"هنا واحد من المواقع الأثرية والتاريخية المهمّة، ليست في تاريخ ذمار واليمن فحسب، بل في تاريخ الإنسانية"؛ قال أستاذ اللغات السامية القديمة بجامعة ذمار، خلدون هزاع نعمان، وهو يشير إلى موقع جبل هران المطلّ على مدينة ذمار من جهة الشمال، لدى رحلة علمية لطلاب وطالبات قسم التاريخ والعلوم السياسية، بكلية الآداب، جامعة ذمار.
بعد عام من تلك الرحلة العلمية، تغيّرت ملامح المكان، وتحوّلت الكثير من التفاصيل التاريخية والأثرية الموجودة، إلى استراحات وحدائق ومساحات لألعاب الأطفال، بفعل وتيرة العمل المستمرّ لتحويل المكان إلى حديقة ومتنفس عام.
أمر يراه المدوّن علي الضياني، طمسًا للماضي من أجل اللحظة الراهنة، إذ يقول لـ"خيوط": "الذي يحدث لا يسير بالشكل الصحيح، بل تمرّ الأمور بشكلٍ شبه عبثيّ، فتغيير هُوية المكان وتغيير ملامحه الأثرية لصالح اللحظة الراهنة، لا يبدو أنّه ينم عن ضالة الوعي، بل تفريط بالإرث التاريخي للإنسان اليمني، الذي شهد المكان جزءًا كبيرًا من تفاصيله.
ويدعو الضياني إلى وقف ما وصفه بـ"العبث"، لأنّ إيجاد متنفس في مكان له دلالة تاريخية، وفيها شواهد أثرية غير مجدية، والأفضل تحويل المكان إلى مكان عام يضمّ متنفسًا، مع الاحتفاظ بخصوصية وقداسة المكان التاريخية.
صندوق النظافة والتحسين بمدينة ذمار، المعني بعمل التحديثات لتحويل المكان إلى حديقة عامة تضمّ عددًا من الأقسام، منها "حديقة مخصصة للنساء"- يشير أحد مسؤوليه، في حديث مقتضب لـ"خيوط"، إلى أنّ أعمال الحفرية والتجهيزات وحتى إنشاء الألعاب والاستراحات، كانت تمر عبر مخططات دقيقة يطّلع عليها خبراء في الآثار، للحفاظ على الهُوية الأثرية للموقع.
وخلال الثلاث السنوات الماضية، تم إنشاء حديقتين في أعلى جبل هران، وإنشاء حديقة مائية تضمّ شلال مياه صناعي، بالإضافة إلى إعادة تأهيل "فندق هران"، وتحويله إلى "كافتيريا" لخدمة الزائرين للمكان، مع إضافة نحو 15 استراحة صغيرة (مكان للمقيل) تطلّ نوافذها على مدينة ذمار، ويستقبل المكان المئات من الزائرين يوميًّا، منهم الذين يقضون وقت العصر للمقيل على سيارتهم ومركباتهم المختلفة، التي تصطفّ لمواجهة المدينة في المساحات المستوية لجبل هران.
هران" يمثّل موقعًا خصبًا للدراسات والباحثين، لكون الموقع يضمّ عددًا كبيرًا من المقابر الصخرية وصهاريج لحفظ المياه، وتحويل المكان إلى موقع متحف مفتوح ومزار للسكان، لكن وفق اشتراطات ومعايير محددة وصارمة منها عدم البعث بالملامح الأثرية.
ويعتبر خبراء ومختصون وأكاديميون، أنّ موقع "هران" بمدينة ذمار من أفضل النماذج التي تمتلك مقومات يمكن من خلالها تجاوز تحويله إلى مكان ترفيهي، أو متنفس لسكان مدينة ذمار فحسب، بل يمكن تحويله إلى مكان سياحي (متحف مفتوح) يقصده –إلى جانب سكان المدينة– هواة الآثار، والباحثون، وطلاب العلم وغيرهم.
الأكاديميّ في جامعة ذمار (يحيى دادية)، يؤكّد لـ"خيوط"، أنّ أي موقع أثريّ يحتوي على مخلفات بشرية –مهما كانت هيّنة عند غير المتخصصين– تُعدّ ذات قيمة بالغة الأهمية، لكونها "تؤرّخ لإنسان عاش في حقبة معينة، ومن خلال ما تركه يمكن أن نعرف عنه الكثير، مثل: أسلوب حياته، وطريقة تفكيره، وديانته، ومستوى تحضّره، وكثير من الجوانب المختلفة المحيطة به، وما تتفاوت فيه المواقع هو: حالة الموقع، كمية المخلفات الأثرية الباقية فيه، عدد العصور التي تدل عليها البقايا الأثرية.
ويجزم دادية أنّ الحلّ في الحفاظ على المواقع الأثرية لا يكون إلّا بالشروع في نشر الثقافة "الآثارية" بين المجتمع، بالنظر إلى ما تعانيه اليمن منذ أمد بعيد من ضعف الوعي "الآثاري"، حيث يتساوى في ذلك المواطن والسلطة، باستثناء أصحاب التخصص، في حين لا يمكن المحافظة على الآثار، إلّا بتعاضد المواطن والسلطة.
سكن ما قبل التاريخ
يعود الاستيطان في موقع هران إلى ما قبل الميلاد بأكثر من ألف سنة، كما يكشف أستاذ الآثار والمتاحف بجامعة ذمار، فضل العميسي- عميد كلية الآداب بالجامعة، فالموقع يمتلك معالم أثرية لا يمكن أن يتم التغافل عنها، مثل الأساسات والمقابر الصخرية والصهاريج، والمعالم الأثرية التي توجد في هران والتي تشبه إلى حدٍّ كبير تلك المعالم الأثرية في منطقة ظفار- عاصمة الدولة الحميرية، منها المقابر الصخرية التي كشفتها البعثة الأثرية الألمانية في منطقة ظفار، وهي ذات التفاصيل في المقابر الصخرية في هران.
ويسرد العميسي، الأهميةَ الاستراتيجية لموقع هران ليتحول إلى موقع استيطاني بشري في عصور ما قبل التاريخ، منها المؤهلات الطبيعية للحماية، والمؤهلات الاقتصادية؛ موقع يحاط به أراضٍ ووديان زراعية خصبة، ووجوده على طريق تجاري يربط بين الشمال والجنوب.
مضيفًا: "كان "هران" حصنًا دفاعيًّا، وشهد عددًا كبيرًا من المعارك والملاحم التاريخية، سواء ما قبل أو بعد الإسلام، وَفقَ حديث العميسي، وهو خبير متخصص في مجال الآثار؛ ويحمل قداسة دينية إلى جانب الأهمية التحصينية"، معيدًا ذلك إلى "وجود عددٍ كبير من المقابر الصخرية، رأسية وعمودية، في أغلب منطقة هران".
في فترة ما قبل الإسلام، تم استخدام الأماكن "المقدسة" للدفن، وأكبر دليل على ذلك معبد "أوام" في مأرب، والذي كان توزع فيه المساحات بالاسم وبالحصص، وَفقَ ما أشارت إليه النقوش.
ويبين نائب عميد كلية الآداب، بجامعة ذمار، أنّ "هران" يمثّل موقعًا خصبًا للدراسات والباحثين، لكون الموقع يضمّ عددًا كبيرًا من المقابر الصخرية وصهاريج لحفظ المياه، وتحويل المكان إلى موقع متحف مفتوح ومزار للسكان، لكن وفقَ اشتراطات ومعايير محدّدة وصارمة، منها عدم العبث بالملامح الأثرية، وعمل مسارات ويافطات تعريفية، والحفاظ على المعالم البارزة.
شاهد على تاريخ اليمن
يعود تاريخ حصن هران إلى العصر البرونزي، ومنه شق التاريخ لذمار واليمن، طريقًا مطرزًا بالانتصارات والنقوش والمرويات العظيمة عن مكان شهد تقلبات الزمن، عامرٍ بالأحداث، واللبنة الأولى للفعل اليمني القديم الممتد من عصر الدولة الحميرية، وصولًا إلى عصر الدولة الأيوبية بقيادة "صلاح الدين الأيوبي"، وما تلاها من دول، وتفرد حصن هران بقوة البناء والتحصين وإنشاء مخازن الحبوب ومدافن الموتى والسراديب والتي اعتمدت على حفرها في الصخور البازلتية السوداء، والبعض الآخر في الصخور الحمراء.
الدراسات والأبحاث التاريخية التي دفع بها رئيس قسم التاريخ والعلوم السياسية بكلية الآداب، بجامعة ذمار، حسين العنسي، إلى العلن، أكّدت الدور التاريخي لحصن هران في تاريخ ما بعد الإسلام.
ويذكر العنسي في تصريح لـ"خيوط"، أنّ أقدم ذكر لـ"هران" في المصادر اليمنية التاريخية الإسلامية، كان في سنة 292هـ، على إثر الصراع بين اليعفريين بقيادة الأمير أسعد بن يعفر الحوالي، وعلي بن الفضل الذي زحف نحو ذمار للسيطرة عليها وعلى عاصمة الدولة اليعفرية صنعاء، وفي هذا يقول ابن الديبع، أثناء حديثه عن علي بن الفضل وتقدمه نحو ذمار: "فلما صار بذمار، وجد جيشًا كبيرًا في "هران" من أصحاب الحوالي، فكتب إلى والي هران بتسليمه، فاستجاب ودخل في ملته. بعد أن تسلّم ابن الفضل حصن هران، أضحى من السهل عليه الزحف نحو صنعاء للسيطرة عليها، إذ تمكن من دخولها في عام 292هـ".
ومن هذا النص التاريخي، يتبيّن أنّ اليعفريين بعد أن استقلّوا بحكم اليمن من دولة الخلافة العباسية، أخذوا يشيدون لهم مناطق عسكرية محصنة لإخضاع البلدان التي تحت سيطرتهم، من هذه المناطق اختاروا منطقة (هران) لقيموا فيها حصنًا عسكريًّا ورتب فرقة عسكرية، وشحنه بالمؤن والسلاح يكون مهمتها حفظ البلاد الذمارية وتأمينها وإخضاع أيّ تحركات مناوئة لدولتهم من القبائل، هذا من جهة، ومن أخرى ليكون هذا الحصن خطّ الدفاع الأول لعاصمة اليعفريين صنعاء من أيّ هجمات محتملة تأتي من الجنوب، ممثّلة بعلي بن الفضل وقواته.
ويوضح العنسي أنّه "منذ ذلك التاريخ، أصبحت هران حصنًا منيعًا يتكوّن من مبانٍ محصنة عسكرية لا يستطيع الوصول إليها أحدٌ، شُيّد بهدف الدفاع عن منطقة ذمار بنواحيها ومخالفها، إلى جانب اتخاذه مركزًا محصنًا متقدمًا للدفاع عن صنعاء، فضلًا عن دوره العسكري في الصراع الدائر بين القوى السياسية والقبلية المتصارعة على الحكم في المناطق الشمالية من اليمن؛ إذ استمرّ اليعفريون في السيطرة عليه بعد القضاء على دولة ابن الفضل، وظلّ في أيديهم حتى انتهت دولتهم نهاية القرن الرابع الهجري".
بعد زوال الدولة اليعفرية وضعفها، ظلّ الحصن في أيدي قوى قبلية محلية حتى قيام الدولة الصليحية في العقد الرابع من القرن الخامس الهجري، وصار هذا الحصن منطقة المناطق العسكرية للدولة الصليحية، وظلّ في يدها حتى ضعفت وانتهت، لينتقل -والحديث للعنسي- إلى سلطة الدولة الحاتمية في صنعاء، ونتيجة لضعفها تمكن مشايخ قبيلة "جنب" من السيطرة على حصن هران وفرض نفوذهم وسلطتهم على منطقة ذمار.
في نهاية شهر مايو/ أيار 2015، استهدفت طائرات التحالف في سلسلة غارات المتحف والفندق ومبنى مركز الرصد الزلزالي؛ ما أدّى لتدميرها بشكل كلي. لم تدمر المباني فحسب، بل تُوفِّي في تلك الغارات العشرات من المدنيّين، بينهم الصحفيان يوسف العيزري وعبدالله قابل.
ويحمل حصن هران على كاهله إرثًا تاريخيًّا كبيرًا، وفي جوانبه تغيّرت ملامح التاريخ اليمني، ليتابع العنسي سرد تاريخ المكان، قائلًا: "ظلّ حصن هران في أيدي مشايخ جنب حتى قدم الأيوبيّون لليمن، وبالتحديد عام 570هـ، فقام "توران شاه" قائد الحملة الأيوبية بالزحف نحو ذمار، ودخل في معارك كبيرة مع مشايخ جنب، انتهت بالانتصار عليهم والسيطرة على حصن هران، واتخاذه قاعدة عسكرية لإخضاع منطقة ذمار، لكن أوضاع البلاد الشمالية اضطربت عليه، وعاد حصن هران إلى قبيلة جنب.
ليعود طُغْتِكين بحملة عسكرية سنة 579هـ/ 1183م، والذي زحف بجُنْده نحو ذَمَار للسيطرة عليها، فلقي مقاومة شديدة من قبل مشايخ قبيلة جنْب، وبعد معارك متفرقة معهم، تمكّن سنة 583هـ/ 1187م، من الاستيلاء عليها، واقتحام حصن هِرَّان، ليقيم معسكرًا في أسفل الحصن، وعين مظفر الدين قَيْمَاز واليًا عليها، مع حامية عسكرية.
تفاصيل تاريخية تحمل روح المكان والزمان، تمتدّ في صدر التاريخ اليمنيّ، في فترة ما بعد الإسلام، وحتى التواجد العثماني في اليمن، كان حصن هران وفقَ الكتابات التاريخية، والتي تشير إلى مدى الحضور القوي للحصن، موقعًا عسكريًّا شديد التحصين.
مبانٍ حكومية
يوجد في جبل هران ومحيطه أربع منشآت حكومية، عبارة عن استراحات ومنتزهات، منها "فندق سياحي" بُنيَ في بداية تسعينيات القرن الماضي، ليكون موقعًا سياحيًّا يطل على المدينة من جهة الشمال، واستخدم لعدة سنوات كمركز للرصد الزلزالي قبل أن يتم بناء مركز رصد ودراسة الزلازل والبراكين.
وعلى مقربة من المكان، موقعٌ لخزان ماء تمتلكه المؤسسة المحلية للمياه بمدينة ذمار، وفي أسفل الجبل من جهة الغرب، شيد في العام 2002 متحف ذمار الإقليمي للآثار، وكان يتضمن، حتى ليلة استهدافه من قبل طيران التحالف بقيادة السعودية والإمارات، نحو 12500 قطعة أثرية تم جمعها من مواقع أثرية في عدد من مناطق محافظة ذمار، بالإضافة إلى مسبح عام يضمّ حوضين للسباحة.
في نهاية شهر مايو/ أيار 2015، استهدفت طائرات التحالف في سلسلة غارات، المتحفَ والفندق ومبنى مركز الرصد الزلزالي؛ ما أدّى لتدميرها بشكل كلي. لم تدمر المباني فحسب، بل تُوفِّي في تلك الغارات العشرات من المدنيّين، بينهم الصحفيان يوسف العيزري وعبدالله قابل.
موقع عسكري
على مدى الخمسة عقود الماضية، كان جبل هران موقعًا عسكريًّا منذ فترة حكم الرئيس الراحل المقدم إبراهيم الحمدي، حيث تحول الجبل ومحيطه إلى مركز تدريب لأفراد قوات العمالقة، وتم استحداث عددٍ كبيرٍ من المنشآت وتحوّل المكان إلى موقع عسكري، لتبرز ملامح الحضور المدني بعد تقليص أعداد المواقع والثكنات العسكرية التي كانت توجد في المكان خلال العشر سنوات الماضية، وتحول المكان إلى حديقة عامة، مع الإبقاء على نقاط عسكرية صغيرة خاصة في أعلى جبل هران.
وبحسب أحد خبراء التنقيب -فضّل عدم الكشف عن هويته- خلال حيث مقتضب لـ"خيوط": "تعرض الموقع لجرف؛ ما طمس ملامحه الأثرية وغيّرها تمامًا"، وأشار إلى وجود مخلفات عسكرية "ذخائر" على عمق يصل إلى متر تحت الأرض، وهو ما يدل على مدى العبث الذي رافق تلك الحقبة بهذا الموقع الأثري خلال العقود الماضية، إذ لم يتوقف الأمر على الاستحداث، بل بتغيير وجه المكان بعمل إضافات أو تدمير ملامح ونقوش وآثار كانت واضحة للعيان، مثل الكهوف والبرك والسور.
ضابط متقاعد في الجيش اليمني -فضّل عدم التصريح باسمه- عمل في وحدات قوات العمالقة "نخبة الجيش في عهد الرئيس اليمني الراحل المقدم إبراهيم الحمدي"، يؤكّد، بدوره لـ"خيوط"، أنّ جبل هران كان موقعًا عسكريًّا مغلقًا ومكان تدريبات عسكرية لعدد من القوات، منها العمالقة ووحدات الشرطة العسكرية والأمنية، وكان يستقبل وحدات عسكرية لتنفيذ تدريبات ودورات عسكرية مكثفة.
يضيف: "كان جبل هران خارج المدينة، وهو موقع جيد لتنفيذ تدريبات عسكرية مكثفة، منها دورات الصاعقة؛ لذا تم إنشاء عددٍ من المنشآت التدريبية في قمة الجبل وفي أسفله، بالإضافة إلى عمل ثكنات عسكرية لحماية المكان".
ويختتم حديثه بالإشارة إلى استمرار المكان، كموقع تدريب وموقع عسكري مطل على المدينة في جهة الجنوب حتى الآن. ومن النوادر التي يذكرها الضابط المقاعد: "تحويل بعض المقابر الصخرية التي تشبه الغرف إلى مكان للنوم أو الحراسة ولطبخ الطعام".
ومنذ ثلاثين عامًا، خفت القبضة العسكرية على المكان، ليتحوّل إلى متنفس للسكان، وهو ما ساهم أيضًا في فتح المكان أمام الأيادي العابثة، وتحويل بعض المقابر الصخرية والصهاريج والكهوف التي تضمّ نقوشًا وكتابات أثرية إلى مكب للنفايات أو "مكان لقضاء الحاجة".