يعيش النازحون في اليمن حالًا من التشرد والشتات واللا استقرار؛ لا يجدون ملجأ لهم سوى العراء، يفترشون فيه الأرض ويلتحفون السماء. يتجمع هؤلاء في مخيمات مهترئة تقع عادة في أماكن بعيدة عن الطرق العامة والتجمعات السكانية المحلية، وأحيانًا على التباب وفي الوديان.
جوع وفقر مدقع وبؤس واضح، ثالوث المعاناة التي يعيشها النازحون في مخيمات "المعافر" الواقعة في الجزء الجنوبي من محافظة تعز. وأغلب هذه المخيمات تقع في منطقتي "الكدحة" و"البيرين" اللتين زرتُهما من أجل إعداد هذا التقرير وتقديم صورة مختزلة توضح الحياة البائسة في هذه المخيمات.
في المنطقتين يوجد أربعة مخيمات وتسكنها 760 أسرة نازحة: 186 أسرة في مخيم "البيرين"، و290 أسرة في مخيم "جبل زيد" (المعروف أيضًا بمخيم الكدحة)، و190 أسرة في مخيم "الملكة"، و94 أسرة في مخيم" النقيع"، بحسب ما قاله "عمار عارف"، الذي يسكن وأسرته في مخيم "جبل زيد" الأكثر معاناة بين هذه المخيمات.
الأسر التي تقطن في هذه المخيمات معظمها تنتمي إلى مديريتي "مقبنة" و"الوازعية" المجاورتين لمديرية "المعافر". وأغلب هذه الأسر تعيش منذ نحو 4 سنوات، لقد أجبرتها الحرب على الخروج والعيش في بؤس التشرد والنزوح.
الجوع والفقر معاناة تزداد يومًا بعد آخر في وسط النازحين؛ يقول محمد قاسم "المنظمات لم تعطينا شيئًا، آخر مرة كان العام الماضي. أعطونا مساعدات غذائية بسيطة طحين وسكر وقليل زيت
في بداية العام 2016، فرت هذه الأسر من ديارها في "مقبنة" و"الوازعية" بعد أن تحولت هذه المناطق إلى ساحة قتال زرع فيها الكثير من الألغام، وحتى اليوم لم تستطع هذه الأسر العودة إلى ديارها؛ لأسباب كثيرة، منها استمرار التوتر، وعدم نزع الألغام منها، بالإضافة إلى الدمار الذي لحق منازل عدد كبير من تلك الأسر.
وقال لـ"خيوط" بسام الحداد، مدير الوحدة التنفيذية للنازحين في "المعافر"، إن "هناك تسعة مخيمات للنازحين في مديرية المعافر، هي "مخيم النقيع"، "مخيم الملكة"، "مخيم رابطة"، "مخيم جبل زيد"، "مخيم البيرين"، "مخيم الخورة"، "مخيم الأسدوح"، "مخيم الأبخارة"، "مخيم قاعدة الوادي".
وأفاد "الحداد" بأن "في المخيمات ما يزيد عن 3500 أسرة نازحة، وفي مساكن مُستعارة أو مُستأجرة، أو لدى عائلات مُضيفة" في المُديرية.
معاناة يومية لا تكاد تنتهي، وبحث دائم عن الطعام؛ هذه هي حياة النازحين في مخيمات "الكدحة" و"البيرين" والنازحين بشكل عام في تعز واليمن، حياة قاسية ومأساوية.
قصة امرأة فريدة
"بخرج أدوّر لنا أكل"، هكذا تقول سعيدة، (ذات الـ45 عامًا؛ لكنها تبدو كامرأة ستينية. أنهكها الفقر والمرض)، لزوجها غالب وأطفالها، قُبيل مغادرتها مخيم النزوح "جبل زيد" صباح كل يوم، بحثًا عما يسد رمقهم.
سعيدة لم يكن لها من اسمها نصيب، تعيش حياة مثقلة بالبؤس والتعب. نازحة وفقيرة، وفوق هذا تعاني من مرض الربو، وزوج اعتاد حياته في انتظار ما تعود به زوجته. امرأة قوية تُكافح كل يوم لتأمين الطعام اليومي لأفراد أسرتها كبيرة العدد: زوج وعشرة أبناء، أغلبهم أطفال.
قالت سعيدة بنبرة مشبعة بالألم لـ"خيوط": "الخيمة فارغة، لا يوجد فيها أي حاجة نأكلها؛ حتى الطحين ما فيش"، وتضيف: "معي عشرة أولاد، اثنين متزوجين، والبقية أطفال، وكلهم بلا عمل، ما فيش أمامي أي حل إلا أنني أخرج أبحث عن طعام من القرى المجاورة".
تُغادر المرأة صباح كل يوم باحثةً عن طعام، ويبقى زوجها وأولاده من حوله خارج المخيم يترقبون عودتها وملامح الحزن تكسو وجوههم. يشغلون أنفسهم باللعب قليلًا بينما يظل الأب يردد الدعاء لزوجته. هكذا يقضي هؤلاء حياتهم اليومية في انتظار الأم وما ستحمله من طعام.
تجوب الأم عددًا من قرى "المعافر"، وصولًا إلى "جبل حبشي"، مهمة يومية صعبة تستمر لساعات طويلة، وأحيانًا تسير بعيدًا إلى قرى أكثر بعدًا من المخيم، بحسب حديثها لـ"خيوط".
المرأة المكافحة وزوجها غالب ينتمون إلى "مقبنة"، جاؤوا إلى هنا كالآخرين هربًا من الحرب. وتعيش هذه الأسرة في مسكن متواضع، إن جاز لنا أن نسميه مسكنًا. وأن يكون هذا المسكن عبارة عن طربال مهترئ فنحن أمام مأساة مُركبة.
يشرح غالب قصته، قائلًا: "جوع، ما في شغل اشتغل. في هذه المنطقة كل واحد يشتغل بنفسه، ولا نحصل أي عمل"، ويضيف: "زوجتي هي الوحيدة القادرة على جلب الخبز لنا من بيوت القرى المجاورة، لولاها با نموت من الجوع".
تعود الأم مع المساء، وتحظى بحفاوة كبيرة من أولادها في حال عادت بكمية كافية من الخبز. يعيش أفراد الأسرة لحظات فرح؛ لكن أحيانًا يُحرمون من هذه اللحظات، فالأم تعاني من مرض الربو، وبين فترة وفترة يُقعدها المرض حبيسة الخيمة لا تغادر مكانًا، وتقعد الأسرة حولها عاجزين عن علاجها وعن توفير الأكل اللازم.
يضيف غالب: "من كثر الضغط النفسي أفكر أنتحر. زوجتي مريضة، وفقر وجوع نعيشه كل يوم". يتنهد ويتابع بحسرة: "لا أكل، لا طحين، لا سكر. وضع يجيب لي حالة نفسية، وأطرد زوجتي إلى مخيم أبيها.
ويشير إلى زوجته قائلًا: "اسأل زوجتي، رجعت أمس. كانت حانقة، والسبب جاء لي ضبح منها ومن الأولاد حولي ولا يوجد ما يأكلوه، قلت لها اجزعي بيت أبوك".
امرأة بمفردها تعيل أسرة، زوجها لا يعمل، وابناها الكبيران لا يعملان، قصة هذه المرأة مليئة بالمعاناة. تكافح الفقر بالتسول المُجهد، تضحية غير عادية، ما أعظم تضحيتها وما أعظم شأنها.
وكثير من النساء النازحات في الكدحة والبيرين يعملن بمثل ما تعمله هذه المرأة، يبحثن في القرى المجاورة عما يبقي أسرهن على قيد الحياة، الحياة التي باتت ظروفها قاسية ومعقدة.
مخيم زيد.. مأساة حقيقية
تصيبك الدهشة وأنت تشاهد أطفال المخيم من حولك عراة. أصوات البكاء والأنين تنبعث من داخل الخيام. الصغار يتجمعون وكأنهم يستقبلونك بهيئتهم تلك، حفاة الأقدام، وابتسامة مفقودة، وبؤس اعتادت وجوههم الظهور هكذا. إنه لمشهد مؤلم، خصوصًا وأن أغلب الأطفال هنا لا يذهبون إلى المدارس، ويعيشون الحياة بالتشرد في الشوارع.
الجوع والفقر معاناة تزداد يومًا بعد آخر في وسط النازحين؛ يقول محمد قاسم "المنظمات لم تعطينا شيئًا، آخر مرة كان العام الماضي؛ أعطونا مساعدات غذائية بسيطة، طحين وسكر وقليل زيت، ومن بطانية لكل خيمة". ويؤكد كثيرون من هؤلاء أن المساعدات الإغاثية منقطعة منذ أكثر من عام.
وبحسب بسام الحداد، مدير الوحدة التنفيذية للنازحين، فإن "النازحين في المعافر بحاجة إلى إيواء بكل ما تعنيه كلمة إيواء، من فرش وبطانيات ومساكن طارئة وغيره. ويحتاجون بدرجة رئيسية إلى المساعدات الغذائية والمطابخ، وبحاجة إلى الرعاية الصحية وتوفير الأدوية المجانية عبر وحدات صحية قريبة".
وأضاف: "يحتاج النازحون إلى تعزيز وتحسين الأمن الغذائي؛ لأن ما يقدمه برنامج الغذاء العالمي لا يكفي، نظرًا لتأخره أحيانًا فترات طويلة، وكما أنه يوجد نازحون كثر لم يدخلوا ضمن كشوفات الإغاثة حتى الآن".
مخيمات النزوح ما بين الجوع وكورونا
ليس الجوع وحده من ينهش أجساد هؤلاء في هذه الخيام، بل الأمراض أيضًا والأوبئة تأخذ حصتها من كل جسد، مسلسل طويل من الأوبئة المتتالية الانتشار تأخذ ضريبتها من أجساد مُنهكة هي في الأصل، ففي تعز توالى انتشار الكثير من الأمراض، بدءًا من الضنك إلى الكوليرا إلى الحميات، وصولًا إلى فيروس كورونا الذي حل في هذا الوسط المُزدحم.
تفيد المعلومات بأن فيروس كورونا انتشر بكثرة في أوساط المخيمات، بحيث أصبح الجميع مرضى. ويؤكد هؤلاء أنهم أصيبوا بأعراض الفيروس بينها زكام وسعال شديدين. وتقول الإحصائيات الخاصة بهم، وفقًا للمدير الحداد، فإن خمس حالات توفيت متأثرة بالفيروس، وأن هذه الحالات هي من فئة كبار السن، وأصحاب المرض المُزمن.
بين جبلين، تعيش المئات من الأسر النازحة بين مطرقة الجوع والفقر، وسندان الأوبئة والأمراض؛ هذا هو حال النازحين في معافر تعز، معاناة مستمرة، وغياب تام للمنظمات الإنسانية والإغاثية. الحياة هنا تبدو أكثر مأساوية يدفع هؤلاء ضريبتهم كل يوم، فالبؤس والفقر شاهدان في ملامح وجه كل نازح.