ما الذي يدفع رجل لحفر بئر أمام منزله في قلب مدينة تمتلك ثاني أهم ميناء في البلاد، فضلًا عن الثروات المهمة التي تزخر بها، سوى وجود أزمة مياه خانقة تحاصر سكانها، وهي أزمة تضاف إلى قائمة الأزمات التي يتكبدها المواطن في مدينة الحديدة؛ الجفاف، وأزمة الكهرباء، والغاز المنزلي، والمشتقات النفطية، وارتفاع سعر الثلج، لا سيما في فصل الصيف، وزيادة أسعار المواصلات بشكل غير معهود في المدينة، وغيرها من الويلات التي خلفها الصراع منذ العام 2015.
تحكي المواطنة نجاة إبراهيم، قصة هذا الرجل، وتقول: "كنت أجلس في صالة الانتظار بمستشفى السلخانة (أحد مستشفيات المدينة)، وصل مغمورًا بالأتربة وقد فارق الحياة، لم يتسنَّ لي معرفة اسمه بسبب صراخ أهله وجيرانه. أخبرني أحد المرافقين -صديقه- أنه قرر حفر بئر أمام منزله ليحل مشكلة انقطاع المياه، التي يعاني منها سكان شارع الثلاثين أحد شوارع مدينة الحديدة، ونتيجة للرطوبة والأتربة المجاورة لمكان الحفر بسبب الأمطار التي شهدتها المدينة قبل يومين من وقوع الحادثة، سقطت عليه، وقد عجز الأهالي عن إخراجه بسرعة". وتضيف بمرارة: "فارق هذا الرجل الحياة وهو يبحث عن قطرات ماء عجزت السلطات عن أن توفرها لكثير من الأفراد في مناطق متفرقة من المدينة التي ينهش الحر من أجساد مواطنيها، فيصبح الماء هامًّا لهم كالهواء تمامًا".
أزمة تتوسع في المدينة لتصل إلى الأحواض
منذ أربعة أشهر بات سكان الحديدة يتحدثون عن مشكلة انقطاع المياه في منازلهم، يقول الكثير منهم أنهم لن يصمدوا أمامها إذا استمرت، منهم صبري سعيد، مواطن من سكان حارة البيضاء، إحدى الحارات الشعبية جنوب المدينة، يقول لـ"خيوط": "قبل أربعة أشهر كانت تصلنا المياه بعد الواحدة فجرًا، ويستمر حتى الصباح، وفي بعض الأيام ننتظر دون فائدة، لقد تحملنا الأزمات الكثيرة التي تنهال علينا منذ بدأ الصراع. أزمة المياه لو استمرت قد تجبرنا على الرحيل دون تردد، لارتفاع درجة الحرارة في المدينة أغلب أشهر السنة واحتياج المواطن للمياه لا يمكن وصفه، خاصة في فصل الصيف".
يتابع: "الآن، أصبحنا نشتري صهاريج مياه، سعر الواحد خمسة آلاف وخمس مئة ريال، في المقابل الصهريج لا يكفينا سوى ثلاثة أيام فقط. كيف يمكن لمواطن أن يوفر هذا المبلغ وهو مجرد عامل بأجر يومي لا يزيد على 1500 ريال؟!".
ارتفاع درجات الحرارة وقلة الأمطار وزيادة الرطوبة واجتثاث بعض الأشجار، تسببت في حدوث الجفاف والتصحر في هذه المناطق، ما أدى إلى تدهور الأراضي الزراعية، إضافة إلى الأعاصير الرملية، وردم التربة الطينية الصالحة للزراعة وفقدان الأعشاب أو الحياة النباتية بشكل عام، ممّا تسبب في تدهور الأمن الغذائي في المحافظة.
إلى جانب المناطق المتضررة منذ سنوات من انقطاع المياه، هناك أحياء لم يكن سكانها يشكون المعاناة، باتت هي الأخرى تعاني. شارع شمسان والأحياء المجاورة له إحداها، حيث يقول الأهالي إنّ المياه أصبحت تنقطع لساعات كثيرة. أم حيان، وهي إحدى سكان الشارع، تقول لـ"خيوط": "عدت من السفر قبل أسابيع ووجدت جيراني يشكون انقطاع المياه، ويطوف الرجال والأطفال المساجد للبحث".
تواصل: "أصبح الكثير من المواطنين في عدة مناطق، يعتمدون على المضخات (دينامو)، في توصيل المياه إلى خزاناتهم في أسطح المنازل، خاصة المباني المكونة من أكثر من طابق؛ نظرًا لانخفاض ضغط المياه. لقد توسع استخدام هذا الجهاز الذي يعمل بالكهرباء إلى المنازل الشعبية. قبل الصراع، لم نكن نعرف هذه المضخات، أمّا الآن فأصبح ضجيجها حاضرًا في مسامعنا حين نتجول شوارع وأحياء المدينة".
الجفاف والتصحر
لا تتوقف الأزمة عند حدود انعدام المياه الصالحة للشرب في الحديدة، بل تضرب كوارثها المتمثلة بالجفاف والتصحر القطاع الزراعي، الذي يعتبر القطاع الأول إلى جانب الاصطياد السمكي في تشغيل الأيدي العاملة والسكان، إضافة إلى ما تمثله أراضي تهامة من أهمية بالغة للقطاع الزراعي في اليمن.
محمد بهيدر، مدير عام المؤسسة المحلية للمياه والصرف الصحي، بمحافظة الحديدة في الحكومة المعترف بها دوليًّا، يقول في تصريح لـ"خيوط"، إنّ الأحواض المائية في محافظة الحديدة تعاني من انخفاض المنسوب المائي، مرجعًا السبب في ذلك الانخفاض إلى التغير المناخي، الذي انعكس سلبًا على الإنسان والبيئة، وأدّى إلى ارتفاع منسوب مياه البحر وزحفه إلى المياه العذبة؛ ما أدّى إلى تملحها، إضافة إلى القضاء على النباتات بمختلف أنواعها.
كما أنّ هناك سببًا آخر لانخفاض منسوب مياه الأحواض في الحديدة، يتمثل في الحفر العشوائي للآبار، إذ يتحدث بهيدر في هذا الخصوص بالقول: "أجرى الفريق الفني للمؤسسة المحلية للمياه والصرف الصحي بمحافظة الحديدة وبتمويل ودعم من منظمة التكافل الدولية (Solidarity International)، بدراسة الآبار في المديريات الساحلية (الخوخة وحيس والتحيتا والمخا وموزع والوازعية وذو باب المندب)، وكانت النتيجة مأساوية؛ حيث تبين من الدراسة أن نسبة 95% من المياه في هذه المديريات هي مياه مالحة، ولم يتبقَّ من المياه العذبة سوى 5% فقط، وقد تم رفع هذه الدراسة إلى وزارة المياه والبيئة.
وعن وضع المياه في مديرية الخوخة، يقول بهيدر: "في ثمانينيات القرن الماضي، تميزت الخوخة بمياهها العذبة، فقد تجاوز عدد الآبار 3000 بئر، كان في كل بيت توجد بئر ماء عذب نقي خالٍ من التلوث بعمق لا يتجاوز 10 أمتار يستخدمه المواطنون كمصدر لمياه الشرب، ليس هذا فحسب، بل بإمكانك الحفر عن شاطئ البحر بعمق أقل من واحد متر لتحصل على المياه العذبة الصالحة للشرب".
يتابع: "أما الآن فأصبحت معظم المياه مالحة، وما تبقى منها ملوثة، لعدة أسباب، منها: التغير المناخي، وقلة هطول الأمطار، وارتفاع منسوب مياه البحر، والحفر العشوائي للآبار الزراعية، وعدم استخدام وسائل الري الحديث للتقليل من هدر المياه وانتشار البيارات في المدينة، حيث أصبح بجوار كل بئر بيارة للمياه العادمة تبعد عن البئر من 5 إلى 8 أمتار؛ نتيجة لعدم تنفيذ شبكة صرف صحي، للمدينة".
ويشير بهيدر في حديثه لـ"لخيوط"، إلى أنّ مديرية حيس تواجه كارثة بيئة نتيجة تلوث الحوض المائي، والتي تبلغ مساحته 400 كيلو متر مربع، المغذي لمدينة حيس، نتج عن ذلك انتشار الأمراض مثل الكوليرا والتيفوئيد وحمى الضنك، وأكثر الفئات تأثرًا بهذه الكارثة هي فئة الأطفال والحوامل.
تضرر القطاع الزراعي
في الوقت الذي باتت فيه أزمة المياه الخانقة تحاصر سكان الحديدة، تشهد مديريات ومناطق ريفية في المحافظة أمطارًا غزيرة، والسيول والفيضانات الناتجة عنها تسببت في تدمير العديد من الممتلكات الخاصة والعامة، والمتمثلة بجرف للأراضي الزراعية والمواشي والمنازل، خاصة المبنية من سعف النخيل والقش في الأرياف والقرى، وهو ما ضاعف معاناة المواطنين، إلى جانب ويلات الحرب التي يتجرعون مرارتها منذ بدأ الصراع.
محمد أمين، وهو مزارع في منطقة الخوخة الواقعة في أقصى جنوب محافظة الحديدة، يقول في حديثه لـ"خيوط"، إنّ التغيرات المناخية التي اجتاحت مناطقهم، والمتمثلة في تساقط الأمطار بكميات كبيرة تسبّبت في تدمير أراضيهم وقتل مواشيهم وتكبّدوا خسائر كبيرة في ممتلكاتهم.
تشرح نعمة أحمد، معاناة سكان الحديدة بفعل هذه الأزمة، بالقول: "لا يمكنني النوم ليلًا مثل بقية الناس، منذ أكثر من خمس سنوات، المياه لا تأتي إلينا إلا في وقت متأخر من الليل في ظل الحاجة المتزايدة لها من قبل السكان في النهار؛ وبالتالي تصل المنازل حين يكتفون ويُغلقون مواسيرهم".
ويؤكّد أمين أنّه وغيره من المزارعين ممّن تضررت أراضيهم، عجزوا عن تعويضها ومواجهة الأضرار التي تركتها السيول والفيضانات، خاصة مع انشغال الجهات المعنية في الصراع من جهة، وحصر الدعم الذي تقدمه المنظمات الداعمة للمجال الزراعي في جوانب معينة، وليس كما يريده المزارعون ويرونه مناسبًا لإعادة إنتاج أراضيهم.
وإلى جانب الأضرار التي سبّبتها الأمطار الغزيرة على الأرضي الزراعية وممتلكات المواطنين، تواجه مناطق أخرى في الحديدة مشكلة التصحر والجفاف والتي أصبحت تهدد الكثير من المساحات الزراعية والمناطق السكنية.
يرى المهندس المدني، شايف أحمد النجري، أنّ التصحر والجفاف من أبرز التحديات التي تواجه كثير من المناطق في الحديدة، ومنها مديرية الدريهمي (جنوب الحديدة)، إضافة إلى مديرية الزهرة والزيدية والسخنة ومديرية المراوعة وباجل والجراحي وحيس وأجزاء من مديرية زبيد.
ويضيف النجري في حديثه لـ"خيوط"، أنّ ارتفاع درجات الحرارة وقلة الأمطار وزيادة الرطوبة واجتثاث بعض الأشجار تسبّبت في حدوث الجفاف والتصحر في هذه المناطق، ممّا أدّى إلى تدهور الأراضي الزراعية، إضافة إلى الأعاصير الرملية وردم التربة الطينية الصالحة للزراعة وفقدان الأعشاب أو الحياة النباتية بشكل عام، ممّا تسبب في تدهور الأمن الغذائي في المحافظة.
كما يشرح النجري، أنّ الحلول الممكنة لمواجهة المشاكل التي تسبّبت بها التغيرات المناخية على مناطق كثيرة في المدينة، سواء الجفاف أو التصحر أو تدفق السيول والفيضانات وغيرها تكمن في عدة مراحل الأولى إصلاح قنوات لتصريف المياه والسيول إلى الوديان وعمل مصدات لحماية المناطق من أضرار السيول والفيضانات وزراعة الأشجار بشكل متبادل كفكرة اقتصادية لتوقف استمرار التصحر إلى جانب استخراج المياه في الأماكن الجافة والتخلص من الرمل الناتج من الأعاصير بتكويمها أو ردمها وزراعة أشجار نباتية فوقها ودعم المزارعين المحليين لعمل الغطاء النباتي.
تضاعف معاناة نساء المدينة
تشرح نعمة أحمد، معاناة سكان الحديدة بفعل هذه الأزمة، بالقول: "لا يمكنني النوم ليلًا مثل بقية الناس، منذ أكثر من خمس سنوات، المياه لا تأتي إلينا إلا في وقت متأخر من الليل في ظل الحاجة المتزايدة لها من قبل السكان في النهار؛ وبالتالي تصل المنازل حين يكتفون ويغلقون مواسيرهم"، مضيفةً: "أضطر لانتظار الماء حتى الثانية فجرًا، أحرص على تعبئة الجالونات البلاستيكية وأواني الطبخ حتى أستطيع أن أؤمّن حاجتنا من المياه طوال النهار. هذه هي مهمتنا كلّ يوم، وكذلك مهمة نساء الحي وأحياء كثيرة". بهذه العبارات تصف المواطنة نعمة أحمد (55 عامًا)، عن معاناة الكثير من النساء في المدينة.
وتضيف: "رجالنا لا يستطيعون السهر؛ لأنّهم يغادرون المنازل باتجاه أعمالهم في الصباح الباكر؛ لذا نحن من نقوم بهذه المهمة، تتضاعف معاناتنا في فصل الصيف، حيث ينقطع لأيام. الكثير منا يتكبد مرارة الأزمة بصمت".
"الفرصة الوحيدة التي يجدها السكان للنوم هي الليل؛ لأن الجو يكون لطيفًا نوعًا ما، على عكس النهار الذي تزيد فيه حرارة الجو، وأنا وكثير من نساء المدينة في الليل نسهر أمام صنبور الماء ننتظر حتى يصلنا، وفي النهار يسرق نومنا الحر"؛ وفق تعبيرها.
وهذا ما يؤكّده حافظ أحمد (اسم مستعار)، وهو أربعيني يسكن في أحد شوارع المدينة؛ أنّ زوجته تسهر حتى الفجر تنتظر حتى يزيد ضغط المياه، ليتسنى لها تعبئة كثير من الأواني الصفراء البلاستيكية التي باتت تجمعها من أقاربها منذ بدأت الأزمة قبل أشهر وباتت تحتل مساحة كبيرة من فناء المنزل.
حول الأزمة
تداول ناشطون في مدينة الحديدة أخبار في صفحاتهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي (فيسبوك)، أنّ سبب الأزمة هو عدم قدرة مؤسسة المياه في المدينة على توفير سعر مادة الديزل الذي يعتمد عليها في تشغيل مضخات المياه للمواطنين. وبعد فترة، تناول آخرون خبر حصول المؤسسة على دعم مالي لشراء الوقود، إلّا أنّ معاناة المواطنين ما زالت مستمرة.
الاجتماع الذي عقده محافظ المحافظة في حكومة أنصار الله (الحوثيين) في 1 أبريل/ نيسان، والذي ضمّ عددًا من المسؤولين، منهم مديرون في مؤسسة المياه والصرف الصحي، تناول بعض المشاكل التي تواجه المؤسسة؛ منها توقف الدعم من قبل بعض المنظمات الدولية، ما أدّى إلى عجزها في ضخ المياه للمواطنين، إلى جانب ارتفاع المديونيات المتأخرة للمستهلكين، والتي قُدّرت بأربعة مليارات عند المواطنين، ومثلها لدى القطاع الحكومي، ومليار ريال لدى القطاع التجاري.
هذا الأمر دفع موظفين من المؤسسة لمتابعة تحصيل رسوم الاستهلاك، إذ وجد الكثير من المواطنين عقبة كبيرة في الأحياء القليلة التي ما زالت تصلها المياه، وإن لم تكن بالشكل المطلوب، لعدم قدرتهم على السداد، نظرًا للظروف المادية القاسية التي يمرون بها.
محمد إبراهيم، أحد المواطنين الذين لم يستطيعوا دفع الرسوم منذ فترة طويلة، ما دفع موظفو المؤسسة إلى فصل عداد منزله، يقول: "لا أدري كيف أحل المشكلة؛ نحن بلا ماء وأطفالي وزوجتي يغتسلون باستمرار، بسبب حرارة الجو المرتفعة".
وقدر الاجتماع الذي عقده محافظ الحديدة، بشأن مناقشة أزمة المياه في المدينة، عدادات المياه المعطلة بـ20 ألف عداد، وهي مشكلة أخرى تواجه المؤسسة والمواطنين الذين يتهربون من استبدالها بأخرى، والسبب كما أفاد كثير منهم أنّ العدادات القديمة فواتيرها تصلهم بمبالغ معقولة، عكس العدادات الجديدة التي تتطلب منهم دفع مبالغ غير منطقية.