إن الشعائر الإسلامية جمعيها -من صلاة وصيام وزكاة وحج- تهدف إلى تهذيب سلوك المسلم والرقي بأخلاقه. غير أن مجتمعاتنا المسلمة تواجه مشكلات بسبب الانفصام بين الشعائر والمعاملة، أي عدم الإدراك الحقيقي لمعنى الشعائر وغايتها، فأضحت الشعائر، أي العبادات، لا تأثير لها في سلوك أغلب المسلمين، ففشا الظلم والغش والتزوير والكذب والأنانية والاحتكار والجشع والفساد.. الأمر الذي أدى إلى تأخر مجتمعاتنا عن التطور الحضاري والتراجع الكبير عن ريادة العالم.
وثيقة متعددة الأبعاد
في القرن السادس الهجري قام الرحالة محمد بن أحمد بن جبير الأندلسي برحلة إلى الحج، ودوَّن أحداثها في كتابه (تذكرة بالإخبار عن اتفاقات الأسفار،) وقد دونها بصورة يوميات، وصف فيها أخبار رحلته من الأندلس إلى مكة، وفي طريقه وصف مصر والشام. لقد مثلت هذه الرحلة النضج الفني لأدب الرحلة العربي. فقد امتازت بجمالية الأسلوب وما تقدمه من متعة ومعرفة بأحوال المجتمعات والمدن وغير ذلك.
إن الوعي بالسياق التاريخي الذي أنتج فيه ابن جبير خطابه سيمكننا من فهم ذلك الخطاب ودلالاته المتعددة، فرحلته تعد وثيقة تاريخية، بل واجتماعية واقتصادية وثقافية، فقد قام ابن جبير برحلته في السنوات (578هـ – 581هـ،) وهي مرحلة كان العالم الإسلامي -خصوصا المشرق- يمر بظروف عصيبة، فقد كانت مدن الشام واقعة تحت الاحتلال الصليبي، وهناك مقاومة لهذا الاحتلال بقيادة صلاح الدين الأيوبي، فضلا عما كانت تشهده الولايات العربية الأخرى من اختلال، فقد وصف ابن جبير فساد الحكام وتعسفهم، ووصف معاناة الحجاج وما يتعرضون له من نهب وإجراءات مخزية وتعسفية وعنيفة من موظفي الجمارك في الإسكندرية، وعيذاب وجدة، وقد استنكرها ابن جبير وانتقدها بلهجة حادة.
اختلال المشرق والمغرب
إن الشاغل الرئيس لابن جبير في رحلته هو اختلال الأوضاع في بلاد المشرق، إذ إن هناك هوة كبيرة بين المسلمين والتمسك بتعاليم دينهم، ورأى أن هناك مفارقة بين وضع بلاد المغرب والمشرق، فالتدين صار مظهرا وحسب، ويبدو أن ابن جبير قد صُدم من المعاملة التي يتعرض لها الحجاج، فأصدر حكمه: "وليتحقق المتحقق ويعتقد صحيح الاعتقاد أنه لا إسلام إلا ببلاد المغرب، لأنهم على جادة واضحة لا بنيات لها. وما سوى ذلك مما بهذه الجهات المشرقية فأهواء وبدع، وفرق ضالة وشيع، إلا من عصم الله عز وجل من أهلها. كما أنه لا عدل ولا حق ولا دين على وجهه إلا عند الموحدين، أعزهم الله، فهم آخر أئمة العدل في الزمان. وكل من سواهم من الملوك في هذا الأوان فعلى غير الطريقة يعشرون تجار المسلمين كأنهم أهل ذمة لديهم، ويستجلبون أموالهم بكل حيلة وسبب، ويركبون طرائق من الظلم لم يسمع بمثلها، اللهم إلا هذا السلطان العادل صلاح الدين، الذي قد ذكرنا سيرته ومناقبه.."
والاستثناء الوحيد في هذا الوضع القاتم هو شخصية القائد صلاح الدين الأيوبي، فقد أثنى عليه وأشاد به كثيرا وبيّن مآثره في إنشاء المدارس والمحارس ومقاصده في العدل وفضائله التي لا تحصى. ويلاحظ ابن جبير محبة الناس لصلاح الدين، فخطيب الحرم المكي كان يدعو للأمراء في نهاية خطبته، وعند ذكر صلاح الدين بالدعاء تخفق الألسنة بالتأمين عليه من كل مكان.
لا يكتفون بنية الحج والعمرة، وإنما هناك نية أخرى مصاحبة. إنها نية نفع الناس في مكة وزوار بيت الله الحرام. إنهم يعدون ميرة البلد. والميرة تعني جلب الطعام، أي تموين مكة بالأطعمة والفواكه والأصناف المذكورة.
نيَّة أخرى لأهل السراة
وفي هذه الأوضاع التي كانت المعاملات فيها تتسم بالاحتكار والجشع والغش وسوء معاملة الحجاج يبرز نموذج يشكل استثناء أيضا. إذ يصف ابن جبير قوما من اليمن، هم قبائل جبال السرو. فمعاملة هؤلاء القوم على النقيض من المعاملات السائدة. إنهم نموذج لفاعلية الخير والسخاء والأثر البالغ في الواقع. لنتأمل كيف يصف ابن جبير هؤلاء القوم، وكيف يخبر عنهم حين يأتون إلى مكة لتأدية العمرة والحج، يبدأ وصفهم بعبارة تلفت انتباه القارئ، وتجعله متحفزا ومتشوقا لإكمال القراءة، يقول: "ومن لطيف صنع الله عز وجل لهم فيه اعتناء كريم منه سبحانه بحرَمه الأمين، أن قبائل من اليمن تعرف بالسرو، وهم أهل جبال حصينة باليمن تعرف بالسراة، كأنها مضافة لسراة الرجال، على ما أخبرني به فقيه من أهل اليمن يعرف بابن أبي الصيف، فاشتق الناس لهم هذا الاسم المذكور من اسم بلادهم، وهم قبائل شتى كبجيلة وسواها، يستعدون للوصول إلى هذه البلدة المباركة قبل حلولها بعشرة أيام، فيجتمعون بين النية في العمرة وميرة البلد بضروب من الأطعمة كالحنطة وسائر الحبوب إلى اللوبياء إلى ما دونها، ويجلبون السمن والعسل والزبيب واللوز. فتجمع ميرتهم بين الطعام والإدام والفاكهة."
فهؤلاء لا يكتفون بنية الحج والعمرة، وإنما هناك نية أخرى مصاحبة. إنها نية نفع الناس في مكة وزوار بيت الله الحرام. إنهم يعدون ميرة البلد. والميرة تعني جلب الطعام، أي تموين مكة بالأطعمة والفواكه والأصناف المذكورة. ويصف ابن جبير وصولهم إلى مكة، مبينا أثر التموين الذي يجلبونه في أهل مكة والمقيمين، قائلا: "ويصلون في آلاف من العدد رجالا وجمالا موقرة بجميع ما ذكر. فيرغدون معايش أهل البلد، والمجاورون فيه يتقوتون ويدخرون، وترخص الأسعار، وتعم المرافق. فيعد منها الناس ما يكفيهم لعامهم إلى ميرة أخرى. ولولا هذه الميرة لكان أهل مكة في شظف من العيش."
وهذا ناتج لإدراكهم جوهر الدين وحقيقة شعائره، إذ تحركهم الرغبة في فعل الخير والعطاء والسخاء، وليس الجشع والاحتكار والاستغلال، وكان أثرهم جليا في تحقيق الأمن الغذائي في مكة والاستقرار التمويني. ومن العجب أنهم لا يبيعون بدرهم ولا بدينار، وإنما بالمقايضة بالخرق والعباءات والملاحف وغيرها من السلع، وهذا يدل على مراعاتهم للأحوال المعيشية لأهل مكة.
لقد بات هذا العمل عادة عندهم، يرجون منه البركة في بلدهم وأموالهم: "ويذكر أنهم متى أقاموا عن هذه الميرة ببلادهم تجدب، ويقع الموتان في مواشيهم وأنعامهم، وبوصولهم بها تخصب بلادهم وتقع البركة في أموالهم. فمتى في قرب الوقت ووقعت منهم بعض غفلة في التأهب للخروج اجتمع نساؤهم فأخرجنهم. وكل هذا لطف من الله تعالى لحرمة البلد الأمين."
إن هذا العمل سلوك حضاري وثقافة مجتمعية راسخة، إذ تبدو فاعلية النساء في حث الرجال على عدم التهاون بالقيام بهذا العمل الخيري، رغبة في البركة، وتطلعا لتجارة رابحة مع الله. يقول ابن جبير: "وبلادهم على ما ذُكِر لنا خصيبة متسعة، كثيرة التين والعنب، واسعة المحرث وافرة الغلات، وقد اعتقدوا اعتقادا صحيحا أن البركة كلها في هذه الميرة التي يجلبونها، فهم من ذلك في تجارة رابحة مع الله عز وجل."
ثم يصف ابن جبير طريقة عبادتهم، إذ إن طريقة عبادتهم لم تعجبه، لكنه وصف يقوض الصفات السلبية لصالح الصفات الإيجابية، فهو وصف يدفع بترجيح وصف على حساب آخر. لنتأمل ذلك: "والقوم عرب صرحاء فصحاء، جفاة أصحاء، لم تغذهم الرقة الحضرية ولا هذبتهم السير المدنية، ولا سددت مقاصدهم السنن الشرعية، فلا تجد لديهم من أعمال العبادات سوى صدق النية: فهم إذا طافوا بالكعبة المقدسة يتطارحون عليها تطارح البنين على الأم المشفقة، لائذين بجوارها متعلقين بأستارها، فحيثما علقت أيديهم منها تمزق، لشدة اجتذابهم لها وانكبابهم عليها."
وفي أثناء ذلك تصدع ألسنتهم بأدعية تتصدع لها القلوب، وتتفجر لها الأعين الجوامد فتصوب. فترى الناس حولهم باسطي أيديهم مؤمنين على أدعيتهم، متلقنين لها من ألسنتهم ... وأما صلاتهم فلم يذكر في مضحكات الأعراب أظرف منها، وذلك أنهم يستقبلون البيت الكريم فيسجدون دون ركوع وينقرون بالسجود نقرا .."
نلاحظ في هذا المقطع أن ابن جبير ينفي إتقان هؤلاء القوم لطريقة العبادة، لكنه في العبارة التالية يقوض وصفه، إذ يصفهم بإجادة الدعاء، والدعاء عبادة، فكيف يجيدون هذا الدعاء المؤثر الذي جعل الناس حولهم مؤمنين على أدعيتهم ومتلقنين لها؟ ألا يعني هذا درجة عالية من الإجادة؟!
وعندما يصف صلاتهم تبدو فيه مبالغة، فهو يخبرنا أن الذي وصلوا ألوفا، فقد يكون شخص أو جماعة غير متقنين، أما جميعهم فهو أمر مبالغ فيه، لأن الرحالة نفسه يصفهم بعد ذلك بصفات إيجابية بأنهم أهل نجدة وبأس، ويصحبهم الحجاج الزائرون فيحمدون صحبتهم، ثم بعد ذلك يصدر حكما. يقول: "وعلى ما وصفنا من أحوالهم فهم أهل اعتقاد للإيمان صحيح،" ثم يستشهد بأنه يُذكر أن النبي-صلى الله عليه وسلم- أثنى عليهم خيرا، وأنه ذُكر عن عبد الله بن عمر أنه كان يحترم وقت طوافهم ويتحرى الدخول في جملتهم تبركا بأدعيتهم. فكيف يتبرك بهم الصحابة وهم لا يجيدون طرق العبادات؟!
خطاب ابن جبير يتجاوز الإخبار والوصف، لتحقيق أغراض إنجازية كالإشادة والثناء والإعجاب بهؤلاء القوم، وفي جانب آخر يظهر الاستياء والإنكار والاستغراب من سوء معاملة الحجاج.
كأنهم جاؤوا بالغيث
إن الذي يعنينا في هذا المقام تمثل هؤلاء القوم لقيم الإسلام وأثر أفعالهم الحميدة في المجتمع المسلم، وهذا ما كرره ابن جبير. فقدومهم في موسم الحج يحمل بشائر الخيرات والبركات كأنهم الغيث، كما يحكي ابن جبير، وأنهم: "جلبوا ميرة إلى مكة على عادتهم، فاستبشر الناس بقدومهم استبشارا كثيرا، حتى إنهم أقاموه عوض نزول المطر."
وفي موضع آخر يصفهم بأنهم رحمة للبلد الأمين، بمجيئهم يرغدون البلد وترخص الأسعار.
"وفي هذه الأيام السالفة من الشهر المذكور توالى مجيء السرويين اليمنيين في رفاق كثيرة بالميرة من الطعام وسواه وضروب الإدام والفواكه اليابسة فأرغدوا البلد. ولولاهم لكان من اتصال الجدب وغلاء السعر في جهد ومشقة، فهم رحمة لهذا البلد الأمين."
إن خطاب ابن جبير يتجاوز الإخبار والوصف لتحقيق أغراض إنجازية كالإشادة والثناء والإعجاب بهؤلاء القوم. وفي جانب آخر يظهر الاستياء والإنكار والاستغراب من سوء معاملة الحجاج، كما لاحظنا في بداية المقالة، كما أنه يعري الواقع ويكشف عن خيباته ونكساته. إنه خطاب يسعى للتأثير في القارئ وتوجيهه. فنستفيد من هذه السرديات في قراءة الحاضر. إذ لا يستقيم حال المجتمع إلا بتطابق القول والفعل، والشعائر والمعاملة، فالدين جوهر وليس مظهرا .
المرجع
تذكرة بالإخبار عن اتفاقات الأسفار، محمد بن أحمد بن جبير الأندلسي، تحقيق: علي كنعان، دار السويدي، أبو ظبي، والمؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط 1، 2008.