أصبح "حيدر"، وهو اسم الشهرة لبائع البطاطا المسلوقة و"العَتَر" الناضج (نوعٌ من البقوليات الجافة)، الذي يعمل كمطعم متنقل في أزقة وشوارع أحياء مدينة تعز منذ ما يزيد على ثلاثة عقود ونصف،
ماركة تجارية مسجلة، وجزءًا أصيلًا من الذاكرة الشعبية في المدينة المحاصرة.
بصوته المتميز وعباراته الشهيرة التي يُطلقها بعفوية الريفي البسيط لتسويق بضاعته منذ الصباح الباكر في أحياء المدينة، حجز موقعًا في قلوب الناس قبل ألسنتهم، التي أدمنت تذوق ما يقدّمه لهم من أنواع شعبية ساخنة وشهية.
غادر أمين محمد سعيد مثنى، الشهير بـ"حيدر"، قريتَه في ريف مديرية شرعب السلام عزلة ( أيفوع ) التابعة إداريًّا لمحافظة تعز ، وهو في العاشرة من عمره، ليستقر به الحال في قلب مدينة تعز منتصف ثمانينيات القرن الماضي، ليدشن منذ تلك اللحظة حكايته الطويلة المترعة بالدهشة مع المدينة وساكنيها.
وجد حيدر في بيع البطاطا المسلوقة والعَتَر، أنسبَ المهن الملائمة لطفل في مثل عمره وطأت قدماه المدينة لأول مرة. العمل الحر في أوساط الناس دون رهبة أو وجل، كان انعكاسًا لطبيعة الطفل القروي القادم من أعماق الريف المترع بالحياة.
عند السابعة صباحًا يدشن "حيدر" جولته في أزقة وحواري المدينة؛ يتقاطر الصغار من منازلهم حين يصلهم صوته ليوقظ صباحاتهم، سريعًا تجدهم يلتفّون حول عربته اليدوية لشراء ما يرغبون به من بطاطا وعتر ويُشجِيهم صوته بعبارته الدائمة "عَتَر مبسبس حالي مقرطس".
خلافًا لبعض الباعة الذين فارقوا الحياة مؤخرًا بعد أن حفروا أسماءهم في ذاكرة تعز، أمثال: "محمد الصغير" و"غالب مخسو"، لم تنجح الحرب في إخماد صوت حيدر ولا رمزيته، رغم مخاطر جمة عاشها خلال السنوات الثماني الماضية.
خلال جولته الصباحية يطوف "حيدر" بعربيته اليدوية أحياء "عصيفرة" و"الروضة" شمال وشرق مدينة تعز، ويصل صدى صوته إلى قرب مناطق التماس.
يتذكر وهو يروي لـ"خيوط"، بعض التفاصيل المحزنة التي داهمته في زمن الحرب حين سقطت قذيفة قادمة من مناطق الحوثيين، أثناء تجوّله بعربيته بالقرب من "تبة الوكيل"، وكادت أن تُودي بحياته.
يقول حيدر: "كان الحوثيون يقصفون المدينة بشكلٍ مكثف وعشوائي"، مردفًا أنه لن ينسى لحظات الرعب التي عاشها وقت سقوط قذيفة بجواره.
ورغم اشتداد وتيرة الحرب التي دارت في المدينة ومحيطها، بدءًا من مطلع العام 2015 ونزوح غالبية سكانها، بمن فيهم عائلة حيدر، فإنّه رفض خيار النزوح، وظلّ متشبثًا بالمدينة وروحها، كما ظلّ صوته يؤنس وحشة المدينة كل صباح ليتغلب على شبح الموت وأزيز الرصاص، وكان صوته يحفز الناس على الخروج للشوارع والانتصار للحياة.
اليوم يتمنّى "حيدر" أن تعود تعز كما كانت، وتعود الحياة إلى كل مفاصلها، ويعود الناس إلى مساكنهم التي سكنتها أشباح الموت والخراب، ويعود صوته صادحًا في الأرجاء، وفي كلّ أزقة وحواري المدينة المحاصرة من شرقها إلى غربها.
علاقة طويلة تشكّلت بين بائع متجوّل وساكني المدينة، وتجذّرت طيلة عقود، ويصفه بعض سكانها بكونه علمًا من أعلامها، ويحتفظ الكثير بذكريات لم تمحُها متغيرات الزمن الصعب، ولا حالة التشظي والشتات، بل ظلّت مغلفة في جدار الذاكرة الشعبية التعزية، محورها شخصية "حيدر"، وما يقدّمه لهم من بطاطا وعَتَر مفوَّر، ومعها تتعدّد حكايات الناس.
يروي هشام الصليحي، وهو مدرس في قسم الإعلام بكلية الآداب، بجامعة تعز، موقفًا طريفًا لحديثٍ دار بينه ووالده حين صادفا مرور حيدر، بادر هشام والده بعبارة: "يا باه، هذا حيدر من يوم عرفت المدينة وهو يبيع بطاط"، جاء ردّ والده سريعًا: "يا ابني من يوم عرف أبوك المدينة وحيدر يبيع بطاط".
تقول رحمة الأغبري: "ما زال صوت حيدر يتردّد بأذاننا "حوّج وا حيدر" ملحنة بصوته"، ويصفه عبدالرزاق المجيدي بكونه مطعمًا متنقلًا في أغلب أحياء تعز، فيما يقول عادل نعمان: "حيدر يصارع الفقر".
يكشف "حيدر" في حديثه لـ"خيوط"، مصدر هذه التسمية التي ذاع صيتها طيلة عقود، ليقول بأنها تعود إلى شخص آخر كان يبيع البطاطا المسلوق في محله الخاص في حي "باب موسى" منتصف ثمانينات القرن الماضي، لاحظ الفتى الريفي البسيط مدى إقبال الناس على ما يقدّمه لهم، كان الطفل على عكس ما يفعله الآخرون؛ لقد تذوق طعامه أولًا، ثم امتهن مهنته وخطف اسمه الشهير، ومن لحظتها نسيَ أنّ اسمه أمين محمد سعيد مثنى، ليغدو "حيدر".
اليوم، وبعد مرور ما يقارب الأربعة عقود من عمر حيدر في مدينة تعز، ما زال يقطن منزلًا مستأجرًا في أحد أحياء المدينة ولا يمتلك جهاز اتصال.