على ضوء الأزمة التي أُثيرت بسبب الحرب الروسية الأوكرانية مطلع العام الماضي، جذب ملف الحديث عن زراعة وإنتاج القمح في اليمن، اهتمامًا متزايدًا، بين الواقع المتعلق باعتماد البلاد على الاستيراد لنحو 70% من الاستهلاك الغذائي وتحديات الزراعة، وبين الجهود التي يجري الحديث عنها هنا أو هناك، بما فيها توجُّه الجهات الرسمية في بعض المناطق، لتوسيع رقعة زراعة القمح، والحديث عن إمكانية تحقيق "الاكتفاء الذاتي" من عدمه.
ويكشف أحدث تقرير متخصص صادر عن ACAPS، عن أنّ اليمن يعتمد على الواردات بنسبة الثلثين من حيث الحجم، وعلى أربعة أخماس (80%) من حيث القيمة الحيوية، وعلى الرغم من أن متوسط الواردات الشهرية بلغ 468 ألف طن متري شهريًّا بين يناير/ كانون الثاني 2018 ونفس الشهر من العام 2023، فإنّ النمو السكاني المرتفع، يزيد من تهديدات الأمن الغذائي بمرور الوقت.
اليمن وزراعة القمح
يُزرع القمح في اليمن في 18 محافظة، بمساحات مختلفة تقاس بالهكتار، وتوضح بيانات التقارير السنوية لوزارة الزراعة والري، والتي قامت "خيوط" بتحليلها، أنّ محافظة ذمار هي الأولى بين المحافظات في مساحة زراعة القمح، حيث بلغت عام 2009 أكثر من 25 ألفًا و300 هكتار، وبنسبة 22 بالمئة من إجمالي 117 ألفًا و525 هكتارًا، واحتلت محافظة صنعاء المرتبة الثانية بنسبة 21%، غير أنّ المساحة الإجمالية، تراجعت حتى وصلت في العام 2019 إلى أكثر من 57 ألفًا و400 هكتار، وبلغت نسبة التغير بين العامين 2009 و2019 أكثر من 100 بالمئة.
https://public.flourish.studio/visualisation/13112850
إنتاج القمح واقع وطموح
بلغ إجمالي ما أنتجته المحافظات اليمنية التي تزرع القمح خلال الفترة (2010-2019) مليونًا و904 آلاف و177 طنًّا، واحتلت محافظة الجوف المرتبة الأولى في الإنتاج بنسبة 26 بالمئة، ومحافظة صنعاء ثانيًا بنسبة 17 بالمئة، كما تناقصت المساحة بمثل تناقص الإنتاج خلال ذات الفترة، أعلاها العام 2010 الذي بلغت فيه 265 ألفًا و432 طنًّا، والعام 2018 أقلها إنتاجًا: 92 ألفًا و210 أطنان فقط.
https://public.flourish.studio/visualisation/13113091
وعلى الرغم من ذلك، كثفت الجهات الزراعية في مناطق حكومة صنعاء التابعة لسلطة "الحوثيين"، من جهودها في العامين الأخيرين، واتجهت إلى توسيع الرقعة الزراعية بمحافظة الجوف، التي أعلن مستشار المحافظ فيها، علي بن ثيبة أنّ الناتج المحلي في المحافظة ارتفع بنسبة 70%.
للوصول إلى أعلى إنتاج للقمح يجب الالتزام بالتوصيات البحثية والحزم التقنية المرافقة للأصناف المحسنة، إضافة إلى التوسع الأفقي لزراعة محصول القمح؛ وذلك بزيادة الرقعة الزراعية للمحصول.
فيما يقول نائب وزير الزراعة والري بصنعاء، رضوان الرباعي، في تصريحات صحيفة، إن هناك توجهًا للتوسع في "زراعة القمح في المرتفعات الوسطى والشمالية وفي المناطق الشرقية"، وذلك في إطار توجه "نحو تحقيق الاكتفاء الذاتي"، ويضيف: "لدينا تجارب كثيرة في زراعة القمح في الموسم الشتوي في تهامة، وهناك نتائج مبشرة، وإن كانت بإنتاجية قليلة"، وفق تعبيره.
المساحة والإنتاج
يزرع اليمنيون سبعة أصناف، هي: (الأعلاف، القات، المحاصيل النقدية، البقوليات، الفواكه، الحبوب)، ومن بين خمسة أصناف للحبوب: (الذرة، الذرة الشامية، الدخن، القمح، والشعير)، يحتل القمح المرتبة الثانية من حيث الإنتاج، لكنه يأتي في المرتبة الثالثة من حيث المساحة المزروعة، حيث تحتل الذرة والذرة الشامية، المرتبة الأولى في المساحة بنسبة 59 بالمئة، يليها الدخن: 18 بالمئة، والقمح ثالثًا بنسبة 11 بالمئة.
https://public.flourish.studio/visualisation/13113091 /
بين الإنتاج والاستيراد
تمثل الحبوبُ السلعةَ الثانية التي يستوردها اليمن من حيث القيمة وبنسبة 13 بالمئة، بعد الوقود المعدني الذي احتل المرتبة الأولى لقيمة ما استوردته اليمن من سلع خلال الفترة (2016-2021)، ويتم استيراد القمح من أكثر من عشرين دولة؛ روسيا أعلاها، حيث بلغت كمية ما استوردته اليمن منها خلال الفترة (2009-2019) ما يقارب عشرة ملايين طن، وبنسبة أكثر من الربع: 28 بالمئة، فيما أتى القمح الأسترالي ثانيًا بنسبة 26 بالمئة، والولايات المتحدة الأمريكية ثالثًا بنسبة 17 بالمئة.
https://public.flourish.studio/visualisation/13113404/
وجاءت أستراليا في المرتبة الأولى من حيث قيمة القمح المستورد، وبنسبة 28 بالمئة من إجمالي قيمة بلغت 8 مليارات و414 مليونًا و258 دولارًا، روسيا في المرتبة الثانية بنسبة 26 بالمئة، والولايات المتحدة الأمريكية ثالثًا بنسبة 18 بالمئة، على أنّ اختلاف القيمة عن الكمية يرجعه مختصون إلى اختلاف جودة القمح ومدى ما يحتويه ومقاومتها للآفات.
وبالنظر إلى حجم الكميات المستوردة، وكميات الناتج المحلي، فإنّ إجمالي الأخير لا يشكّل حتى ما نسبته 20%، ولا يتم استهلاكه في السوق المحلية، إذ إنّ جزءًا يذهب إلى التصدير، ففي عام 2020، صدّر اليمن 110 آلاف دولار من القمح. كانت الوجهات الرئيسية لصادرات اليمن من القمح هي: الكويت (40.5 ألف دولار)، والإمارات العربية المتحدة (33.2 ألف دولار)، وقطر (21.7 ألف دولار)، والمملكة العربية السعودية (14.2 ألف دولار).
ارتفاع الأسعار
تكشف بيانات المستكشف الاقتصادي التابع لبرنامج الغذاء العالمي والخاص بتتبع أسعار السلع، والتي قامت "خيوط" بتحليل الفترة (2016-2021) لجميع المحافظات، عن تزايد متسارع ومتفاوت في سعر الكيلو القمح الواحد، وجاءت محافظة شبوة في المرتبة الأولى بين المحافظات الجنوبية في نسبة تغير السعر بين العامين 2016 و2021، والتي بلغت 87%، فيما كانت محافظة عمران في المرتبة الأولى بين المحافظات الشمالية، وبنسبة تغير وصلت إلى 58%.
https://public.flourish.studio/visualisation/13160318 /
القمح المحلي سعر أغلى
من أبرز التحديات المرتبطة بالإنتاج المحلي للقمح، ارتفاعُ تكلفتها، إذ إنّ سعر القمح المحلي مرتفع بنسبة 34 بالمئة بالمقارنة مع القمح المستورد، وفقًا لتقرير ACAPS الصادر في يونيو 2023، والذي أشار إلى أنّ ارتفاع الأسعار يعكس ارتفاع تكاليف الزراعة، وهو ما يؤدّي إلى تراجع نسبة الزراعة المحلية، نتيجة لارتفاع أسعار القمح على المواطنين.
في حديث خاص لـ"خيوط"، يوضح د. أحمد عبدالحبيب، في إدارة البحوث الزراعية في ذمار، أنّ زراعة القمح في اليمن للفترة من (2010-2020)، تراجعت بنسبة تصل إلى نحو 60% بالمساحة، و52% في الإنتاج، ويرجع ذلك إلى "تداخل عدة عوامل في الإنتاج، وفي مقدمتها غلاء المشتقات النفطية والحرب والحصار، كما أنّ فتح البلاد لدخول المساعدات الغذائية عبر المنظمات ومنافسة المنتج الخارجي للقمح كان له الأثر الكبير في تراجع زراعة القمح".
وبالمقابل، وفق حديثه: "نجد أنّ غلة الهكتار من القمح زادت بنسبة 19% للفترة نفسها، وهذا يُظهر دور البحوث الزراعية والتي أطلقت ما يقارب 20 صنفًا من القمح المحسن وإصدار العديد من حزم التقنيات المصاحبة للأصناف".
يتابع عبدالحبيب: "للوصول إلى أعلى إنتاج للقمح، يجب الالتزام بالتوصيات البحثية والحزم التقنية المرافقة للأصناف المحسنة، إضافة إلى التوسع الأفقي لزراعة محصول القمح؛ وذلك بزيادة الرقعة الزراعية للمحصول"، ومن هذه الحزم التقنية: اتباع إدارة متكاملة لزراعة المحصول".
https://public.flourish.studio/visualisation/13113201/
البيئة المطلوبة لزراعة القمح
وفقًا لعبدالحبيب، فإنّ القمح من المحاصيل التي يلائم نموها المناخ المعتدل والحرارة والرطوبة المتوسطة أو المعتدلة، فلا تنجح زراعته في الجو الحار أو الشديد الرطوبة، ويمكن أن ينبت في درجة الحرارة المنخفضة والتي لا تقل عن أربع درجات مئوية، وتتحمل بادرات القمح درجات الحرارة المنخفضة جدًّا حتى درجة الصقيع، أما على صعيد التربة، فإن "القمح تناسبه معظم أنواع الأراضي، وأنسب أنواع الأراضي هي الأراضي الخصبة المتوسطة القوام، الجيدة الصرف".
ويوضح أنّ القمح في اليمن يزرع في إقليم المرتفعات الجبلية والذي يضم محافظات تعز وإب والضالع، وخاصة في مناطق المرتفعات العالية من محافظتي إب والضالع جنوبًا حتى محافظة صعدة شمالًا، مرورًا بمحافظة ذمار وصنعاء وعمران والمحويت وحجّة، وتقدر المساحة المزروعة بالقمح في إقليم المرتفعات بالمتوسط 32.5 ألف هكتار، ويأتي بعدها إقليم الهضبة الشرقية، والذي يبدأ من محافظة مأرب ويمتد عبر محافظة الجوف وحضرموت وشبوة، وتقدر المساحة المزروعة بالقمح في إقليم الهضبة الشرقية بالمتوسط 22.7 ألف هكتار تقريبًا، وتتم زراعته نادرًا في إقليم السواحل أو السهل الساحلي نتيجة لارتفاع درجة الحرارة في الإقليم.
ويناسب القمح المناطق التي تسقط عليها الأمطار السنوية (300–700) مم، كما هو الحال في محافظة إب، كما أنه يمكن نمو المحصول في مناطق ذات أمطار أقل من ذلك حوالي (200–250) مم، ولكن تكون إنتاجيتها متدنية جدًّا، وتحتاج إلى الري التكميلي كما هو الحال في قاع جهران وإقليم المرتفعات الشمالية والتي تختلف فيها كمية الأمطار من سنة إلى أخرى.
إلى جانب ذلك، هناك اختلافات بين أصناف القمح في ملاءمتها للظروف البيئية، كما أنّ زيادة الأمطار عن المعدل الطبيعي تؤثر على القمح بانتشار الأمراض الفطرية.
وبعض المناطق التي تتوفر فيها مياه الري من الآبار أو الغيول أو أي مصدر آخر من مصادر الري، يمكنها زراعة المحصول في فصل الشتاء، ويمكن استخدام الأصناف المحسنة لذلك فهي تعطي إنتاجية أعلى في فصل الصيف عنها في الشتاء، كما هو الحال في مناطق المرتفعات والقيعان، والتي تزرع في موسم (القياض).
مؤشرات جيدة وتحديات
في حديثه لـ"خيوط"، يوضح الباحث الاقتصادي، رشيد الحداد، أنّ هناك توجهًا من قبل صنعاء لرفع معدلات الإنتاج الزراعي، وخاصة الحبوب التي تراجع إنتاجها خلال السنوات الماضية جراء تداعيات الحرب والحصار، كما أنّ "الخطط التي اعتمدتها صنعاء لتحقيق اكتفاء ذاتي من الحبوب، وخاصة القمح والذرة البيضاء والدخن، بدأت منذ عامين بزراعة مساحات تقدر بـ(40) ألف هكتار سنويًّا".
في المقابل، يقول الحديد إنه ورغم وجود مؤشرات جيدة في محصول القمح في أودية الجوف، فإن تكلفة الإنتاج لا تزال كبيرة نتيجة عدم وجود مدخلات زراعية حديثة، يضاف إلى ذلك، أنّ هذا التوجّه لا يزال يواجه تحدّيًا يتمثل بانعدام البذور الكافية للزراعة.
ويضيف أنّ المؤشرات الزراعية لهذا التوجه جيدة، وأنّ "تحقيق الاكتفاء الذاتي من الغذاء يحتاج لخارطة طريق مزمنة"، ويرى أنّ "إحلال السلام سيمثّل دافعًا للقطاع الخاص في الاستثمار في هذا الجانب وخفض تكلفة الإنتاج".