُتوفَّى في حادث مروري تعرض له في طريق (ذمار-صنعاء)، وأجبرها على إغلاق الدكان مدة 7 أشهر حزنًا عليه.

غرقت "أمي ضبية" بالديون، وفق حديثها، بسبب الفترة التي أغلقت فيها الدكان، وتشير إلى تأثير الغلاء وضعف المردود في الأشهر الأخيرة، حيث تصف حركة البيع والشراء بأنها "كالقطارة"؛ بسبب تردي الأوضاع المعيشية للكثير من الناس.

لكنها لم تستسلم، واستمرت بعد تعافيها من فترة حزنها ومرضها بسبب وفاة ابنها، وعادت مرة أخرى لتكافح على أسرتها في دكانها، وبنفس التعامل مع الأطفال والجميع، ما يجعلها نموذجًا حيًّا لكل النساء في الكفاح والإعالة والمثابرة، والحفاظ على وقار بيتها وأسرتها في صنعاء القديمة ذات الطابع التقليدي المحافظ.

•••
عُلا السفرجل

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English