يعكس الوضع الصحي المتدهور في محافظة المحويت اليمنية، التي تبعد عن العاصمة بحوالي 117 كيلو متر، ما تتعرض له النساء من متاعب في ظل الوضع الحالي للحرب، مع توجه سلطات جماعة أنصار الله (الحوثيين) لفرض مزيد من الرسوم على الخدمات الحكومية، وتقليص عمل المنظمات الإنسانية.
في قسم الاستقبال والطوارئ بالمستشفى الجمهوري بمدينة المحويت، كان هناك امرأة عشرينية محمولة على سرير متحرك مغطى بملاءة متهالكة، ولا يرى منها سوى وجهها.
من حجم بطنها، يمكن تخمين أنها في حالة مخاض، ويقف أمام سريرها رجل وامرأتان بملابس بالية كالحة، في حالة قلق، يلهجون بالدعاء بأن يمنحها الله قدرة على التحمل. كانت المرأة تتألم وتتلوى كمن يصارع الموت، وتستنجد بمن حولها: "أنقذوني، أنقذوني، سوف أموت".
حضرت إحدى الممرضات وطلبت من أهالي المرأة المتوجعة، تدبر رسوم العملية القيصرية التي يتطلبها وضعها؛ لأن الجنين -كما قالت الممرضة- في وضعية خاطئة، وحالة المرأة متأخرة، ثم غادرت المكان.
حاول الرجل المرافق أن يتحرك تجاه شباك تحصيل المستشفى متثاقل القدمين، وناوله مبلغًا من المال من الفئات النقدية الصغيرة، وقال للمتحصل: "هذا عشرون ألف ريال، أقسم بالله ليس لدينا غيرها، لقد جمعها لنا أهالي قريتنا". رد المتحصل: "ليس بيدي شيء، أنا في النهاية متحصل، لقد قلت لك مسبقًا أن رسوم العملية مع الفحوصات وفاتورة الرقود، مبلغ أربعون ألف ريال، ولا أستطيع أن أعفيك من ريال واحد".
في الأثناء، وصل شخص آخر عن طريق البوابة الرئيسية للمستشفى، وناول المرافق وثيقة ملكية سيارة مع كرتها، وقال له: "سلم لهم الكرت والوثيقة كضمانة رهن بالمبلغ المتبقي"، وسارع الاثنان إلى شباك المتحصل، وناولاه الوثيقة والكرت، ومباشرة شرع المتحصل بقطع سندات التحصيل.
توجه أحد المواطنين، يسعف زوجته إلى مستشفى بمدينة المحويت، إلى مدير المستشفى، ليشكو له التكاليف المرتفعة لإجراء عملية قيصرية لزوجته، فكان رده: "احمدوا الله، لأن عملية مثل هذه يتم إنجازها في صنعاء بمبلغ 300 ألف ريال"، ورفض التفاهم معنا، بالرغم من أني عدت لاستعطافه مرة أخرى فوجدت مكتبه مغلقًا"
سارع الرجلان باتجاه المريضة، ودفعا السرير المتحرك الذي ترقد عليه، وأدخلوها قسم الطوارئ التوليدية، حيث تم تجهيزها في غرفة العمليات لإجراء العملية القيصرية المطلوبة.
"سيارة بـ35 ألفًا لإسعاف زوجتي"
وقف المرافق ورفيقه في حالة ترقب وقلق بعد إدخال المريضة غرفة العمليات، سألت المرافق: "منذ متى وأنتم هنا"، فأخبرني أنهم من الفجر. كانت الساعة تقارب الثانية عشرة ظهرًا.
لقد قدموا من قرية هوار، التابعة لعزلة بني الوليد مديرية جبل المحويت والتي تبعد عن مدينة المحويت بنحو 45 كيلو متر، وهي منطقة وعرة المسالك، وكان الصندوق الاجتماعي للتنمية قد صنفها ضمن أكثر المناطق فقرًا في محافظة المحويت.
قال المرافق، وهو رجل ثلاثيني، تبين لي فيما بعد أنه زوج المريضة: "لها ثلاثة أيام معسرة، وكانت حالتها تزداد سوءًا كل يوم. قمنا بإسعافها إلى الوحدة الصحية في سوق الأحد المجاور، فقالت لنا القابلة هناك إن الجنين بوضعية عرضية وحالتها سيئة، ويجب إسعافها إلى مستشفى المحويت".
ويتابع الزوج: "كانت تحتاج عملية قيصرية، وأنا لا أملك ريالًا واحدًا فتوجهت لأهل القرية فجمعوا لنا مبلغًا من المال، أخذ منها سائق السيارة 35 ألف ريال قيمة جالوني بترول، لإيصالنا إلى مستشفى المحويت، وعندما وصلنا كشفوا على المريضة بالأشعة، وأخبرنا الأطباء أنها بحاجة لعملية مستعجلة".
وبالنسبة للرسوم المالية للعملية، يقول الزوج: "تفاجأنا أن العاملين يريدون دفع أربعين ألف ريال رسومًا للعملية، وللرقود والفحوصات، وعندما أخبرتهم عدم توفر هذا المبلغ، طلبوا أن أقدم التماسًا إلى المدير حتى يتم إعفائي من بعض الرسوم أو من نصفها".
توجه الزوج إلى مدير المستشفى -حسب قوله- فرد عليهم: "العملية قيصرية! احمدوا الله، لأن عملية مثل هذه يتم إنجازها في صنعاء بمبلغ 300 ألف ريال"، يتابع الزوج حديثه: "ورفض التفاهم معنا، بالرغم من أني عدت لاستعطافه مرة أخرى فوجدت مكتبه مغلقًا".
يواصل الزوج شرح الموقف بالقول: "توجهت إلى سكرتير المدير، فأخبرني أنه توجه إلى مكتب محافظ المحافظة لحضور اجتماع، فلم يكن بوسعي إلا قول: أمركم إلى الله. ولم يكن بوسعي إلا اللجوء إلى سائق السيارة التي أوصلتنا -وأشار إلى رفيقه الجالس معه في المقعد- صاحبنا هذا رجل طيب، وهو من قريتنا، وحالته صعبة، ولو كان ميسورًا لما أخذ منا قيمة البترول، وكان ساعدنا بدلًا من ذلك على رسوم العملية".
من جانبه، تحدث لي أحد الممرضين العاملين بقسم الطوارئ التوليدية بالمستشفى الجمهوري بالمحويت بالقول: "كانت منظمة الصحة العالمية، وكذلك اليونيسف، تقوم بدعم خدمات الطوارئ التوليدية في كثير من المستشفيات والمرافق الصحية بمحافظة المحويت وغيرها من المحافظات، من أجل مجانية العمليات القيصرية، وكافة الخدمات ذات الصلة بمجالات الولادة الآمنة".
وأضاف: "كانت جميع خدمات التوليد للولادات الطبيعية والعمليات القيصرية وما يتبعها من مستلزمات وأدوية وفحوصات، تقدم لأي مريضة مجانًا، وكان ذلك يساعد الناس كثيرًا".
وبحسب هذا الممرض، فإن المستشفى الجمهوري بالمحويت توقف في يوليو 2020 دون معرفة السبب.
"وضعت رأسها على فخذي وماتت"
في منطقة الغربي بمديرية جبل المحويت، لفظت امرأة عشرينية أنفاسها الأخيرة بينما كانت في طريقها إلى مستشفى المحويت، بسبب تعسر الولادة وتأخر عملية إسعافها نتيجة عجز زوجها عن توفير مصاريف المواصلات وتكاليف العلاج والولادة.
يقول سليم أحمد (اسم مستعار) زوجتي ماتت في حالة مخاض، عندما كانت تحاول وضع مولودها الأول، حيث كانت ولادتها متعسرة، وكان من المفترض أن نسعفها إلى المستشفى الجمهوري بمدينة المحويت، لإجراء عملية قيصرية.
ويتابع: "لم أكن أمتلك حق المواصلات وحق العلاج، فذهبت إلى أحد الأشخاص، وعرضت عليه أن يشتري مني محصول العلف مقابل 20 ألف ريال لأسعف زوجتي، لكنه اعتذر، فيما زوجتي كانت قد استنفدت ماء المشيمة بعد يومين من المخاض دون فائدة".
يقع منزل هذه الأسرة في أسفل جبل عزلة الغربي الأسفل (تبعد 10 كيلو متر غربًا عن مدينة المحويت)، ولا توجد طريق سيارات إلى القرية، يصف سليم هذا الوضع بالقول، "كنت أتنقل من قرية الى أخرى بمفردي، استنجد بمالكي السيارات في المحلات (القرى الصغيرة) المجاورة أن يساعدوني في إسعاف زوجتي إلى المستشفى".
عاد سليم أحمد إلى المنزل، وحمل زوجته على فراش كانت تستلقي عليه، وبمساعدة أهالي القرية باتجاه أقرب نقطة فيها طريق وتصل إليها السيارات. يواصل حديثه: "وصلنا إلى السيارة، وفي منتصف الطريق قبل أن نصل إلى المستشفى، لمحت زوجتي تلمح لي بإشارة من يدها وتطلب مني إيقاف السيارة. قرعت الزجاج الخلفي للسائق وطلبت منه التوقف، وكان ظني أنها ستلد".
يتابع الزوج: "كانت والدتي، وكذلك والدة زوجتي، يجلسن بالجوار ممسكات بيديها ويحاولن مساعدتها. اقتربت منها فرفعت رأسها إلى فخذي ولمحتها تنظر إلى الأعلى باتجاه الأفق ودمعة كبيرة تسيل من عينها، لتلفظ أنفاسها الأخيرة في لحظة من الذهول".
يختتم حديثه عن مأساته بالقول: "كنت أصرخ وأحاول التقاط فمها لمساعدتها على التنفس، لكن كل شيء كان قد انتهى. ماتت زوجتي الغالية. ماتت وهي في حالة مخاض قبل أن تلد طفلها الذي لم يكتب له الخروج من رحم أمه إلى ضيق هذه الحياة".
حق الجار!
كانت الساعة الثالثة فجرًا، وأنا أغط في سبات عميق بعد مساء منهك بالعمل. استيقظت على صوت رنين هاتفي الجوال مرعوبًا، وأتساءل: من المزعج الذي يتصل بي في هذا الوقت المتأخر؟ إذ لم يكن الرقم محفوظًا بهاتفي.
قال المتكلم بلهجة تهامية، معتذرًا عن إزعاجه لي: ""أنا نازح من مديرية حرض التابعة لمحافظة حجة، وأسكن في العمارة المجاورة لمنزلكم، وزوجتي في حالة ولادة من ليلة الأمس، وأحتاج إلى مساعدتك في نقلها إلى المستشفى الجمهوري بمدينة المحويت؛ فهل بالإمكان أن تقوم بذلك؛ لأن حالتها صعبة جدًّا".
ارتديت ملابسي على الفور، وغادرت شقتي لأجده ينتظرني عند مدخل العمارة بجوار سيارتي. اعتذر لي عما اعتبره إزعاجًا، بينما شغلت محرك السيارة واقتربت من زقاق الشارع المؤدي إلى حيث يسكن هذا الجار النازح الذي هرب من سعير حرب إلى مدينة المحويت بحثًا عن السلامة.
وجدته وبمساعدة طفل صغير في التاسعة أو العاشرة من عمره، يسندان امرأة منهكة القوى مغطاة بستارة سوداء من رأسها إلى أخمص قدميها، وما تكاد تتحرك خطوة واحدة حتى تقف مسنودة على كتف زوجها، تصارع الألم وزفرات طلق الولادة، وبالكاد تمكنوا من إدخالها إلى المقعد الخلفي من السيارة لنتحرك إلى المستشفى، بينما عاد الفتى الصغير إلى داخل السكن ليرعى إخوته الآخرين.
فاعل خير ينقذ حياة امرأة
أدخلت المريضة قسم الطوارئ التوليدية بالمستشفى الجمهوري بالمحويت، وهناك أبلغوا الزوج أن زوجته تحتاج إلى تدخل جراحي حتى تلد جنينها؛ كونها منهكة القوى وفي حالة تعسر لتأخر إسعافها.
سألت مُحصّل المستشفى: "كم هو مبلغ الرسوم؟"، فقال: "ليس كثيرًا، 20 ألف ريال رسوم العملية القيصرية، وألفان و200 رسوم سرير الرقود، و7 آلاف ريال قيمة فحوصات العملية، و5 آلاف ريال رسوم رقود قسم عام لثلاث ليالي، أو 15 ألف ريال رسوم رقود قسم خاص؛ أي قرابة 50 ألف ريال إجمالي المبلغ، إضافة إلى رسوم نقل الدم ورسوم الفحوصات الأخرى، إذا استدعت الحاجة إليها، عوضًا عن الأدوية التي يقوم المريض بتوفيرها على حسابه".
التفت إلى الجار المنكوب وسألته: "كم لديك من المال؟"، فوجدته مرتبكًا متلعثمًا: "معي 3 آلاف ريال فقط، كنت أعتقد أن رسوم الولادة مجانية، وكذلك العمليات القيصرية".
طلبت من المتحصل أن يقوم بتعجيل إجراءات إسعاف المريضة، وإدخالها إلى غرفة العمليات، وأخبرته أنني سأقوم أنا بتدبير الرسوم. شكرني الزوج ثم همس لي أن هناك فاعل خير أعطاه رقمه، وطلب منه الاتصال عند الضرورة.
اتصلت برقم الرجل، ورغم أن الوقت كان متأخرًا، إلا أنه رد على الفور، وأبدى استعداده للمساعدة، ولم تكن لتمر ربع ساعة إلا ووصل أحد أبنائه إلى المكان، ناول الزوج مبلغ أربعون ألف ريال، تسلمه مستبشرًا. كانت الزوجة قد فاقت من غيبوبة التخدير بعد نجاح العملية القيصرية، والتي أسفرت عن ولادة طفل جديد، أسماه بشيرًا.
حلاق القرية
أحمد صلاح (40 سنة)، نازح يسكن في قرية الشرف غربي منطقة جبع التابعة لمديرية الخبت بمحافظة المحويت. كان يمتلك أدوات حلاقة وبعض المستلزمات البسيطة التي يطلق عليها "صالون حلاقة متنقل"، وكانت تلك مهنته التي يكسب منها لقمة عيشه.
كان الجميع معتادًا على سماع نداءاته وعروضه لجلب الزبائن، لكن في ذلك اليوم بالتحديد، لم يحمل معه أدواته، ولم ينادِ على أحد. كان يمر بين أزقة الشوارع يطرق الأبواب يطلب المساعدة، فزوجته في حالة ولادة، منذ الساعة العاشرة مساءً، وهي كعادتها لا تلد إلا بعملية قيصرية، ولديها طفلان؛ محمد، وريان.
كانت المساعدات، التي تلقاها من طرق الأبواب، قليلة، بعضها مبلغ عشرة أو عشرين ريالًا، ولم تكفِه حتى كأجرة مواصلات، مع ارتفاع جنوني لأسعار المشتقات النفطية، لكنه استمر في طلب العون. انتهى به المطاف في دكان الحاج عمر، الذي ما إن سمع قصته حتى استوى واقفًا، وأفرغ ما في خزانة دكانه، وناوله: "يا أخي لا تهتم، الناس للناس".
بعد ذلك، أخذه الحاج عمر إلى مالك بسطة خضروات، وطلب منه أن يقوم بتوصيل زوجة الحلاق بسيارته. حمل بائع الخضرة سلاله إلى دكانة الحاج عمر، ونقله من قرية إلى أخرى لطلب مزيد من المساعدة.
ثم انطلقا إلى صاحب بسطة الخضرة، وطلب منه الحاج عمر أن يقوم بتوصيل زوجة الحلاق إلى المستشفى بسيارته المتهالكة، التي يستعملها لنقل الخضار والفواكه من قرية إلى أخرى، وافق صاحب البسطة وتركا سلال الخضرة في دكان الحاج عمر.
يشرح نازح من مدينة حرض بالمحويت معاناته وأسرته عندما جاء مخاض الولادة زوجته في الطريق أثناء فرارهم من المدينة، التي كانت تتعرض للقصف بالقول: "أخذنا الأولاد جانبًا، ووسعنا مكانًا في مقعد السيارة لتتمدد عليه حتى تلد. كانت تصرخ من الألم، فيسمعها الأولاد ويبكون؛ لقد قامت القيامة. لم أستطع التنفس من ضيق الموقف والهم الذي أنا فيه، خاصة أننا لا نملك ريالًا واحدًا
جمع الحلاق ما استطاع، وعاد فرحًا إلى منزله، وعند الاقتراب من الزقاق الذي كان يسكن فيه، تفاجأ بصراخ أمه العجوز: "ماتت أم محمد".
لم يصدق الحلاق الخبر، وطلب منهم المساعدة في نقلها إلى المستشفى الريفي بالرواح (مركز مديرية الخبت)، وهناك أخبروه بأن شدة الطلق أدى إلى انفجار الرحم وتهتك الأوعية الدموية؛ ما أدى إلى النزيف حتى الموت.
باع دراجته لينقذ زوجته
في سبتمبر/أيلول الماضي قمت بزيارة صديقي المريض في المستشفى الجمهوري بالمحويت، بعد تعرضه لحادث مروري. وهناك، وفي ممر الانتظار، وجدت المدرس جميل (اسم مستعار)، وهو معلمي لمادة اللغة العربية (52 سنة)، كان جالسًا وتبدو عليه أمارات القلق والتوتر.
اقتربت منه ومددت يدي إليه لأصافحه، لكنه كان شارد الذهن ولم ينتبه ليدي الممدودة إليه، إلا بعد أن رفعت صوتي بإلقاء التحية. انتبه وبادلني التحية وهو يعتذر. سألته عن أحواله فقال: "أنت تعرف يا ولدي وضع المعلم في هذه الأيام. الأمر لم يعد يحتاج للحديث".
سألته: "هل لديك مريض؟"، أجاب: "ابنتي في حالة ولادة قيصرية، أدخلناها بعد عناء إلى غرفة العمليات بعد أن أخبرونا أن حالتها صعبة".
سألته عن زوجته، فأخبرني أنها ستأتي بعد قليل. لم يكن حديثنا قد اكتمل، إلا وأقبل شاب يحمل معه مبلغًا من المال، ناوله للمدرس، وقال له: "لقد بعته". سأله المدرس: "بكم؟"، رد عليه: "بـ120 ألف ريال". قابل المدرس فعله بالصراخ: "هل أنت مجنون؟ الدراجة النارية نظيفة، وسعرها لا يقل عن 200 ألف ريال".
أجاب الشاب بنبره مسكنة: "ما الذي أفعله يا عم، لم أجد مشتريًا إلا بهذا السعر، حتى ينقذنا لنسدد فاتورة المستشفى وندفع التكاليف". أخذ المدرس المبلغ، وقال لي: "هذا زوج ابنتي، لقد باع دراجته النارية، وهي مصدر رزقه الوحيد ليوفر تكاليف العلاج والولادة".
شر البلية ما يضحك
يروي أحمد، نازح من مدينة حرض، يقيم في ملحق خاص بسكن المعلمين التابع لمدرسة الأمجاد في قرية جبل الطرف بالمحويت، معاناته مع النزوح بسبب المعارك التي دارت بمدينة حرض وقصف الطيران الحربي التابع للتحالف بقيادة السعودية والإمارات، في إحدى الليالي المرعبة نتيجة للقصف والتحليق الكثيف للطيران، والذي أثار الهلع لدى الناس في المدينة.
يضيف قائلًا: "سحبت زوجتي وجريتها بالقوة وغادرنا مسرعين إلى السيارة التي كان قد سبقنا إليها أخي، وانطلقنا فارين بأرواحنا، متراكمين فوق بعضنا، ندعو الله أن يجنبا القصف لنتجاوز المنطقة المستهدفة بأمان".
يتابع حديثه: "لم يكن قد مر وقت، إلا وأسمع صوت زوجتي تصرخ، تطلب إسعافها، حيث كانت حاملًا في شهرها التاسع، أثار الأمر صدمتي فسألتها، لا تمزحي، ليس وقته الآن. فأكدت لي، أنها مخاض الولادة".
يواصل: "أخذنا الأولاد جانبًا، ووسعنا مكانًا في مقعد السيارة لتتمدد عليه، بينما أستجمع أنا قدراتي لأهيئ لها المكان حتى تلد. كانت تصرخ من الألم، فيسمعها الأولاد ويبكون؛ لقد قامت القيامة. لم أستطع التنفس من ضيق الموقف والهم الذي أنا فيه، خاصة وأنه ليس لدينا ريالٌ واحد".
وصلا إلى المستشفى الكائن في مدينة القناوص بمحافظة الحديدة. كان مغلقًا، لا يوجد فيه أحد بسبب القصف، فالكل تقريبًا هربوا بسبب استمرار تحليق الطيران في المنطقة، كما يقول، وعمليات القصف الجوي المتتابعة في أماكن مختلفة من حولهم، يواصل: "عدنا إلى السيارة وزوجتي تصارع آلام الولادة وأنا لا أملك لها إلا الدعاء. كان الجميع يدعو ويبتهل إلى الله أن يفك ضيقنا ويسهل ولادة الزوجة، فيما نحن مستمرون بالسير آملين في أن نجد وحدة صحية أو مركز طبي في طريقنا، لكن لم نجد شيئًا، فنحن لا نعرف المنطقة، ولم نحدد وجهتنا بعد. طلبت أمي من أخي أن يتوقف؛ لأنها شعرت بالغثيان وتريد التقيؤ، فقد بلغ بها التعب مبلغه، هذا إلى جانب كون زوجتي غير قادرة على التقاط أنفاسها من شدة الألم. بعد ذلك نزلنا جميعًا وتركنا أمي مع زوجتي في مقصورة السيارة، وكان الله معنا، حيث سهل لها ورزقت مولودًا. فرحت كثيرًا لأن الله سهل لها طريقها، فنحن هاربون من الموت وليس لدينا حتى لقمة عيش، ناهيك عن تكاليف المستشفيات". وانتهت الأزمة بعد أن تم اللجوء لقطع الحبل السري بخنجر الجنبية التي يمتلكها والده.
واصل بعد ذلك المشوار بعد أن خلع "مئزره" ليلف به الطفل الذي يصفه "بالمنحوس"، وواصل بعد ذلك الصعود في طريق المحويت؛ بحثًا عن ملاذ آمن لينجوا بأرواحهم من الموت.