الأطراف اليمنية المغيبَّة

هل استوعبت اللعبة وترتيبات التسوية القادمة؟
د. أحمد سنان
April 28, 2023

الأطراف اليمنية المغيبَّة

هل استوعبت اللعبة وترتيبات التسوية القادمة؟
د. أحمد سنان
April 28, 2023
الصورة ل: شهدي الصوفي - خيوط

لحظة اندلاع الحرب الأوكرانية، التي اشتعلت قبل أكثر من عام، قلنا إنّ العالم على أعتاب تحولات ومتغيرات جيوسياسية عميقة. هذه الحرب ستصير واحدة من الحروب التي يستذكرها التاريخ، لأنّ مقدماتها تقول أنّها ستُحدث تغييرًا بنيويًّا شاملًا، سيعيد تشكيل العالم على نمط مختلف من التحالفات والتكتلات الاقتصادية والعسكرية، وستتغير بموجبه مفاهيم العلاقات الدولية. وقد يستمر الحديث عن شمال وجنوب وشرق وغرب، بل (أفرو-أوراسيا، وأورو-أمريكا). هكذا يتحدّد الاتجاه نحو إعادة تقسيم العالم، وبناء فضاء جيوسياسي يتجاوز حدود القوة السابقة ومفهومها ومجالات الهيمنة المتعارف عليها.

خلال الأسابيع الماضية، رأينا كيف أقدمت روسيا والسعودية ودول أخرى، في خطوةٍ مفاجئة، على خفض مستوى الإنتاج بمقدار 86 ألف برميل يوميًّا، وأدّى ذلك الخفض إلى حدوث ارتفاع ملحوظ في سوق الأسواق العالمية، في الوقت الذي كان الغرب يسعى فيه للضغط على دول أوبك لزيادة الإنتاج لتعوض النفط الروسي الذي عمل على تسقيف أسعاره بل ومنع روسيا، إن أمكن، من تصدير نفطها بهدف إضعافها اقتصاديًّا واستنزافها عسكريًّا في أوكرانيا. لكن من جهة ثانية، يبدو أنّ الكثير من الدول قد شعرت بالمخاوف من تحول هذا التكتيك الغربي إلى وسيلة معتادة تستخدم ضدّ أيّ دولة وفي أي وقت. من هنا ندرك أنّ خطوة أوبك هي بيان إفصاح عن تلك المخاوف، حتى لا تصبح كل دولة هدفًا محتملًا قادمًا للغرب. إذن، هل العالم مقبلٌ على حرب كونية ثالثة منطلقة من أوروبا أيضًا، خاصة بعد هذا التصعيد المتعمد حول أوكرانيا، وتجاوز جميع الخطوط الحمراء التي كانت تمثل حدًّا فاصلًا بين العقلانية واللاعقلانية؟

تحرك الدماء في الملفات 

لم يؤدِّ التصعيد الأوروبي إلى احتواء روسيا بل جلب نتائج مغايرة تتخطى القواعد والمحظورات الغربية. وبدلًا من أن تنزوي الصين بعيدًا عن حلبة الصراع العالمي كما اعتادت، إذا بها تقتحم عن تصميم ذلك المعترك جنوبًا وشرقًا، وبدلًا من أن تنصاع الهند لموجهات تحالفها مع أمريكا، اختطت لنفسها طريقًا أقرب لموسكو منها لأمريكا. كما كانت تطورات العلاقات الإيرانية السعودية تحولًا استراتيجيًّا له مدلولاته القريبة والبعيدة. كثيرٌ من خيوط اللعبة في منطقة الشرق الأوسط، عادت لتسلك مسارها الطبيعي، وتتجمّع في المنطقة ذاتها. هل هذا يعني إيذانًا بنهاية هيمنة نظام القطب الواحد، وأننا نتجه صوب تعددية قطبية، وليس ثنائية، كما كان الحال بعد الحرب العالمية الثانية؟

يتمثل الحدث الأكثر درامية في السياسة الدولية في الشرق الأوسط، في توقيع كلٍّ من إيران والسعودية بوساطة صينية، اتفاقيةً لاستئناف العلاقات الدبلوماسية وتنفيذ الاتفاقات الاقتصادية والأمنية البينية السابقة. وقد علقت مجلة ""The Intercept" الأمريكية على ذلك، بالقول: "لقد مكّنت عقود من السياسة الخارجية الأمريكية العسكرية في الشرق الأوسط، الصينَ من لعب دور صانع السلام، في حين أنّ واشنطن عالقة وغير قادرة على تقديم أكثر بكثير من صفقات الأسلحة والضمانات الأمنية غير المقنعة بشكل متزايد".

ما الذي يجري على الساحة العالمية والإقليمية؟ لماذا خفضت أوبك إنتاج النفط؟ ولماذا حركت الولايات المتحدة غواصة نووية إلى الشرق الأوسط؟

ولاحقًا، عمدت الولايات المتحدة لإرسال غواصة نووية لتنضم إلى قوام الأسطول الخامس المرابط في البحر المتوسط مع جملة التحركات والتغيرات الميدانية في المنطقة. وقد ربط بعض المراقبين هذا التحرك بالاتفاق السعودي الإيراني، ذلك يشير إما إلى أنّ الاتفاق يشكّل خطرًا على الدولة العبرية، وإما أنّ الولايات المتحدة قد استنفدت الحاجة من استخدام البعبع الإيراني في وجه دول الخليج، وقررت بالتالي توجيهَ ضربة عسكرية للقطاعات الحيوية الإيرانية بتخطيط ومشاركة إسرائيلية، أو العاملين معًا. بينما يذهب آخرون للاعتقاد بأنّ الغرب قد تجاوز كل الخطوط الحمر في الحرب الأوكرانية، ولم يتبقَّ أمام روسيا إلا السلاح النووي الذي قد تلجأ إليه إذا ما ضيَّق الغرب الخناق على خياراتها، وبالتالي فإنّ توجيه السلاح النووي الأمريكي نحو الشرق الأوسط سيكون له عدة أهداف في آن واحد. يكمن الهدف الأول في تهديد القوات الروسية في سوريا، بتعزيز القوات الأمريكية فيها، والثاني فهو تهديد العمق الإيراني وحماية إسرائيل في هجماتها ضدّ الأراضي السورية، ويكمن الهدف الثالث في جعل جنوب روسيا تحت التهديد النووي. 

عند إعلان توقيع الاتفاقية، قلنا إنّ الأمر متروك لظهور نوايا البلدين لمعرفة مدى جديتهما في الأمر. لقد أظهرت الخطوات اللاحقة أنّ الدولتين فعلًا في عجلة من أمرهما لإنجاز ما اتُّفق عليه، بل وتجاوز الأمر ذلك إلى دعوة الرئيس الإيراني لزيارة السعودية، ودعوة العاهل السعودي لزيارة طهران.

غداةَ التوقيع على اتفاق تطبيع العلاقات السعودية الإيرانية، تحركت الدماء في ملفات إقليمية عديدة، وبدا أنّ الحياة تدبّ فيها بل وبخطوات متسارعة، وقبل التوقيع على اتفاقية بكين.

خيار اليوم المختلف

في مقال لنا في هذا الموقع، لاحظنا أنّ الرياض تذهب لـ(إدارة عمليات تفاوضية متكررة مع إيران وأنصارالله (الحوثيين)، يغيب عنها "مجلس القيادة" والعميقون جدًّا في معسكره). زيارات متبادلة بين أنصار الله (الحوثيين) والمملكة، ظاهرها قضية الأسرى، وباطنها ترتيبات ربما تشبه ترتيبات مصالحة 1970، بين "الملكيين" وجماعة 5 نوفمبر 1967. وليس من المستغرب أنّ هناك زيارات ومفاوضات خلف الجدران لا نعلمها، لكن المؤكّد أنّ تغييرات جوهرية تحدث بالفعل في الملف اليمني برعاية عمانية. 

لقد قطعت المفاوضات بين السعودية وأنصارالله (الحوثيين) حول تسوية ملف الحرب، مراحلَ جدًّا متقدمة، بل وتفيد المصادر أنّ مسودة الاتفاق النهائي حول الهدنة وفتح الطرقات وحتى التسمية البديلة لـ(تعويضات الحرب)، وطريقة الدفع، قد أصبحت جاهزة وتنتظر بعض الأمور الإجرائية فقط، كما سربت المصادر أنّ دعوة سعودية وجّهت إلى رئيس المكتب السياسي لـ"أنصارالله"، لزيارة السعودية.

لقد كنّا مطمئنين في تحليلنا للأزمة المستحكمة في اليمن، أنّ الحل ليس بيد أي طرف داخلي، ولو ادّعى ذلك، وقد برهن سيرُ الأحداث على صواب ذلك، ولكنّنا من باب النصح، ذهبنا للقول: إنّه "سيكون على كل الأطراف المتصارعة الخروج من إسار التواكل على الآخرين في حلّ مشاكلهم وتمكينهم من السلطة على جثث المواطنين. سيكون عليهم البحث عن حلٍّ شامل لهذه الأزمة داخليًّا، لكن هذا يتطلب منهم شجاعة أدبية وأخلاقية".

لقد استنتجنا من التجربة التاريخية للعلاقات اليمنية السعودية وطبيعة سيرورتها، أن ثماني سنوات هي (الزمن القياسي الذي تستوعب بعده السعوديةُ حجمَ ورطتها في اليمن ثم تبدأ بالتفكير بمخرج غير مخزٍ).

لكن اليوم الخيار مختلف جدًّا؛ تغيرت المفاعيل والأطراف، ووحدها بقت السعودية في نفس المستنقع. وقد أجمع الخبراء على أنّ (السعودية وإيران تصفيان حساباتهما في اليمن. إذن، لا مندوحة من جمع الخصمين أولًا للاتفاق على إيقاف الحرب، وتلقائيًّا ستجتمع الأطراف المحلية؛ لأنّ التهديد بقطع التمويل كفيل بتسوية المسألة).

وهكذا، بفضل الوساطة الصينية المستندة على مبادئ ومفاهيم ومقاربات جديدة للعلاقات الدولية، اجتمعتا إيران والسعودية، وقررتا تسوية خلافاتهما. وأصبح الحديث عن إنهاء وضع الحرب في اليمن أكثر قابلية لأن يكون مسموعًا.

وقد تجلى ذلك في الخطوات المتسارعة في مختلف الملفات التي ظلّت بانتظار انفراج العلاقات بينهما كي تُستكمل، جرت وتجري دورات المفاوضات، بما فيها قضية الأسرى خارج إطار ما سمي بالمرجعيات الثلاث، وحتى القوى التي ظلت تدور في نفس الدائرة القديمة "المبادرة الخليجية، ومخرجات الحوار، وقرار مجلس الأمن"، أدركت أنّ (مسار استمرار الحرب قد تأكّد فشله. وحتى إنّ كثيرًا من الأطراف الدولية تحدّثت جهارًا عن ضرورة البحث عن أسس أخرى لإحلال السلام، بيدَ أنّ الأطراف التي تخوض الحرب لم تستوعب القضية بشكل جيد).

لقد أشرنا منذ وقت مبكر، إلى أنّ القيادات اليمنية المتحاربة معنية بصورة عاجلة، بالعمل على إنهاء الحرب قبل أن يقدّم التحالف نفسه على الانسحاب بصورة عشوائيةٍ تخلق مزيدًا من الصراعات والصعوبات. وكنّا نظن أنّها تدرك أهمية حدوث ذلك قبل نشوب أي نزاعات إقليمية أو دولية جديدة؛ لأنّ ذلك سيحد إلى حدٍّ بعيد، من خياراتها السياسية والعسكرية، هذا السيناريو ما زال قائمًا فيما لو أصرّ البعض على أنّ الحرب هي وسيلته المفضلة.

يبدو أنّ إيران والسعودية اتفقتا على ضرورة إطفاء الحرائق في المنطقة جملة واحدة، فزيارة وزير الخارجية السوري للسعودية تعطي أكثر من انطباع بسبب انعقاد القمة العربية فيها، ومع أنّ بعض الدول الخليجية سبقت السعودية بإعادة العلاقات مع دمشق، غير أنّ العلاقات السورية السعودية لها رمزية مختلفة في هذا الظرف، فالسعودية ربما تكون الوحيدة التي زجت برجال مخابراتها في الساحة السورية، وهي الأكثر دعمًا للتنظيمات المسلحة، وفيها تشكّلَ الكيان السياسي لها، ودعاتها من شباب ما سُمّي بالصحوة، لعبوا دورًا فعالًا في تأجيج النزعة الإرهابية في سوريا.

تحسن العلاقة السعودية الإيرانية أيضًا، تحمل رمزية دينية محمولة على المذهبين السني والشيعي، وضرورة رأب الصدع في رؤيتهما لقضايا المنطقة، وخاصة الصراع الصهيوني الفلسطيني. هذا إلى جانب رمزية الرغبة السعودية والإيرانية في الانضمام لمجموعة (بريكس). 

إذن، هل حسم أمر التوازن الإقليمي في المنطقة؟ وماهي الوعود الإيرانية للسعودية في مختلف الملفات والملف اليمني على وجه الخصوص؟ وهل مباشرةُ تبادلِ الأسرى ثمرةٌ لذلك؟

سؤال الأسئلة الذي يرتكز أمامنا هو: هل استوعبت جميع الأطراف المحلية أصول اللعبة، وأصبح بمقدورها التعايش والاتفاق على قواعد جديدة للعمل السياسي والوطني؟

•••
د. أحمد سنان

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English