"عانى والدي البالغ من العمر 74 عامًا، من ارتفاع مفاجئ في ضغط الدم، تم نقله إلى مستشفى حكومي، حيث أخضعه طبيب الأمراض الباطنية لعلاجين، دون أن يُخضعه لفحوصات لتحديد مرضه، فتسبب له أحدهما بإرهاق شديد. تناول الوالد أول حبة دواء دون أعراض وفي اليوم التالي شعر بألم لا يُحتمل في الكلية، نُقل على إثر ذلك إلى مستشفى خاص حيث خضع لفحوصات وأشعّة تلفزيونية، وكان طبيب الكلى غير موجود فأعادوه للبيت"، هكذا تروي أم يونس التي تعيش خارج اليمن، قصة مرض والدها.
لم تجلس أم يونس مكتوفة الأيدي، قامت بالتواصل مع الدكتور عمر الفقيه أحد المشرفين على مجموعات مبادرة "أنا طبيب، أنا معك"، فساعدها للتواصل مع طبيب مختصّ يعيش في اليمن تولّى متابعة والدها بشكل دقيق، أبدى الطبيب اهتمامًا كبيرًا به، ولم يبخل بالإجابة عن أسئلة أفراد العائلة حول صحة والدهم. كان هذا الطبيب هو أيضًا فرد من شبكة المبادرة.
ولادة المبادرة
الدكتور محمد البعداني طبيب أسنان وأحد مؤسّسي مبادرة "أنا طبيب... أنا معك"، يُشير إلى أن المبادرة أتت لتوحيد الجهود أثناء انتشار جائحة كورونا في اليمن خاصة. تهدف المبادرة إلى تقديم المساعدة للمرضى وتخفيف الضغوط عن المستشفيات الحكومية وإعادة الثقة بالأطباء والكادر المحلي اليمني، وتصحيح مفاهيم المواطنين حول وباء كورونا وكيفية التعامل معه، وتوجيه وتوعية الناس بأهمية الذهاب إلى المستشفيات وعدم إخفاء الأعراض وعدم التسبب بزيادة انتشار هذا المرض، إذ إن 80% من المصابين بفيروس كورونا لا تستدعي حالاتهم الخضوع للعلاج في المستشفى، وإنما يمكنهم المكوث في المنزل واتباع إرشادات الأطباء وإرشادات الحماية.
يُقدِّر الدكتور البعداني أنّ الأطباء في اليمن يبذلون جهودًا كبيرة جدًّا بأقل الإمكانيات الموجودة، كون مستشفيات اليمن تفتقد آلات أشِعّة محورية مثلًا، وتأخّر وصول فحص PCR الخاص بتشخيص حالات كورونا إلى اليمن وبكميّات محاليل محدودة في جميع المحافظات، وقلة عدد المستشفيات المركزية التي تحتوي على فحص PCR، في حين لا تسمح الظروف المالية لمعظم المواطنين بزيارة المستشفيات الخاصة"، ولفت إلى أنّ اليمن خسرت بسبب كورونا ما يقارب مئتي طبيب، كانوا من الأفضل والأكثر كفاءة في مختلف التخصّصات.
متطوعون لمساندة المرضى
تتميز مبادرة "أنا طبيب... أنا معك" بطابعها غير الربحي، الدكتور سهل الإرياني أخصائي طب مجتمعي ووبائيات، والدكتور محمد الجرادي أخصائي صحة عامة، كانا من أوائل المنضمين للمبادرة، وقد أكدا على أن الأطباء لا يتقاضون أي بدل مالي لقاء الاستشارات، بل إن الغاية الوحيدة هي تأمين منفعة المرضى.
يشرح الدكتور محمد الجرادي بأن الطب الإلكتروني أو "الطبابة عن بُعد" ميدان حديث وُلد في دول غربية لمتابعة ذوي الأمراض المزمنة، هذه المتابعة ممكنة فقط بعد أن يقوم المريض بزيارة الطبيب الذي يضع تشخيصًا للمرض بعد الكشف الجسماني على المريض.
من أهداف المبادرة أيضًا، وفق الدكتور البعداني، التصدّي لشائعة إبرة الرحمة والتي انتشرت نتيجة لنشر صورة على وسائل التواصل الاجتماعي تحت عنوان "سري للغاية"، تضمّنت الإشاعة ادعاءً بأن قرارًا صدر عن وزارة الصحة العامة والسكان في صنعاء، يتم بموجبه حقن من يُثبت إصابته مخبريًّا بكورونا بـ"Lethal Injection" (حقنة مميتة)، ويُكتب في شهادة الوفاة أنه مات بمرض آخر غير الكورونا. بالطبع تبيّن بعد فترة أن الصورة مفبركة، لكن أثر الشائعة السلبي ما زال منتشرًا بين عدد كبير من المواطنين.
من جهة ثانية، لفت الدكتور البعداني إلى أن أطباء المهجر ساهموا في نقل خبراتهم لأطباء الداخل، خاصة أنهم انطلقوا في معالجة المصابين بالفيروس قبل انتشاره في اليمن.
استشارات طبية عن بُعد
ظهرت مبادرة "أنا طبيب... أنا معك" في شهر مايو/ أيار 2020، تم الترويج لها عبر وسائل التواصل الاجتماعي بين الأطباء اليمنيين داخل البلاد وخارجها، وبسرعة كبيرة انضم إليها عدد كبير من الأطباء الذين سجلوا أرقام هواتفهم ووضعوا أنفسهم في تصرف المرضى والمبادرة. لاقت المبادرة نجاحًا فاق التوقعات، وقدّم الأطباء المشاركون فيها نحو 15 ألف استشارة في عام 2020. مع تقدُّم الوقت كان فريق الأطباء المنضوين في إطار هذه المبادرة يتزايد، فارتفع عددهم خلال عام من تسعين إلى أربع مئة طبيب من جميع الاختصاصات. يجيب الأطباء عن أي استفسار طبي، ويتم تقسيم طلبات الاستشارة الواردة إلى المجموعة وتحويلها للطبيب المختصّ حسب البروتوكولات المتعارف عليها في العالم.
الهدف من المبادرة إذن هو تقديم الاستشارة أولًا وليس معالجة المرضى عن بعد، فذلك أمر شديد الصعوبة، لذلك وعلى ضوء إجابات المريض عن الأسئلة المطروحة عليه يتم توجيهه بالإجراءات الواجب اتّباعها.
في هذا الإطار، يشرح الدكتور محمد الجرادي بأن الطب الإلكتروني أو "الطبابة عن بُعد" ميدان حديث وُلد في دول غربية لمتابعة ذوي الأمراض المزمنة، هذه المتابعة ممكنة فقط بعد أن يقوم المريض بزيارة الطبيب الذي يضع تشخيصًا للمرض بعد الكشف الجسماني على المريض. "الطبابة عن بعد" أو بالأصح متابعة المريض عن بُعد ممارسة معتمدة في دول كالولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا والصين وغيرها، ومع ظهور Covid-19 توسّع اعتماد هذا النهج، وعمدت سلطات بعض الدول إلى سن تشريعات تنظم هذه الممارسة. تبين إحصاءات مركز السيطرة ومكافحة الأمراض الأمريكي CDC زيادة 154% في عدد الحالات التي تلجأ إلى "الطبابة عن بعد" بين عامي 2020 و2021.
نجاح ومصاعب
مع تقدم الوقت يزداد نجاح مبادرة "أنا طبيب... أنا معك"، إلا أن هذا النجاح لم تكن دونه صعوبات. من التحديات التي واجهها الأطباء المتطوعون ارتفاع عدد المرضى السائلين عن استشارات طبية، ما سبب إرباكًا لبعض الأطباء الذين انشغلوا طويلًا بهذه الاستشارات، فيما لم يدرك بعض المرضى ضرورة الالتزام بالنصائح المقدّمة لهم، فيما كان مرضى كثيرون يقدمون معلومات ناقصة عن حالاتهم الصحية.
يشيد المواطنان إسماعيل القباطي وعلياء الحضرمي بالمبادرة، كونها خفّفت عنهما عناء البحث عن طبيب والانتظار في العيادات أو المستشفيات، واختصرت الوقت والجهد للموظفين، ووفّرت تكاليف المواصلات والمعاينة والفحوصات في ظلّ سوء الوضع الاقتصادي في اليمن، فضلًا عن أن الاستشارات متاحة في أي وقت. إلا أن العدد الكبير لطالبي الاستشارات يجعل الأطباء غير قادرين على الرد بسرعة على بعض المرضى، لذلك فإن المواطن محمد س. يعتقد أن انشغال بعض الأطباء وتأخّرهم في الرد له نتائج سلبية بعض الشيء، وهو إذ يشيد بالأطباء المتطوعين في المبادرة، يرى أن الاستشارة عن بعد في اليمن ممارسة طبية تحتاج إلى تطوير.
* أُنجِزت هذه المادة في إطار برنامج تدريب يضم صحافيين من سوريا وفلسطين/غزة واليمن والسودان، من تنظيم "أوان" وبدعم من منظمة "دعم الإعلام الدولي (International Media Support)".