اعتادت أم محمود في الثامنة مساءً من كل يوم، إشعال الكراتين وجمع صغارها حولها؛ لتدفئتهم وحمايتهم من صقيع البرد، لعل لهب النار يحمي أجسادهم الصغيرة من رعشته؛ إذ تعيش أم محمود بالقرب من السائلة في منطقة الخمسين المتفرعة من شارع المقالح (شمال غربي صنعاء)، في مساحة لا تتجاوز مترين، حيث تقطن هي وأطفالها السبعة في كوخ بُني من البُؤس، لا سقف له سوى السماء وبعضٍ من قطع القماش البالية.
تعد عائلة أم محمود من مئات الأسر المهمشة المنتشرة في العاصمة صنعاء، التي تعاني شظف العيش، وتتعرض للقهر والحرمان، وانعدام الحد الأدنى من الخدمات الأساسية.
تحصي بيانات وتقارير عددهم بمئات الآلاف، ويُطلق المجتمع على جزء من أبنائه من ذوي البشرة السمراء لفظ "الأخدام" والمهمشين، ويتم غرس صورة نمطية سيئة عنهم منذ عشرات العقود، والتشكيك بيمنيتهم، غير أنهم لا يعرفون وطنًا سواه.
يعتبر المهمّشون من الأقليات المتواجدة في اليمن منذ قديم الأزل، والموزعة على عدة محافظات، أهمها: الحديدة، صنعاء، تعز، عدن، لحج، أبين، متمددين في كل المحافظات اليمنية.
كما أنهم من الفئات الأشد فقرًا في المجتمع، والأكثر عرضة للتمييز والعنصرية والاستغلال. وهذا ما ساهم في انطوائيتهم وجَعلهم في عزلة، يشكّلون مجتمعًا خاصًّا بهم، الأمر الذي فاقم من انتشار الكثير من الشائعات المغلوطة عنهم.
لا تقتصر الانتهاكات في مجتمع المهمشين على الصغار فقط، إذ تحظى النساء بالنصيب الأكبر من الانتهاكات والمضايقات، حيث تعاني غالبية النساء المهمشات من الاعتداءات المتعددة والتحرش وسوء المعاملة دون أدنى إنسانية.
ويستقر مجتمع المهمشين في مناطق محددة على أطراف المدن في مساكن خاصة تبنى من الصفيح والعلب الفارغة والكرتون والقماش، وأفضلها تبنى من "البلوك"، وتتكون من غرفة واحدة فقط، مفتقرة لأدنى الخدمات كالكهرباء والمياه والصرف الصحي، وتكون مساكنهم معزولة عن بقية المنازل؛ إذ يراها المجتمع بأنها مجرد تجمعات سكنية هامشية وتسمى المحوى.
التعنيف والحرمان من السكن
الكثير من النساء في اليمن، يواجهن العنف في معظم نواحي الحياة، سواء كان في المنزل أو الشارع، خاصة خلال الأزمات والنزاعات وسوء الأوضاع المعيشية، ويصعب على الكثير منهن التغلب على تبعات ذلك.
تقول رضية الفهيدي، استشارية في الطب النفسي، لـ"خيوط"، إنّ النساء المهمشات عرضة أكثر لأعمال العنف اللفظي والجسدي، ليس هذا فقط بل قد يصل التعنيف إلى ما هو أشد كالتحرش الجنسي، فضلًا عن سوء المعاملة لهن.
إضافة إلى ذلك، فإنّ غياب تمكين المهمشات في اليمن اجتماعيًّا واقتصاديًّا، يؤدّي إلى مأساة بعيدة المدى في صحتهن النفسية، وكلّ ذلك يعود بالأثر السلبي على كيان شخصيتهن، ما قد يجعلهن عرضة لممارسات كردّ فعل؛ لأنهن لم يجدن المساحة الآمنة من المجتمع، مؤكدةً أنه يصعب على الكثير من نساء المهمشين التغلب على الأذى الذي يتعرضن له، خاصة مع عدم وجود قوانين تحمي حق المرأة بشكل عام، خاصة المرأة المهمشة، التي يعتبر الكثير من المجتمع بأن حياتها مباحة بسبب النوع والطبقية الاجتماعية.
تضيف الفهيدي أن تردي الأوضاع المعيشية والخدمية للنساء المهمشات والحرمان وعدم وجود منزل يأويهن ويستندن على جدرانه بعد كل ضربة يواجهنها، وجع يطول الحديث عنه، لافتة إلى أنّ بعضًا منهن يلجأن للانتقام من المجتمع الذي أساء إليهن قصدًا أو دون قصد.
فقدان أبسط الحقوق
لا يزال مجتمع المهمشين يعاني من الاستغلال والمتاجرة بقضاياه منذ سنوات طويلة، دون الوصول إلى حل جذري يرضي كافة أبنائه ممن ذاقوا ويلات النظرة الدونية والعنصرية الاجتماعية بأبشع صورها، حيث قالت الخمسينية فاطمة لـ"خيوط": "لا أحد يدري بنا أو بجوعنا ومعاناتنا إلا وقت الحاجة، من أيام علي عبدالله صالح وهم يحشدونا أيام الانتخابات، وبعدها ينسونا، وأصبحوا خلال الفترة الماضية يجمعونا إذا في مولد".
لم تكترث القوى السياسية في اليمن لمجتمع المهمشين ولا لقضاياهم، بَيدَ أنّها كانت تتاجر بها حسب قول العديد من المهمشين، الذين التقت بهم "خيوط"، وعلى الرغم من أن قضيتهم كانت حاضرة في مؤتمر الحوار الوطني -الذي تناول وضع المهمشين ضمن العديد من التوصيات، حيث أدرجت لجنة صياغة الدستور مادة واحدة من الدستور الجديد بشأن وضع المهمشين في المادة 62، التي نصّت على التعزيز بمشاركتهم في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية- فإنّها لاقت التهميش كغيرها من التوصيات.
تتابع فاطمة حديثها: "لقد تعبنا ولم نعد نحتمل هذه العيشة، الجميع يسخر منّا؛ حتى المنظمات التي تأتي لتأخذ صورنا وأوراقنا الرسمية ثم تختفي، لم نعد نصدق أحد".
ليس هذا فقط بل إنه تم تغييب المهمشين في الأدوار السياسية، إضافة إلى ذلك عدم انخراطهم في المؤسسات والوظائف الحكومية، وفرض بعض الأعمال عليهم والتي يتم تصنيفها بالمتدنية.
وعلى الرغم من أنّ بعضًا من أبناء المهمشين متعلمون ويمتلكون شهادات جامعية أو ثانوية، فإن ذلك لم يشفع لهم، واستمر قهرهم وحرمانهم من أبسط حقوقهم في الحصول على وظيفة من أجل العيش بحياة كريمة.
في السياق، يقول جلال محمد لـ"خيوط": "بعد أن بحثت كثيرًا عن عمل في محال تجارية ومطاعم وكان يتم رفضي لأنني لا أستطيع الحصول على ضمانة تجارية، حيث رفض عاقل الحارة أن يكلم أحد التجار ليضمنني؛ لأنه لا يعرفني ولست من سكان الحارة "الحي" مع أني مستأجر دكان لعائلتي في نفس هذه المنطقة".
يعتبر جلال المعيلَ الوحيد لعائلته المكونة من أمّ وستة إخوة، ويسكنون جميعًا بدكان في أحد أحياء منطقة الصافية (شمال العاصمة صنعاء).
جلال كغيره من الشباب المهمش، تطاردهم لعنة التاريخ بأنهم أفارقة، كما يتم تصنيفهم في اليمن، ولا يحق لهم العيش كغيرهم من اليمنيين؛ إذ يحرم على جلال وعائلته الحصول على مقومات الحياة الأساسية كالماء والغاز. يقول: "حرمني مالك المحل الذي أسكنه من ماء المشروع، وأجبرني على أن أنقل ماء من السبيل في نهاية الشارع، كما أنّ عاقل الحارة رفض تسجيلي لكي أحصل على دبة (قنينة) الغاز لأنني وعائلتي لا نسكن في منزل".
يفتقر المهمشون لأبسط الحقوق، كحقّهم في التعليم وفي الرعاية الصحية، وحتى في المشاركة الكاملة في الحياة والتي يتمتع بها أبناء المجتمع الأوسع، فالغالبية من أبناء المهمشين لا يلتحقون بالمدارس ولا يتعلمون كغيرهم من الأطفال، حيث يبلغ عدد الأطفال المتسربين من المدارس في اليمن، أكثر من 90% من المهمشين.
كما أنّ المهمّشين حُرموا من الحق في الرعاية الصحية، حيث يروي المواطن الستيني محمد سالم، لـ"خيوط": "بعد تعرض يدي للحرق أثناء إشعال النار لمساعدة زوجتي على إعداد وجبة الغداء، حيث رفض أكثر من مستشفى استقبالي والقيام بعلاجي لعدم امتلاكي للمال".
ظلت يد محمد محروقة مشوهة؛ لأنه لا يمتلك المال، إذ يعمل في مجال النظافة براتب لا يزيد على 10 آلاف ريال، وفق حديثه، لا تكفي لشراء الخبز لصغاره الخمسة.
للمهمشين دورٌ رئيسيّ في تهميشهم؛ لأنهم رضخوا للتهميش وحياة التشرّد التي أُجبروا عليها، وعاشوا عزلة بعيدة عن المجتمع، ولم يندمجوا من خلال إجبار أبنائهم على إكمال التعليم.
في السياق، تعرض كثيرٌ من المهمشين للاستغلال من قبل سلطة أنصار الله (الحوثيين) في صنعاء، خصوصًا الأطفال، حيث تم تجنيدهم في القتال طوال سنوات الحرب في اليمن الدائرة منذ العام 2015، إذ اطلعت "خيوط" على تقارير بهذا الخصوص، تؤكّد تجنيد الكثير من أطفال المهمشين في الحرب مقابل وعدهم بمنح مناصب في الشرطة، والدفع بهم إلى خطوط القتال.
تروي سميرة أيوب -اسم مستعار- في حديثها لـ"خيوط"، أنّ ابن شقيقتها البالغ من العمر 16 عامًا، قُتل في إحدى الجبهات التابعة لجماعة أنصار الله (الحوثيين)، بعد أن تعهّد أحد مشرفي الجماعة بتوظيف والده في المجلس المحلي، قبل أن يعود الصغير لأسرته جثة هامدة.
كفلت الجمهورية اليمنية حقوق الطفل اليمني في القوانين النافذة المعمول بها في البلاد للحماية من خطر أسوأ أشكال عمل الأطفال، والمتضمنة عدم جواز استغلال الأطفال واستعمالهم في أعمال لا تتناسب مع طبيعتهم الجسدية والنفسية.
حياة التسول والتشرد
بعينين ذابلتين ووجه شاحب وجسد هزيل وبصوت خائف منكسر، أجاب الطفل إبراهيم ذو الثامنة من عمره عن سبب تواجده أمام أحد المطاعم في العاصمة صنعاء؛ إذ يعمل إبراهيم مع رفيقه عمر في مسح وتنظيف السيارات من جانب، وممارسة التسول مع شقيقته ذات السادسة عشر ربيعًا من جانب آخر.
يتعرض إبراهيم، كما يتحدث لـ"خيوط"، لانتهاكات متعددة، كالضرب والسِّباب (الشتم) من عمّال وملّاك بعض المطاعم والمحال التجارية، حسب قوله؛ إلا أنه لا يجد طريقة أخرى لكسب العيش وسد جوع عائلته، إذ يكمل قوله: "كنت أجمع علبًا بلاستيكية، ثم أبيعها لأصحاب الورش العاملة في جمعها، لكنهم يماطلونني بعد ما يأخذونها مني ويرفضون أن يدفعوا لي مقابلها".
لا تقتصر الانتهاكات في مجتمع المهمشين على الصغار فقط، إذ تحظى النساء بالنصيب الأكبر من الانتهاكات والمضايقات، حيث تعاني غالبية النساء المهمشات من الاعتداءات المتعددة والتحرش وسوء المعاملة دون أدنى إنسانية، فجميلة التي تعمل في بيع العطور متنقلة بين الأسواق، تحكي لـ"خيوط"، أنها لا تسلم من التحرش أثناء عملها.
ويعود ذلك لأسباب عديدة؛ أهمها تدني مستوى التعليم في مجتمع المهمشين، وانخفاض مستوى التفاعل الاجتماعي مع بقية أفراد المجتمع اليمني، حيث ترى الأخصائية الاجتماعية فاطمة صالح، في حديثها لـ"خيوط"، أنّ للمهمشين دورًا رئيسيًّا في تهميشهم؛ لأنهم رضخوا للتهميش وحياة التشرد التي أُجبروا عليها، وعاشوا عزلة بعيدة عن المجتمع ولم يندمجوا من خلال إجبار أبنائهم على إكمال التعليم.
تضيف صالح: "أغلب مكونات المجتمع اليمني بكل طبقاته، اندمجت وتجانست من خلال المدرسة والصفوف الدراسية، ولكن عندما لا تهتم بتعليم الأطفال وتبقيهم في عالمك الخاص، فأنت المسؤول الأول عن عزلتك طيلة عشرات السنوات".
كما ترى هذه الأخصائية الاجتماعية أنه يحق للمهمشين الاندماج مع بقية اليمنيين في الأحياء السكنية، وأن يغيروا من أسلوب حياتهم، ويسعوا لتحسين أوضاعهم من أجل حياة أفضل لأطفالهم في المستقبل.