لم تجد السيدة سعيدة (39 سنة)، عاملة في إحدى المنازل، سوى العمل حتى تستطيع توفير ما يحتاجه طفلاها أحمد ونجلاء. تعيش سعيدة في إحدى الحارات الشعبية بمديرية الحالي محافظة الحديدة، ومع أنها تجد الكثير من المشقة والاستغلال، والعنصرية الفجة في المعاملة، فإنها تجد نفسها مجبرة على الاستمرار في سبيل إطعام طفليها وزوجها المريض.
وانتشرت في السنوات الأخيرة بشكل لافت مهنة العاملات في المنازل من فئة المهمشين اليمنيين إلى جانب عاملات من الصومال وإثيوبيا، فقد ساهمت الحرب والظروف المعيشية الخانقة في دفع المزيد من هؤلاء النسوة للعمل في المنازل.
نعمان قائد الحذيفي، رئيس الاتحاد الوطني للمهمشين والمجلس الوطني للأقليات في اليمن، تحدث لـ"خيوط"، قائلًا: "فاقمت الحرب من الأوضاع الاقتصادية السيئة لفئة المهمشين، ما دفع الكثير منهم للعمل في مهنة النظافة والعمل في المنازل وغيرها من المهن (المحتقرة) اجتماعيًّا، إذ تعمل الكثير من المهمشات بهذه المهنة، وإن بشكل غير منظم وواضح، نتيجة افتقار هؤلاء للمهارات المهنية التي عادة ما تتوافر كشروط في العاملات النظاميات، ولذلك تكاد لا تتوفر أي بيانات عن حجم هذه العمالة وما تتعرض لها من صعوبات وانتهاكات".
استغلال وتحرش
أم سليمان، خمسينية، من فئة المهمشين، تحكي لـ"خيوط"، الظروفَ التي دفعتها للعمل في المنازل منذ وقت مبكر من عمرها قائلة: "بدأت العمل في المنازل منذ تزوجت حيث حاولت مساعدة زوجي الذي يشتغل خياط أحذية، ليتحول عملي لضرورة ملحة مع إنجابي للأطفال".
وتتابع أم سليمان: "قضيت عمري في خدمة الناس ومساعدة ربات المنازل، لدرجة تأثر صحتي جراء بعض تلك المهام الشاقة، ما دفعني أحيانًا لإشعار ملاك المنازل الذين أعمل لديهم بأن يعفوني من بعض الأعمال والمهام دون أن ينتقص من راتبي، وكثير منهم يرفضون ذلك، ما يضطرني للقبول بالعمل أيًّا كانت المهام التي توكل إلي".
بالتظر إلى حجم ما تتعرض له المرأة العاملة (كخادمة) في المنازل من مضايقات وانتقاص لقيمتها وكرامتها، فإن الراتب الذي تتقاضاه غير كافٍ وغير منصف، لا من حيث ما تبذله من جهود بدنية طوال ساعات اليوم، ولا من حيث ما تواجهه من مضايقات وانتقاص قيمة، بل إنّ الأمر وصل إلى أن تعمل بعضهن مقابل الحصول على ما تبقى من طعام لهن ولأطفالهن.
وتستطرد أم سليمان القول: "في إحدى المرات، اتفقت مع إحدى ربات البيوت على غسل الأواني، وتنظيف المطبخ بعد العشاء طوال شهر رمضان، مقابل 80 ألف ريال، وهو مبلغ مغرٍ بالنسبة لي ولحاجتي، لكني تفاجأت بكمية الأواني الكثيرة، وهالني مشهد المطبخ الكبير والمقلوب رأسًا على عقب، الذي يحتاج لعاملتين إلى جانبي، لكن الحاجة إلى المال جعلتني أتحمل كل تلك المشقة، خاصة مع تراكم الديون عليّ، لقد كان العمل بمثابة فرصة لسداد ولو جزء منه، فالراتب كبير مقارنة بما كنت أتقاضاه من أعمال سابقة"؛ تنهي أم سليمان حديثها لـ"خيوط".
الهروب حفاظًا على الشرف
فيما تواجه الأخوات الثلاث فاتن ونعمة وزينب تحديات من نوع آخر، فبعد أن تقاعدت والدتهن التي كانت تعمل في البيوت إثر تقدمها بالسن، وتقاعد والدهن بسبب المرض حيث كان يعمل في تجميع علب المياه المعدنية وبيعها، وجدن أنفسهن مضطرات للعمل في البيوت لكسب لقمة عيش لهن ولوالديهن المتعبين، تروي فاتن (اسم مستعار)، بعضًا مما تعرضت له، قائلة: "بعد معاناة طويلة وجدت وأختاي عملًا في مناطق متفرقة، فيما كانت جارتنا تهتم بوالداي لحين عودتنا نهاية اليوم، كان العمل يستهلك قوانا تمامًا، لكننا لم نكن نملك خيارًا آخر لكسب لقمة العيش".
وتتابع حديثها لـ"خيوط": "بعد مضي خمسة أشهر على عملي، عاد أخو صاحبة المنزل من غربته، ليستقر عند أخته بعد وفاة والديه، حينها بدأ في مضايقتي والتحرش بي، حاول في مرات عديدة التلميح لي بأنه يريد مني شيئًا، وحين أخبرت أخته أكدت أن أخاها ليس بالصورة التي أتوهمها، إذ سبق ورفض الزواج، وذات صباح وبينما كان واقفًا أمام باب غرفته كشف عن عورته أمامي، أغلقت باب المطبخ عليّ حتى استيقظت أخته من النوم، هرعت إليها مستأذنة بالذهاب إلى أمي لظرف صحي، ومن حينها لم أعُد إطلاقًا رغم محاولاتها المتواصلة معي، أقنعتها أني في مدينة أخرى لعلاج أمي، وأنه يتعذر عليّ العودة".
أم ماجد (38 سنة)، هي الأخرى تعرضت للتحرش من قبل رب العمل، إذ كان يلمح لها باستمرار أنه يريد منها شيئًا مقابل رفع راتبها، وأنه سيتقدم لخطبتها، كان يقول ذلك باستمرار، أحيانًا على شكل مزحة، وعندما شكوت لأمه أن هذا الكلام يضايقني، وعدت الأم ألّا يتكرر هذا، تقول أم ماجد لـ"خيوط": "ذات يوم خرجت لتنظيف فناء المنزل ليظهر من أحد شبابيك الدور الأول يريني عورته، ذهبت إلى أمه وأخته أشكو لهن ما حدث، فاتهمتني زوجته بالوقاحة وأني أتبلى عليه، بعدها تم طردي ظلمًا".
تعيش أم ماجد مع ولدها ماجد وبنت أخرى في منزل استأجرته من أرملة مقابل 15 ألف ريال، تقول: "دفعتني قلة المهارات والتعليم إلى العمل في المنازل، هذه المهنة التي أتقنها للأسف، بالرغم أني عانيت فيها كثيرًا ما بين تحرش وإتهام بالسرقة، وتحمل مهام شاقة فوق طاقتي بمبالغ زهيدة للغاية لا ترقى لنصف الجهد المبذول".
من جهتها تحكي دلال (اسم مستعار)، قصة تعرضها للتحرش أثناء عملها في أحد المنازل، قائلة: "بينما كنت أعمل على غسل أواني المطبخ، هاجمني رجل من سكان المنزل الذي كنت أعمل فيه قاصدًا الاعتداء علي، كان الوقت صباحًا والكل نائم، لكن لحسن حظي أن سكّينة على الطاولة كانت قريبة من يدي، وحين حاصرني في زاوية المطبخ، أخذتها وشهرتها في وجهه".
وتتابع حديثها لـ"خيوط": "خاف وتراجع للخلف، وصحت أنا بصوت مرتفع أيقظَ كلَّ أهل المنزل، أتت إحدى شقيقاته وأخبرتها بالقصة، فأخذته وهي تصرخ في وجهه وتنادي والدتها ووالدها تشتكي إليهم. غادرت المنزل حينها ولم أعد، وحمدت الله أني لم أصب بأي أذى واستطعت الدفاع عن نفسي بشجاعة".
أشغال شاقة
سامية عبدالرحمن (ربة بيت)، تعيش في إحدى مديريات محافظة الحديدة، تحكي لـ"خيوط" قصة استغلال إحدى النساء في قريتها لفتاة من فئة المهمشين، قائلة: "إحدى النساء في قريتي، ظلت تبحث عن فتاة كانت تأتي لخدمتها ولم تجدها، كانت قد تعودت على مساعدتها، وهي فتاة مهمشة تبلغ من العمر 15 سنة، وهي من عائلة تعمل كل نسائها في خدمة الأهالي في الزراعة وفي الأعمال المنزلية".
تواصل حديثها: "كنت أخبرتها أن هناك كثيرًا من النساء والفتيات اللاتي يبحثن عن عمل، وأن بإمكانها استدعاء إحداهن، إلا أنها رفضت وقررت البحث عن رقم الفتاة نفسها أو إحدى شقيقاتها؛ لأنها تقوم بالكثير من المهام، وتتحمل كمية كبيرة من الحشائش والحطب والأعلاف، إلى جانب أنها تقوم بأعمال كثيرة دون أن تشترط مبلغًا مقابل الخدمة".
عنصرية وتمييز
من ضمن المعاناة التي تواجهها كثير من العاملات المهمشات في المنازل، النظرة الدونية تجاههن من قبل المجتمع، وهذا ما تؤكده ريحانة منصور (28 سنة)، عاملة منزلية من فئة المهمشين، في حديث لـ"خيوط": "حتى نظرات بعض النساء اللاتي نعمل لديهن، فيها سخرية وانتقاص، ففي العزائم النسائية مثلًا يتفاخرن بأن لديهن عاملات وأنهن غير معنيات بشيء في المقابل، وأحيانًا يصمتن حال دخولنا، وينظرن لبعضهن كأنهن كن يتحدثن عنا، وصل الأمر كذلك إلى نظرة الأطفال وتعاملهم معنا".
تقول ريحانة: "في 2018 نزحت مع أسرتي وبقية سكان حيِّنا في الحديدة إلى إحدى المدن المجاورة، حيث استأجرنا هناك منزلًا من أناس، لكنهم لاحقًا قرروا طردنا لكوننا مهمشين ونعمل في المنازل، مبررين ذلك بأن بعضنا يعود في ساعات متأخرة من الليل ما يجعلنا مشبوهين، وآخرون عللوا سبب قرارهم بالانزعاج من أصواتنا!".
وتشير ريحانة إلى أنّ هناك استثناءات، حيث قالت: "عملت في خدمة أسرة مكونة من زوجين وأربعة أبناء، كانوا يغدقون عليّ وعلى أسرتي بالعطايا والاهتمام، كانوا مثل أهلنا، غادروا المدينة، وقرروا الاستقرار في محافظة أخرى للأسف".
وتلفت عبير محمد (اسم مستعار)، وهي إحدى المواطنات الريفيات، الأنظارَ إلى أنه يستحيل أن يدخل قريتهم مهمش، تحديدًا من النساء، وأرجعت ذلك إلى حادثة قديمة حصل فيها شجار بينهم وبين بعض أفراد المهمشين منذ سنوات، قرر أهالي القرية على إثرها طرد المهمشين ومنع دخولهم أو حتى مرورهم من القرية، لتتوارث الأجيال المتعاقبة هذه القصة للأسف الشديد.
فيما يرى أحمد عبدالهادي، خمسينيّ، من إحدى المحافظات اليمنية، أن سلوك كثير من فئة المهمشين سببٌ في وضعهم هذا، إذ لا ينمون مهاراتهم، وإن أتيحت لهم فرصة لا يأخذونها بمحمل الجد، كما أن تصرفاتهم في كثير من المواقف لا تنسجم مع عادات وتقاليد وطبيعة المجتمع المحيط.
لا حقوق.. لا ضمانات
المحلل الاقتصادي، نبيل الشرعبي، يتحدث لـ"خيوط"، عن الفجوة بين واجبات العاملة وبين حقها الإنساني، قائلًا: "بالنظر إلى حجم ما تتعرض له المرأة العاملة (كخادمة( في المنازل من مضايقات وانتقاص لقيمتها وكرامتها، فإن الراتب الذي تتقاضاه غير كافٍ وغير منصف، لا من حيث ما تبذله من جهود بدنية طوال ساعات اليوم، ولا من حيث ما تواجهه من مضايقات وانتقاص، بل إنّ الأمر وصل إلى أن تعمل بعضهن مقابل الحصول على ما تبقى من طعام لهن ولأطفالهن، ومكافأة متواضعة عند حلول مناسبة ما".
يضيف أنّ هذه العمالة في بلدان غير اليمن، تعتبر عمالة مهمة ومنظمة، والعاملات فيها يتقاضين عوائد مجزية وحقوقهن مصونة ويتم معاملتهن مثل بقية العمالة في المجالات والقطاعات الاقتصادية المختلفة، ولهن نقابة خاصة وهن مشمولات بقانون العمل ويمكنهم مقاضاة أرباب العمل حال التعدي أو التلاعب بحقوقهم المادية أو الإنسانية.
من جانبه، يرى محمود سعيد كليب، رئيس مبادرة أساس لتنمية المهمشين، أنه يجب حماية حقوقهن عن طريق إلزام أرباب العمل بصياغة عقود منصفة، وتدريب هؤلاء العاملات وتأهيلهن وإكسابهن مهارات تساهم في تحسين ظروف عملهن، وعلى الدولة سَنّ قانونٍ يحمي حقوق العاملات في المنازل وفي الدوائر الحكومية والخاصة لضمان حقوقهن وحفظ كرامتهن الإنسانية.