رام الله- فراس الطويل
يبدو الجهاز الصحي في الضفة الغربية مرهقاً، نتيجة الأعداد المتزايدة من مصابي فايروس "كورونا". ففي منتصف كانون الأول/ ديسمبر 2020، وصلت المستشفيات الحكومية والخاصة ومراكز علاج مصابي الفايروس الـ23 في الضفة الغربية، إلى 100 في المئة من طاقتها الاستيعابية، ما يجعلها عاجزة عن استقبال حالات جديدة بحاجة للعناية المكثفة أو أجهزة التنفس الاصطناعي، وفق الناطق باسم وزارة الصحة الفلسطينية د. كمال الشخرة. وهذا واقع يضع الجهاز الصحي برمته على بعد خطوة واحدة من السيناريو الأسوأ.
التحول الكبير في مسار الوباء بدأ في أيلول/ سبتمبر 2020، عندما قفزت الوفيات إلى 195 وفاة مقارنة مع 88 في شهر آب/ أغسطس الذي سبقه. وإذ بدا أن العدد تراجع قليلاً في تشرين الأول/ أكتوبر، وبلغ 187 حالة، فذلك لأن عدد فحوص الكشف عن الفايروس تراجعت نتيجة نقص المواد اللازمة لإجرائها. وعاد المنحنى ليقفز مجدداً في تشرين الثاني/ نوفمبر، إلى 267 وفاة، ثم 285 في الأسبوعين الأولين من كانون الأول/ ديسمبر. أما العدد الإجمالي من المصابين في الفترة نفسها فبلغ 126 ألف إصابة، وفق بيانات وزارة الصحة.
دفعت هذه المعطيات الحكومة الفلسطينية إلى اتخاذ بعض الإجراءات في نهاية شهر تشرين الثاني/ نوفمبر، بدأت بالإغلاق الليلي ويومي الجمعة والسبت لكل المحافظات، وتطورت إلى الإغلاق الشامل لأربع منها بعد 10 أيام من الخطوة الأولى. وترافق الإغلاق مع افتتاح أقسام جديدة لمرضى "كورونا"، وتوفير أجهزة إضافية للتعامل مع الحالات الخطرة، والإعلان عن تشديد العقوبات بحق مخالفي الإجراءات الحكومية، بهدف منع الانزلاق نحو الأسوأ. وتطورت الإجراءات الحكومية إلى إغلاق المدارس ومنع التنقل بين المحافظات وتقليص حضور الموظفين في مختلف القطاعات إلى 30 في المئة حتى بداية العام الجديد.
لكن ما هو هذا الأسوأ المحتمل وهل نحن فعلاً على بعد خطوات منه أم بلغناه فعلياً؟
السيناريو الكارثي للحالة الوبائية يتمثل بإصابة عدد كبير من الكوادر الطبية، في ظل نقص عددهم أصلاً، وهو 1.2 طبيب لكل ألف نسمة، وبالتالي عدم قدرة الطواقم على التعامل مع الأعداد المتزايدة من المصابين فيما يزيد فصل الشتاء من خطر الوباء
السيناريو الأسوأ
يتفق اختصاصيو الأمراض السارية والمعدية على أن السيناريو الأسوأ يتمثل بعدم قدرة الجهاز الصحي على استيعاب الأعداد المتزايدة من الحالات الخطرة المحتاجة للعناية المركزة وأجهزة التنفس الاصطناعي، خصوصاً من ذوي الأمراض المزمنة وكبار السن وأصحاب المناعة المنخفضة. ولعل الأخطر، هو تزايد أعداد المصابين في صفوف الكوادر الطبية، إذ وصل عددهم إلى 295 حالة نشطة (حتى تاريخ 10/12/2020).
ويرى د. علي سباتين، اختصاصي في الأمراض السارية والمعدية وعضو اللجنة الوبائية الفلسطينية، أن الانهيار الفعلي للمنظومة الصحية سيحدث لدى الوصول إلى مرحلة المفاضلة بين المرضى المصابين بالفايروس لاختيار من لهم الأولوية في تلقي العلاج عبر أجهزة التنفس الاصطناعي، محذراً من أن هذه المرحلة لا تبدو بعيدة إذا ما استمر المنحنى الوبائي على حاله، خصوصاً أن معظم المستشفيات لم تعد قادرة على استيعاب حالات جديدة في العناية المكثفة. ووصلت نسبة الوفيات إلى 0.9 في المئة من إجمالي الإصابات، وسيكون السيناريو الأسوأ أمراً واقعا إذا وصلت النسبة إلى 3 - 4 في المئة، بحسب سباتين.
ويتفق د. فتحي أبو مغلي وزير الصحة الأسبق مع سباتين، ويضيف أن السيناريو الكارثي للحالة الوبائية يتمثل بإصابة عدد كبير من الكوادر الطبية، في ظل نقص عددهم أصلاً، وهو 1.2 طبيب لكل ألف نسمة، وبالتالي عدم قدرة الطواقم على التعامل مع الأعداد المتزايدة من المصابين فيما يزيد فصل الشتاء من خطر الوباء، مع تزايد أعداد أكبر بالإنفلونزا الموسمية، ما يؤدي بالضرورة للضغط على الجهاز الصحي المرهق أصلاً.
ولتفادي حالة الانهيار، يشدد سباتين على ضرورة أن تأخذ الحكومة بتوصية اللجنة الوبائية الفلسطينية بإغلاق الضفة لمدة أسبوعين متواصلين، من أجل السماح للجهاز الطبي بالتقاط أنفاسه، ويشير إلى أن الإغلاق لا يحل المشكلة، لكنه يؤجلها بعض الوقت ويتيح للحالات الصعبة الاستفادة من غرف العناية المكثفة وأجهزة التنفس. واعتبر أن الإغلاق يساهم ولو جزئياً في تحقيق التباعد لكسر دائرة تفشي الفايروس، لا سيما أن فترة حضانته تصل أسبوعين.
ويدعو الوزير الأسبق أبو مغلي إلى تشديد الإجراءات الرقابية بدل اللجوء إلى سياسة الإغلاق نظراً إلى أن الاقتصاد الفلسطيني غير مؤهل لتعويض المتضررين. ولفت إلى ضرورة الاعتماد على وعي المواطن بزيادة منسوب التوعية من مختلف الجهات الحكومية والخاصة والأهلية. وأضاف منتقداً ضعف الإجراءات الرقابية: "الرقابة لم نرها على الأرض بالشكل المطلوب، فالمؤسسة الأمنية لم تكن حاضرة على الأرض كما يجب، ولم تتبع أقصى درجات المساءلة بموجب قانون الطوارئ المعلن في فلسطين منذ رصد الوباء في فلسطين في آذار/ مارس الماضي".
واعتبر أن "التشدد في الرقابة بالتوازي مع رفع التوعية والسعي نحو توفير اللقاحات من شأنها السيطرة على الحالة الوبائية، في ظل الحالة الرخوة وما يعتريها من اعتبارات سياسية وعشائرية وتمييز في تطبيق الإجراءات". والأهم من ذلك بنظر الوزير الأسبق هو فتح مراكز جديدة لعلاج المصابين، وتدريب أعداد أكبر من الكوادر الطبية مع توفير الأجهزة اللازمة، وضرورة الانتباه إلى عدم إغفال المرضى الآخرين غير المصابين بالفايروس، حتى لا نصل إلى مرحلة (من لم يمت بكورونا مات بغيره)"، قال أبو مغلي.
وينادي نقيب الأطباء د. شوقي صبحة، بحماية الفئات الأكثر تعرضاً للخطر من الفايروس وهي كبار السن والمرضى، لا سيما أن 80 في المئة من المصابين لا تظهر عليهم أعراض، و4 في المئة فقط يحتاجون لرعاية حثيثة، نصفهم يعاني من أمراض مزمنة. واعتبر أن كلمة السر في تجاوز المرحلة الصعبة هي الالتزام الطوعي بالإجراءات الوقائية بارتداء الكمامات والحرص على التباعد.
من يتابع مسار الوباء لا يفوته التراخي الحكومي في تطبيق البروتوكولات الصحية لمختلف القطاعات وضعف الالتزام بالإجراءات الوقائية كارتداء الكمامات والحفاظ على التباعد
كبار السن في مهب الريح
في بداية شهر كانون الأول/ ديسمبر 2020، أدخل محمد سليمان (70 سنة) إلى مستشفى سلفيت الحكومي بعد ظهور أعراض "كورونا" عليه. كان يعاني مشكلات تنفسية وارتفاعاً في درجة الحرارة وهو مصاب أساساً بفشل كلوي. لم يحصل سليمان على سرير للعناية المكثفة في المستشفى، ولم يتم تحويله إلى مستشفى آخر، بعد رفض المستشفيات الحكومية والخاصة، استقباله بداعي عدم توفر أسرة فارغة. لم تمض ساعات حتى أعلن عن وفاة الرجل وسُجل تحت بند وفيات "كورونا" التي تجاوزت ألف حالة في الضفة الغربية حتى منتصف الشهر ذاته.
لم يختلف الحال بالنسبة إلى رندة سقف الحيط (75 سنة)، التي نقلت إلى مستشفى في نابلس مكان سكنها، بعد شعورها بضيق تنفس شديد وارتفاع حرارتها إلى حدود الأربعين. وبقيت تنتظر ساعات لحين شغور سرير في قسم العناية المكثفة بعد تحسن طرأ على حالة أحد المرضى، فالمستشفيات التي تم التواصل معها أكدت أن لا شواغر لديها لاستقبال حالات جديدة. بقيت في العناية المركّزة 17 يوماً قبل إعلان وفاتها.
في الأشهر الستة الأولى من تفشي الوباء في فلسطين، كان البروتوكول الصحي ينص على ضرورة فحص المخالطين، إلا أنه تغير مع نهاية تشرين الأول/ نوفمبر، ليقتصر على الذين يعانون من أعراض الفايروس، وهذا معناه خروج خريطة التفشي عن السيطرة بارتفاع مذهل في الإصابات والوفيات. وفي تفسير ذلك، أرجعت وزيرة الصحة د. مي الكيلة السبب لمعاناة معظم المتوفين من أمراض مزمنة، وحاجة حالات أخرى للأوكسجين بسبب معاناتها من أمراض في الجهاز التنفسي، فيما يصل عددٌ آخر من مرضى "كورونا" إلى المستشفى، في مرحلة متقدّمة من المرض، بعدما تصل الرئتان إلى مرحلة اللاعودة، على حد تعبيرها.
لكن من يتابع مسار الوباء لا يفوته التراخي الحكومي في تطبيق البروتوكولات الصحية لمختلف القطاعات وضعف الالتزام بالإجراءات الوقائية كارتداء الكمامات والحفاظ على التباعد. ففصل الصيف مثلاً شهد حفلات أعراس في البيوت بسبب إغلاق صالات الأفراح، وافتتحت بيوت العزاء في مختلف التجمعات، فيما كانت الأسواق مفتوحة بلا ضوابط، لتكون النتيجة في الخريف تضاعف أعداد المصابين والوفيات. وحصل ذلك، على رغم تحرير الشرطة الفلسطينية 154 ألف مخالفة لغير الملتزمين بالإجراءات الاحترازية في الضفة الغربية بحسب الناطق باسم الشرطة لؤي ارزيقات، وتركزت معظم المخالفات في مراكز المدن، أما الأرياف والمخيمات فكانت الرقابة فيها ضعيفة جداً.