خلّفت الحرب الدائرة في اليمن، منذُ مارس/ آذار 2015، كثيرًا من المآسي، تحمّلَ أعباءَها المدنيون الذين صاروا وقودًا للحرب، التي فُرضت عليهم وأصبحوا يتقاسمون معاناتها وما خلفته خلال سبع سنوات من النزوح والفقر والحرمان.
النازح عبده قاسم سيف (45 سنة)، أحد ضحايا الألغام الأرضية. لم يكن يعلم _بعد عامٍ من النزوح_ أنه سيفقدُ أحد أطرافه، عند عودته في قريته المليئة بالألغام، في ريف تعز الغربي.
في أواخر سنة 2016، أدت المعارك بين جماعة أنصار الله (الحوثيين) وقوات الحكومة المعترف بها دوليًّا، إلى نزوح أهالي قرية "الكدحة"، بمن فيهم عبده قاسم وكثير من أبناء قريته، إلى منطقة "الصافية" جنوب محافظة تعز.
بعد عام من ذلك، هدأت المعارك في الكدحة، وقرر بعض النازحين العودة لتفقد مساكنهم، أو للتزود ببعض الأغراض التي يحتاجونها. كان من بين هؤلاء عبده قاسم، الذي لم يكن يعلم أن قريته صارت مزروعةً بالألغام الأرضية.
يروي قاسم لـ"خيوط": "بعد امتداد الحرب إلى قريتنا، نزحتُ أنا وأسرتي إلى منطقة الصافية، وحين علمت أن المعارك هدأتْ، قررت العودة إلى قريتي، وباقترابي من المنزل، دستُ لغمًا أرضيًّا؛ انفجر وفقدت الوعي، ولم أَفُق إلا بالمستشفى، كان جيراني قد حاولوا إسعافي من مشفى إلى آخر، لعدم وجود إمكانيات طبية، إلى أن وصلت إلى مستشفى الثورة، وهناك أخبرني الطبيب أني بحاجة إلى عملية بتر للقدم اليمنى، التي تضررت من الشظايا، لكن المستشفى غير قادر على إجرائها".
تحمّل قاسم آلامًا كثيرة في رحلة البحث عن مشفى يُجري له عملية البتر، في الوقت الذي كانت تفتقر معظم المستشفيات في تعز للأطباء والأدوات الطبية، لولا أنه وجد أخيرًا مستشفى وسط المدينة، تدعمه إحدى المنظمات الإنسانية، "بعد أسبوع من التعب والبحث تم نقلي إلى مستشفى التعاون، الذي أجرى لي عملية البتر بدعم من إحدى المنظمات الإنسانية العاملة في المحافظة"، يضيف قاسم.
معظم الذين فقدوا أطرافهم يمرون بتحديات نفسية كبيرة تؤثر على حياتهم، حيث يشدد المختصون على ضرورة أن يتلقى المتضرر -قبل تركيب طرفٍ صناعي- دعمًا نفسيًّا وتأهيلًا حركيًّا
معاناة مضاعفة
لم تنتهِ معاناة عبده قاسم بالنزوح والبتر فقط، بل صارت بدايةً لمأساة جديدة لم تكن في الحسبان، بعد تركيبه لطرف صناعي غير مساوٍ لقدمه الأخرى، يقول: "حصلتُ على طرفٍ صناعي عبر منظمة الصليب الأحمر في مستشفى الثورة، لكنه لم يكن متساويًا مع قدمي الأخرى؛ سبب لي ذلك احتكاكًا بالحوض وشللًا وضمورًا بالعمود الفقري."
عن هذا الشأن، يوضح أحد الفنيين المختصين بالأطراف الصناعية بمركز الملك سلمان بتعز لـ"خيوط": أن "الأضرار الناتجة عن تركيب طرف صناعي، تختلف من شخص إلى آخر، خصوصًا إذا كان المتضرر ما يزال في مرحلة النمو، حيث إذا استمر في استخدام طرفٍ صناعي غير مناسب لفترة طويلة، فقد يسبب له آلامًا أسفل الظهر مع انحراف في العمود الفقري، مع عدم توازن في المشي".
أمَّا إِنْ تعدى المتضرر مرحلة النمو، فتقتصر التبعات على ألم شديد أسفل الظهر، مع عدم ارتياح في المشي؛ لذا يجب عمل الإجراءات اللازمة قبل تركيب الطرف الصناعي لأي شخص، سواء أكان طفلًا أم بالغًا أم متقدمًا في العمر، وفقًا للفني المختص.
ولأن معظم الذين فقدوا أطرافهم يمرون بتحديات نفسية كبيرة تؤثر على حياتهم، حيث يشدد المختصون على ضرورة أن يتلقى المتضرر -قبل تركيب طرفٍ صناعي- دعمًا نفسيًّا وتأهيلًا حركيًّا، حتى يتكيف معه ويسهل عليه استخدامه وممارسة نشاطه اليومي بشكلٍ طبيعي.
بالنسبة لعبده قاسم، فقد أدرك أن تلك القدم لا تناسبه، وقرر العودة إلى المستشفى للمعاينة، فأكد له الطبيب أن القدم ليست على مقاسه، وأنه بحاجة إلى قدم أخرى أقصر قليلًا من القدم الحالية، لكنه لم يحصل حينها على شيء، حد قوله.
إصرار على الحياة
رغم كل الظروف القاسية التي مر بها قاسم، إلا أنه لم يستسلم لوجع الحياة ومشقتها، فهو رب أسرةٍ تتكون من تسعة أبناء وزوجة (خمسة فتيان وأربع بنات) يجب عليه إعالتهم. يذكر أنّ عودته بقدمٍ واحدة كانت أشد ألمًا عليه من اللغم نفسه، "كنت أفكر كيف سأعيش، وكيف سأكسب القوْتَ اليومي لأبنائي، كنت أرى الحياة مستحيلة".
رغم ذلك، أصر قاسم أن يتحدى الإعاقة، وعاد إلى مخيم البركاني بريف تعز الغربي، بقدمٍ مبتورة، وبدأ يعمل على كرسي متحرك في بيع المثلجات (الآيس كريم) على أطفال المخيم.
"أعمل من الصباح إلى المساء في بيع المثلجات أنا وابني، الذي يساعدني في جلب الآيس كريم ودفع العربة، لكن كل ما نجمعه لا يكفي لكل متطلبات البيت؛ أكسب في اليوم نحو خمسة أو سبعة آلاف ريال (حوالي 5 دولار أمريكي) كحد أقصى، وهذا المبلغ لا يكفي لإعالة أسرة كاملة وشراء العلاج، خصوصًا أن الأسعار مرتفعة هذه الفترة، فالكيس الدقيق سعره 40 ألف ريال"، يقول قاسم.
مئات الضحايا
كثيرٌ من المدنيين في اليمن سقطوا ضحايا لمخلفات الحرب كالألغام والقذائف التي لم تنفجر، بسبب قلة الوعي، وغياب الإرشادات، خصوصًا أن تقارير لمنظمات محلية ودولية، تشير إلى أن اليمن شهد أكبر عملية زراعة للألغام في الأرض منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
وكانت الأمم المتحدة أعلنت في سبتمبر/ أيلول 2021، أن 1424 مدنيًّا قُتِلوا خلال أربع سنوات جراء الألغام والذخائر التي لم تنفجر من مخلفات الحرب في اليمن.
وقال بيانٌ صادر عن مكتب ممثل منسق الشؤون الإنسانية في اليمن (أوتشا): "إن الألغام الأرضية والمتفجرات من مخلفات الحرب الدامية التي تعصف باليمن منذ سبعة أعوام، ما زالت تتسبب في قتل وتشويه المدنيين، وتشكل مخاطر كبيرة على عمّال الإغاثة".
وتنتشر في عدة محافظات يمنية، عشرات الآلاف من الألغام والقنابل التي زرعتها أطراف الحرب المستمرة منذ عام 2015، بين مقاتلي جماعة أنصار الله (الحوثيين)، والقوات الحكومية المدعومة من التحالف الذي تقوده السعودية.