سؤال حيّرني ويحيرني منذ فترة، وهو: من يصنع الطغاة؟ وما هي أسباب تفشي جنون العظمة أو بالأصح جنون السلطة بكل من يمسكها؟ ويمكن أن أعيد السؤال بصيغة أخرى، فأقول: ما هي أسباب هذا المرض المستشري لدى حكام الدول المتخلفة، وبخاصة العربية والإسلامية؟ وفي هذا العصر الذي صارت معظم شعوب العالم تحتكم إلى الديمقراطية، وتحكم بالدساتير المقدسة باعتبارها القانون الأعلى الذي يحدّد القواعد الأساسية لشكل الدولة وصلاحية الحاكم، وتنظيم السلطات والفصل بينها؟ فمن صفات الدساتير في العالم الثبات، فلا يجوز أن تخضع لنزوات الحكام، ففي أمريكا الدستور ينص على استمرار الرئيس السابق، يمارس صلاحياته مدة ثلاثة أشهر؛ الفترة التي كانت كافية لجمع الأصوات من الولايات، إلا أن التقنية ووسائل الإعلام والتواصل صارت تحقق الفرز وتحديد الأصوات في دقائق، ومع ذلك فإنهم لا يزالون يعملون بنص هذه الفقرة، رغم انتفاء السبب.
بينما في يمن الحكمة والإيمان، تم تغيير دستور دولة الوحدة أكثر من خمس مرات، ليُتاح للرئيس الأسبق علي عبدالله صالح، أن يتجاوز تحديد مدة رئاسته من فترتين إلى فترة مفتوحة لا نهائية، حتى إنّ أحد جلاوزته طالَبَ بخلع العداد، أسوة بشعار السوريين (حافظ الأسد رئيسنا إلى الأبد).
نعود إلى التساؤل؛ هل نزعة الفرعنة -الظلم- ذاتية كما ذهب أبو الطيب المتنبي، الذي اعتبر الظلم طبعًا بشريًّا، كلّ الناس مجبولون عليه، فقال:
الظُّلمُ مِن شِيَمِ النُّفوسِ فإن تَجِد ذا عِفّةٍ فَلِعِلّةٍ لا يَظلِمُ
هناك من أرجع نزعة الفرعنة إلى المجتمع، مستشهدًا بطفولة الطاغية ستالين البائسة، ومعاناة صدام حسين من قساوة زوج أمه، وهناك من قال إنّ الفرعنة نزعة لدى الحاكم تتأثّر بفكرة السلطة جراء معاناته من جبروت مَن سبقه من الحكّام الذين تزلّف لهم ونافقهم وتحمّل إهانتهم.
والحاشية لها دور في تضخيم الحاكم، فتظل تنفخ فيه كالبالون، فيصير بعيدًا عنهم ولا يعود في مقدورهم الوصول إليه، فقد تولّد لديه أنه مختار من السماء، وأن حركاته وسكناته بتوفيق من الله، وأنه الأفضل من بين مَن خلَق الله لقيادة أمته، ويزيد من هذا الشعور ما يكرّسه الإعلام الذي يُطلق عليه ألقابًا وصفات تعزّز مركزه وسلطته.
إذن، فإنّ من يعتلي سدة الحكم بلا مؤهلات وبغير استحقاق، حالما يصل، يتلفت يمينًا وشمالًا، فيبدأ بالقضاء على الكبار الذين يشعر أن بقاءهم خطرٌ على حكمه، وسرعان ما يتجمع حوله الجلاوزة، والمنافقون، ويظهر الانتهازيون والمنافقون، ومثال ذلك ستالين الذي ألّه لينين، فأنزل "النياشين" التي تحمل صور لينين، وفرض تعليقها في صدور أعضاء الحزب، ونصب تماثيل له في الميادين ومداخل المدن، ورغم أنّ ذلك وافق هوى لدى لينين، فإنه كان يحذّر الرفاق من خطورة ستالين، بل قيل إنه أوصى بأن لا يخلفه؛ لأنه سيتجبر على الحزب والشعب، ومهما كانت الأسباب التي تدفع صنّاع الطغاة، فإن لدى الانتهازيين المقدرة على إقناع الزعيم القائد بأنه فلتة الزمان، وأنّ كلامه درر وحِكَم منزَّلة لا يرتقي إلى مستواها كلام الآخرين.
ومع مرور الوقت، جنونُ العظمة يقود الحاكم إلى الشعور، بأنه مختار من الله، وأنه الحاكم الأقوى الذي يَسأل -بفتح الياء المعجمة- ولا يُسأل -برفع الياء المعجمة- ويجب أن يكون مسموع الكلمة، وخُطبه تُطبع وتوزع وتعمم، ويتم فرضها دروسًا تثقيفية في كل مرافق الدولة، وأنه القائد المطاع المهاب المهيب مسموع الكلمة، والقائد الملهم والمنقذ والمخلص الذي قيضه الله للشعب، وهو الذي تجمعت فيه صفات تفرقت في كل البشر!
من الأهمية أن يكون هناك آليات للحد من سلطة الحاكم، وضمان حكم عادل وديمقراطي يحقق مصالح الشعب، ولا يسمح بانتهاكات الحقوق الأساسية أو سوء الاستخدام.
وغنيٌّ عن القول، أنّ جنون السلطة أخطر أنواع جنون العظمة، فهو صورة ممتلئة بفراغات مرت عليها ريشة الزمن، فلوّنتها بأصباغ متلاحقة: حب الذات، وفتنة الألقاب: الرئيس، والقائد، والملهم، وصاحب الفخامة، وصاحب الولاية، وصاحب الجلالة، وصاحب الزعامة، وابن اليمن البار، والرائد المهيب والمهاب، والمنقذ... إلخ.
وفي العالم العربي، هناك شعارات نمطية، مثل: "بالروح، بالدم، نفديك يا زعيم"، وأن الكل يأتمر بأمره، يحركهم بأنامله يمينًا ويسارًا وخلفًا وأمامًا، يُبدي لهم غضبه ورضاه بحركة رموشه وغمزات عينيه، فهو يخطب ويظن أنه يقول كلمات تتنزل عليه من السماء، بينما كل العقلاء يسخرون ممّا يقول، ويتعجبون من توق ذلك الحاكم إلى التألُّه، وحين يتدحرج قائد الضرورة هذا، يتعرى كركام من الجليد.
والأدهى أنّ حكام هذا العصر لا يتعظون بمصير أسلافهم، ولا بمصير بعضهم بعضًا، حيث تساقطوا الواحد تلو الآخر، وكان كل من لم يأتِ عليه الدور، يقول إنّ بلده وشعبه غير بلد وشعب مَن سقط من الحكام فيه.
فهذه الحقائق -حقائق السقوط- لا ينظر إليها الطاغية الذي لا يزال متربعًا على سدة الحكم؛ ذلك لأنها كالشمس لا تحب العين النظرَ إليها، فهل هو سوء حظهم أو سوء العاقبة؟! ورغم خروجهم من المناصب، فإن نفوسهم لا تزال تحدّثهم بالعودة للحكم تحت تأثير تلك الشعبية التي أحاطهم بها المنافقون وإعلامهم الجوبلزي -نسبة إلى جوبلز وزير إعلام هتلر- وبفعل الزوار من المتملقين والمنافقين الذين يزينون لهم الطريق ويفرشونها بالورود والرياحين والفل والياسمين، يستمرون في الحلم بالعودة.
وهناك حكمة سمعتها من القاضي عبدالرحمن الإرياني، حين زرته بعد عودته من منفاه الاختياري في اللاذقية بسوريا، في منزله بتعز، حيث صادف وجود القاضي أحمد صبرة الذي سأل القاضي عبدالرحمن؛ هل كان أثناء حكمه يتأثر بالمنافقين الذين كان يعرفهم بحكم أنه عاصَرَ أئمة ثلاثة -يحيى وأحمد والبدر- وعاصر رئيس الجمهورية المشير عبدالله السلال، وعرف أولئك المتملقين والانتهازيين المنافقين.
فكان جواب القاضي عبدالرحمن واضحًا صريحًا وصادقًا، فقال إنه في أول سنة من حكمه كان يتجنب المنافقين، ولا يطلع على تقاريرهم، بل كان يتعمد إقصاءهم ويتجاهل كلامهم ولا يعيرهم الاهتمام. وما هي إلا سنة أو يزيد، فإذا بمراكز القوى من المشايخ والضبّاط الذين استغلوا تواضعه، يفرضون عليه وزراء وتعيينات، ولا يحترمون خصوصياته، فيدخلون عليه حتى ولو كان في غرفة نومه، فحينئذٍ بدأ يميل إلى من يطريه، ويميل إلى سماع مديحهم له وإطرائهم، وأصبح يُدْنِيهم من مجالسه، ويطرب لسماع كلامهم، وفي آخر حكمه صار يعتبر من لا يطريه وينافقه عدوَّه.
إذن، جنون العظمة داء عضال، لا يسلم منه حتى العلماء؛ ولذلك يعتبر علماء الاجتماع السياسي، أنّ بقاء الحاكم في المنصب أكثر من دورتين انتخابيتين يؤدّي إلى هذا الجنون الذي يصاب به الحكام، فيَعتبر الكرسي حقًّا من حقوقه يورثه لأولاده وأحفاده من يومه إلى يوم الدين.
إنّ جنون العظمة خطيرٌ ويؤدّي إلى تصرفات غير متوازنة ومُضرّة بالشعب والدولة. ومن الأهمية بمكان، أن يكون هناك آليات للحدّ من سلطة الحاكم، وضمان حكم عادل وديمقراطي يحقّق مصالح الشعب، ولا يسمح بانتهاكات الحقوق الأساسية أو سوء الاستخدام.