حتى السادسة من مساء الأربعاء، 25 سبتمبر، كنتُ متمسكًا بالأمل أن يتجاوز محنته، رغم معرفتي الأكيدة بأن حالته صعبة للغاية بعد أن تعطلت معظم وظائف جسده، ظهرًا.
حسن عبدالوارث، مات في السادسة والنصف على سرير في غرفة العناية الفائقة بمركز القلب بمستشفى الثورة بصنعاء. خبرٌ تحاشيت سماعَه حتى لا تتهتك صورة أحب الأصدقاء بفاجعة الموت.
قبل أسبوع من نقله لمستشفى الوسام، مررت على مقهى الدغيش بشارع هائل، حيث يتواجد في بعض الصباحات، لعلّي أراه بعد أكثر من شهرين من زيارته الخاطفة لمقهى الدملؤة، حيث اشتاق لأصدقائه، كما قال، فمر علينا. كانت تواصلاتنا الهاتفية بين الحين والآخر هي التي تخفف عدم التقائنا فترات طويلة، وخصوصًا بعد أن انتهينا من مشروع دراسة الآثار المتبادلة للهجرة اليمنية قبل عامين، وانشغالي المتواصل في منصة "خيوط".
خلال العام الأخير، لم تكن حالته الصحية على ما يرام، وكنتُ أعزوها بدرجة رئيسية إلى الحالة العامة التي تستولد مثل هذا الوضع الكارثي. كنت أعرف أنه يعاني من بعض الأمراض غير المقلقة (نقرس، وبروستاتا، وسكر)، ولم أكن أعرف أن أخرى فتاكة بدأت تتسلل إلى قلبه ورئتيه وكبده، ولم يبُح بها لأحد.
بدأت علاقته بالكتابة الأدبية والصحفية وهو في مطلع العشرينيات من موقع الشاعر، الذي ظل كامنًا فيه يتسلل إلى جمل مقالاته وأنساقها بتصاويرها الباذخة، حتى صارت أعمدته الصحافية -(نصف عمود)، ولاحقًا (مزهر)- سياقات متقطرة من الشعر ببلاغته وكثافته ونفاذه الآسِر.
عن مواقف لا تتكرر
أجملُ أصدقاء العمر وأكثرهم نبلًا وشهامة. عرفته قبل ثلث قرن، حينما كنت أرسل له موادًّا صحفية من مدينة عمران، حين كنت أعمل مدرسًا فيها في العام 1991، لنشرها في الثوري حين كان يشغل موقع سكرتير التحرير بها بعد انتقالها إلى صنعاء مع أشهُر الوحدة الأولى. وفي محنة صيف 1994، لم يبرح صنعاء، وكنت ألتقي به في بعض أيام الحرب مع جاري أحمد صالح باشراحيل، الذي كان هو الآخر أحد أعمدة الثوري وقتها، وحين أُعيد ترتيب إصدارها من جديد بعد أشهر قليلة من حرب 1994، منحها حسن ورفاقه روحًا مشعة، بعد أن ظن الجميع أن الحرب قد قضت على كل روح الحزب الاشتراكي وصحيفته.
لم أزل أتذكر له موقفًا نقابيًّا كبيرًا، حينما حضر إلى مقر اتحاد الأدباء في 1998، لتقديم استقالته من عضوية المجلس التنفيذي للاتحاد، الذي انتخب لعضويته في المؤتمر العام السادس، متمسكًا بالنظام الداخلي الذي كان يمنع الجمع بين موقعين قياديين في الاتحاد ونقابة مشابهة؛ لأنه كان قدر صار عضوًا في مجلس نقابة الصحفيين، ووكيلها الثاني.
وشخصيًّا لم أزل مدينًا له بالكثير من مواقف الشهامة، ومنها منحي فرصةَ عمل في "مجلة الموقف"، رئيسًا للقسم الثقافي مطلع الألفية -دون أن أطلب منه ذلك- حينما كان نائبًا لرئيس التحرير، وكنتُ وقتها بلا عمل، وبراتب حكومي بالكاد يفي بإيجار المسكن الذي أقطنه مع زوجة وطفلين.
عن الديوان الأول
وعودة إلى تجربة حسن، المولود في مدينة عدن في العام 1962، والمتوفَّى في صنعاء عن 62 عامًا، وفي الذكرى الـ62 لثورة سبتمبر، كما تتبع ذلك الفنان عدنان جمن في واحد من منشوراته:
"بدأت علاقته بالكتابة الأدبية والصحفية وهو في مطلع العشرينيات من موقع الشاعر، الذي ظل كامنًا فيه يتسلل إلى جمل مقالاته وأنساقها بتصاويرها الباذخة، حتى صارت أعمدته الصحافية (نصف عمود، ولاحقًا مزهر) سياقات متقطرة من الشعر ببلاغته وكثافته ونفاذه الآسر.
حضر إلى مقر اتحاد الأدباء في 1998، لتقديم استقالته من عضوية المجلس التنفيذي للاتحاد، الذي انتُخِب لعضويته، متمسكًا بالنظام الداخلي الذي كان يمنع الجمع بين موقعين قياديين في الاتحاد ونقابة مشابهة؛ لأنه كان قدر صار عضوًا في مجلس نقابة الصحفيين، ووكيلها الثاني.
لم أزل أتذكر العنوان الذي اختاره لديوانه الأول الذي كان يعدّه للنشر أواخر الثمانينيات، لكنه لم يرَ النور بسبب أنّ (حسن) رأى في قصائده وقصائد مخطوطات ثلاث أخرى تجاوزًا طفوليًّا فاضحًا، كان العنوان الذي اختاره وقتها "عصفورة الندى"، وتناول محتواه عندما كان مخطوطًا مطلع التسعينيات، أستاذُنا الجليل الراحل عبدالعزيز المقالح، بكثير من الحماس والإعجاب.
غير أن الديوان الأول المطبوع لحسن سيصدر في العام 2003، بواسطة الهيئة العامة للكتاب، بعنوان (ما خَفِيَ من التفاصيل)، قال في مقدمته:
"احترت أية مخطوطة من مخطوطاتي الشعرية الأربع، أرشح للظهور!
وحين رحت أخرجهن من ركام الغبار في أدراج مكتبي المنزلي، وأطالعهن، وأعيد قراءتهن، ازدادت حيرتي. كانت (عصفورة الندى) أولى هذه المجموعات، أنجزتها بين 1985 و1987. وبين 78 و94 أنجزت المجموعتين: الثانية (حدث ذات قبلة)، والثالثة (ما تعسّر من سورة الملوك)، وكانت المجموعة الرابعة (انهمارات ح.ع) بنت الفترة 94-98. غير أني اهتديت أخيرًا إلى أن أقطف من كل بستان زهرة أو شوكة، فشرعت أختار بحذرٍ حينًا، وبغضب أحيانًا، وبحب تارة، قصيدة من هذه المجموعة، وأخرى من تلك. وها هي بين أيديكم، بعد أن آثرت أن أختار لها عنوان (ما خفي من التفاصيل)، ولا أدري لماذا وقع هذا الاختيار".
في هذه المجموعة، ستظهر قصيدة (عصفورة الندى) بكل عفويتها، كأحد نصوص المجموعة المذابة، ولن تحمل عنوان المجموعة كما أراد لها الشاعر أن تكون قبل ذلك بعقد ونصف من السنين:
"ها قد بدا/ في أفقكَ المهجور/ عصفور الندى/ مهللًا/ مبلَّلًا/ مغردًا/ يسقيكَ من منقاره الغضِّ/ رحيقًا من جنون/ وهُدى/ ويحط في شفتيكَ/ يلهو/ أم ترى يزهو؟!/ فتبدو/ مثل حقل/ بعد غيث/ ناضرًا.. متوردًا".
أما قصيدة المفتتح في مجموعة (ما خفي من التفاصيل)، فحملت عنوان (اختيار)، حيث سيكون الموت هو ثيمة الاختيار القاسي.
"سأختار موتي/ على شفةٍ../ أو قصيدة/ وانتخب الساعة المشتهاة/ وأفترش الساحة المصطفاة/ وأختار حبر الرثاء/ طقوس العزاء/ وورد الضريح/ ونعي الجريدة.
سأختار موتي/ على شفةٍ../ أو قصيدة/ وأكتب شاهدتي: كان يومًا صهيلًا/ تشظى نهارًا/ سواحل نامت/ على نصلها/ قرية من عذارى/ وأرضًا/ ترامت على منكبيها/ دويلةُ حرب عتيدة.
سأختار موتي/ على شفةٍ../ أو قصيدة/ وأُعلن أنَّي/ خَلقْتُ/ من الشعر/ والعشق/ والحزن/ أسمى قصيدة".
هذه القصيدة مذيلة بتاريخ 1993، وكُتبت بصنعاء، وأكثرنا يعرف أيّ عام هو ذلك الذي مهّد للأزمة العاصفة التي قادت إلى حرب صيف 1994، التي كانت كما تنبأ؛ أن الأرض برمتها ستترامى على منكبيها دويلةُ حرب عتيدة.
الاستطالة الغنائية في النص، كانت لم تزل تقتفي أثر تقنية شعر الثمانينيات بانجرافه الوزني والتصويري، وكلها تلهث خلف خيار الموت المبكر الذي ترصده قبل ثلاثين عامًا من التحقق الفيزيقي، وفي ذات الفضاء المكاني الذي استولدها بوضوح.
خلال العام الأخير، حالته الصحية لم تكن على ما يرام، وكنت أعزوها بدرجة رئيسية إلى الحالة العامة التي تستولد مثل هذا الوضع الكارثي. كنت أعرف أنه يعاني من بعض الأمراض غير المقلقة، ولم أكن أعرف أن أخرى فتاكة بدأت تتسلل إلى قلبه ورئتيه وكبده، ولم يبُح بها لأحد.
عنوان المخطوطة الرابعة التي فكّكها حسن وهو يبحث عن شخصيته الشعرية المكتملة في ديوان واحد، كان (انهمارات ح. ع)، فصارت هي الأخرى قصيدة مستقلة بنفسها في ذات المجموعة:
"رمل البداوة في دمي/ رمل القصيدة في فمي/ والقيد ينهش معصمي/ وأنا الذي/ لا حول لي/ لا قول لي/ نار القبيلة تصطلي في مولدي/ في مأتمي/
لم يبقَ في غصني ندى/... أُفقي مدى/... جلدي نساءْ/ فالصبح صادره التترْ/ وصادروا بلبل المساءْ/ واللحن في شفة الوترْ/ والصوت، حتى، والصدى/
نهرٌ تسلق شرفتي/ وانداح فيضًا من هديل/ وقبل أن يصفو الصهيل/ سلبوا الأغاني ريشها/ والناي ماء الحنجرة، وبد الندى مبددًا/ والعطر دامي الذاكرة".
لا أدري كيف أنّ الصورة التي تقفز إلى ذهني عند قراءة مطلع القصيدة، تتشكل على هيئة ساعة رملية ، موضوعة على طاولة أحد الحكماء، تشير إلى الوقت بانهمار الرمل من دورقها الأعلى إلى الأسفل ، مثل دورة حياة لا متناهية، تحمل في طيّاتها أيضًا الموت المكتمل، الذي يأتي على هيئة رمل بداوة في الدم، أو رمل قصيدة في الفم، أو قيد ينهش المعصم.
المخطوطة الثالثة التي كانت تحمل عنوان (ما تعسَّر من سورة الملوك) ستظهر هي الأخرى كقصيدة مذابة، في ذات المجموعة:
و"إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها"/ وعاثوا بكل الصباحات فيها/ وشقُّوا خيام السماء/ .../ .../ .../ وتهمس عذراء هذي الرياح:
قرأنا دمًا في الجريدة/ سمعنا انطفاء الرياحين/ في مطلع نازف/ في القصيدة/ رأينا الأغاني مُكبّلةً/ والصباح/ تلونا النشيج المُراق/ على صهوة/ من دماء.
وعلى مدى أربعة عقود تقريبًا، بقي حسن عبدالوارث واحدًا من الأسماء التي أنتجت تجربة صحافية مائزة، وتحديدًا كتابة العمود الصحفي حين بيّن رشاقة الأسلوب ووضوح الفكرة واقتصاد اللغة. كتابة تحسست موضوعاتها من معاناة الناس وانحازت لهم.
المخطوطة الثانية التي حملت عنوان (حدث ذات قبلة)، ستظهر بوصفها مجموعة شعرية ثانية (مطبوعة)، أصدرها الشاعر بواسطة مركز عبادي في العام 2006، مشتملة على ثلاثين نصًّا، كُتبت بحسب إشارة الشاعر، خلال عقدي الثمانينيات والتسعينيات أيضًا.
هذه التجربة الشعرية المهمة (التي قذفت بصاحبها باكرًا في عالم الصحافة وكتابة العمود المختلف)، بحاجة إلى معاينة أكبر وغوص أكثر في مراجعها وشواغلها الأسلوبية المديدة، والتأثير الجيلي وحواضنه الثقافية، ولا أظن مناسبتها في هذه المقاربة العجولة.
وعن كتابين باذخين
منذ ظهر بصفته كاتبًا صحافيًّا شابًّا بأسلوب مختلف منتصف الثمانينيات، وازداد شهرة مع عموده الأشهر (نصف عمود) الذي كان يكتبه في صحيفة (صوت العمال) الأسبوعية وهو في الرابعة والعشرين من العمر، وتحديدًا بعد كتابته عمود (السلم والثعبان) حينما أسقط الحالة السياسية بكل رمزيتها على اللعبة الكلاسيكية القديمة التي تحمل ذات الاسم- لم يخفت بريقه كاتبًا جديدًا ومتجددًا يتقوى بالقراءة الجادة والمتنوعة في مكتبةٍ ظل يراكم على رفوفها كل جديد.
وعلى مدى أربعة عقود تقريبًا، بقي حسن عبدالوارث واحدًا من الأسماء التي أنتجت تجربة صحافية مائزة، وتحديدًا كتابة العمود الصحفي، حيث جمع بين رشاقة الأسلوب ووضوح الفكرة واقتصاد اللغة. كتابةٌ تحسّسَت موضوعاتها من معاناة الناس وانحازت لهم. كانت صوتًا لجلد الظواهر الفاسدة في المجتمع ومن يروّج لها أو يتبناها. كان يعاينها بعين المبدع وعقل المثقف ونزاهة الكاتب، ولهذا جاءت محملة بأنفاس المتعبين وأحلامهم.
ففي هذه الأيام، وفي هذا البلد، يموت الناس من الجوع (حقيقة، لا مجازًا) ومن الوباء، ومن نيران المعارك الداخلية والعدوان الخارجي، ومن أسباب كثيرة ذات صلة عضوية مباشرة ووطيدة بالحرب والفقر. ثم يأتيك أنطوانيتيّ سافل ليُنذرك بوجوب عدم الشكوى من الجوع أو الفاقة، أو من أنّ راتبك مقطوع، أو من أن الطعام إما معدوم أو باهظ الثمن، بل من أن أطفالك لا يفقهون أدنى معنى لمفردات: العدوان والشرعية والانقلاب، بل لا يفهمون أيّ معنى لكلمة "وطن"!
.
.
– اللي يشتي راتب سنكسر لقفه!
– اللي يشتي راتب يسير الجبهة!
– اللي يشتي راتب كاذب، فاليمني عمره ما اعتمد على الراتب!
هذا ما تسمعه من أنطوانيت صنعاء، فيما تسمع لهجة قرينة من أنطوانيت عدن:
– اللي يشتي راتب لازم يثور على الانقلاب!
– اللي يشتي راتب لا يخضع لحكم الحوثي وعفاش!
– اللي يشتي راتب ينزل يستلمه من عدن!
ثم تُولّي وجهك شطر صنعاء وعدن، فتدهش من انتفاخ تخمة السلالات الأنطوانيتية في المدينتين!
هذا ليس الوطن..
هذي رائحة عفن!
هذا مقتطف قصير من عمود لحسن، منشور في أغسطس 2017، في موقع يمن مونيتور بعنوان "ليش ما تاكلوش بسكوت؟!".
في سنة واحدة، وهي 2008، أصدر الراحل حسن كتابين لبعضٍ من مقالاته الأُوَل، حمل عنوان "السلام تحية"، والثاني عنوان "حديقة الحيوان اليمنية"، ويتبقى جمع إرثه الكتابي الذي راكمه خلال السنوات اللاحقة الممتدة من 2008 إلى 2024، والذي أظنه، في حال صدوره في كتاب واحد أو مجموعة من الكتب، سيكون إحالة مهمة إلى هذه التجربة وهي في أوج نضوجها، بما فيها كتاب "الكشكول الساخر"، الذي اشتغل عليه الراحل مديدًا، وهو دراسة ونصوص عن السخرية في الشعر العربي، واهتمامات حسن بهذا الجانب يتأسس أيضًا على نزعته الكتابية التي تحمل قدرًا عاليًا من السخرية، تتجلى في أكثر مقالات الكتابين.