يحدث في العادة عند انتهاء أيّ حرب أن تتوقف آلة الموت عن تقديم المزيد من الضحايا، لكن محافظة الحُديدة لم تزل تدفع فاتورة الحرب من أرواح ودماء أبنائها حتى اليوم؛ وذلك بسبب عدم نزع مخلفاتها، وتخاذل السلطة المحلية واللجنة الإشرافية التابعة للأمم المتحدة عن فعل ذلك، حيث إنهما لم تتحركا بجدية في عملية نزع الألغام تنفيذًا لاتفاق ستوكهولم، الذي يُعتبر ورقة رابحة للتخفيف من معاناة المواطنين. فُتحت الطرقات وأخليت جبهات القتال من المقاتلين، لكن رغم ذلك ظلّ نذير الموت يلاحقهم حتى عند عودتهم إلى مساكنهم ومزارعهم. صارت أصوات الألغام وفجائع المكلومين يوميًّا تذكرهم بالحرب وأصوات القذائف والصواريخ.
جاء اتفاق ستوكهولم لإيقاف النزاع بين المتحاربين في شهر أغسطس أواخر العام 2018م، حيث وقّع عليه طرفا النزاع -الحكومة الشرعية المعترف بها دوليًّا، وحكومة صنعاء أنصار الله (الحوثيين)- في السويد برعاية وإشراف الأمم المتحدة، لإنهائه ونزع الألغام حسب ما نصّت عليها بنود الاتفاقية؛ "ستشرف لجنة التنسيق على عمليات إعادة الانتشار والمراقبة، أيضًا على عملية إزالتها من الحديدة وموانئها الصليف ورأس عيسى". ولا تزال الأمم المتحدة حاضرةً وتلعب دورًا أساسيًّا في تنفيذ هذا الاتفاق، لكنها لم تحقّق أي تقدم من هذا سِوى قشة من كومة عش الطيور، صحيح بأنه تم إيقاف العمليات الحربية وتراجعت جبهات القتال بعيدًا عنها، بعد أن كانت تدور في أطرافها، لكن مخلفاتها لا تزال تحصد أرواح الأبرياء من ساكنيها.
بعد خمسة أعوام من توقيع اتفاقية ستوكهولم، كان من المتوجب أن تعمل لجنة الأمم المتحدة والسلطة المحلية على التخلص من الألغام ومخلفات الحرب قبل سقوط المزيد من الضحايا.
في شهر سبتمبر من العام 2022، تفاجأ سكان في منطقة خلفية لمصانع إخوان ثابت بسماح صوت انفجار شديد لم يعهدوه منذ أشهر طويلة، وحين سارع بعضهم إلى موقع الانفجار وجدوا أشلاء جثة رجل كان ذنبه الوحيد أنه صدّق إشعارًا من السلطة المحلية بأن المكان خالٍ من الألغام بعد انسحاب القوات المتحاربة منه.
ذهبت حياة شخص بريء بسبب تساهل السلطة المحلية. فقدَ المواطن إبراهيم محمد حسن الأهدل روحه بعد أن ذهب مطمئنًّا بأن الخطر عن تلك المنطقة قد زال، ذهب ليبحث عن مصدر رزق كان يعمل فيه قبل قيام الحرب، لكنّ لغمًا استقبله ليعود إلى أسرته أشلاء متطايرة وخلفه دماء ملأت الأرض التي كان يعمل بها، ذهب في رحلة لم تكن في حسبانه أنها رحلة موت، وليست رحلة للبحث عن مصدر رزقه السابق.
وغير الضحية إبراهيم الأهدل، هناك عشرات الضحايا الذين حصدتهم الألغام في رحلة العودة إلى مساكنهم التي شرّدتهم منها العمليات العسكرية في مناطق الدريهمي، وكيلو 16، والتحيتا، والجراحي، والخوخة، وغيرها.
يتحدث مواطن يملك مزرعة تبعد عن المدينة بعشرة كيلو فقط، وكانت على مقربة من إحدى الجبهات المشتعلة في أطرافها، عن أنّ هذه المزرعة كانت قبل الحرب تدرّ عليه دخلًا يغطي به التزاماته الأسرية، وحين أراد العودة إليها بعد توقف المعارك وتطمينات الجهات الرسمية، وجدها مملوءة بالألغام، بحسب بعض الإشارات التي وضعتها اللجنة المسؤولة عن رفعها.
بعد خمسة أعوام من توقيع اتفاقية ستوكهولم، كان من المتوجب أن تعمل لجنة الأمم المتحدة والسلطة المحلية على التخلص من الألغام ومخلفات الحرب قبل سقوط المزيد من الضحايا؛ لذا يجب عدم التغاضي والتهاون في تصفيتها تمامًا، فبقاؤها يزيد معاناة المواطنين ويبشّر بحصد المزيد من الأرواح البرية.
وتتحمل السلطة المحلية التابعة لحكومة صنعاء واللجنة التابعة للأمم المتحدة المسؤولية الكاملة في سرعة تنفيذ إجراءات نزعها، ورفع بقية المخلفات، وتأمين المناطق المؤهلة لعودة سكانها بعيدًا عن مصادر الخوف والقلق.