صالح البيضاني، مواطن يسكن في العاصمة صنعاء، كان في طريق سفره إلى عدن مرافقًا لوالده المريض، الذي تقرر نقله إلى القاهرة إثر تدهور حالته الصحية وبات في أمس الحاجة لزراعة كلى لكن هذه الرحلة إلى عدن، كما يقول البيضاني لـ"خيوط"، كانت جحيمًا يفوق بكثير مرارة ما يعانيه والده من المرض.
رحلة معاناة
إغلاق مطار صنعاء منذ سنوات جعل المرضى ممن يتطلب سفرهم الطارئ إلى الخارج أمام خيارات، أحلاها مر، فمنهم من فضل الموت في منزله على الموت في الطريق إلى عدن أو سيئون أثناء المرور بعشرات الحواجز ونقاط التفتيش التي ينصبها مقاتلو الأطراف المتصارعة على مسافات متقاربة، كل حاجز منها يفرض توقفًا وتفتيشًا وتدقيقًا يستمر لساعات غير آبهين بأنين وتأوهات المرضى الذين يلفظ بعضهم أنفاسه الأخيرة، فيما تسوء حالة البعض الآخر ولا يصلون لوجهتهم إلا بعد تفاقم مرضهم وفوات الأوان على علاجهم. معاناة المريض البيضاني الذي وصل إلى عدن بعد توقيفه على تلك الحواجز لأكثر من عشر ساعات كافية للإجهاز عليه قبل أن يصل إلى القاهرة.
ويضيف البيضاني لـ"خيوط"، بأن التقارير الطبية التي كانت بحوزتهم عن الحالة الصحية لوالده المريض لم تقنع جنود الحواجز في إعطائهم الإذن بالعبور، كما لم تفلح استجداءات المريض في استعطافهم، وظلوا بجانب نقطة التفتيش حتى اليوم التالي، وعند مبادلة التناوب بين الجنود، سمح الجندي الجديد بعبورهم إلى عدن، ولكن بعد فوات الأوان وبعد فوات الرحلة، ما اضطرهم للسفر بعد أيام إلى القاهرة، لكن كانت حالة المريض قد تدهورت بصورة كبيرة، ولم يعد جسمه قادرًا على تحمل العملية، ونصحوا بإعادته الى بلده ليموت هناك، وفعلًا مات بعد أسابيع فقط من رحلته الفاشلة والحافلة بالمعاناة.
حالة واحدة على الأقل من كل عشر حالات مرضية تقريبًا تموت خلال الرحلة الداخلية من صنعاء إلى المناطق الجنوبية، بسبب الحواجز وما يتخللها من إجراءات أمنية على الطرق
أصبحت الرحلة من صنعاء أو أيٍّ من مناطق الشمال الواقعة تحت سيطرة جماعة أنصار الله (الحوثيين) إلى مطار عدن أو مطار سيئون بحضرموت الواقعين تحت سلطة الحكومة المعترف بها دوليًّا، وهما المنفذان الوحيدان للمسافرين والمرضى الذين تتطلب حالاتهم الصحية السفر للخارج لاستكمال العلاج، لكن الصعوبات الناجمة عن الحواجز ونقاط التفتيش وإجراءاتها الأمنية المشددة، والتي ترقى أحيانًا إلى ما فوق الإجراءات التعسفية، جعلت من هذه الطريق كابوسًا مرعبًا، ووحشًا يلتهم أرواح المرضى قبل أن يصلوا لوجهة الاستطباب.
ويؤكد البيضاني بأن توقيفهم الأخير من قبل آخر نقطة تفتيش قبل وصولهم إلى عدن، لم يكن الوحيد فقد أمضى مع والده المريض وأمه ساعات عديدة أمام نقاط التفتيش الأخرى، لكن ذلك الحاجز كان الأطول، وبسبب الساعات الطويلة التي قضاها المريض هناك، تدهورت حالته وتعرض لمضاعفات خطيرة جعلت من إجراء عملية زراعة الكلى مستحيلة، كما أكد على ذلك الأطباء بمصر.
أموات على قارعة الطريق
العديد من المرضى الذين كانوا في طريقهم إلى مطاري عدن وسيئون فارقوا الحياة عند هذه الحواجز، إذ يقول مختصون في هيئة الطيران المدني لـ"خيوط"، بأن حالة واحدة على الأقل من كل عشر حالات مرضية تقريبًا، تموت خلال الرحلة الداخلية من صنعاء إلى المناطق الجنوبية من اليمن بسبب هذه الحواجز وما يتخللها من إجراءات أمنية على الطرق .
على صعيد متصل، توفي قرابة 16 ألف مريض، بحسب السلطات الصحية بحكومة صنعاء، بسبب تعذر سفرهم إلى الخارج جراء إغلاق مطار صنعاء وضعف حالتهم المادية والجسدية على تحمل مشاق السفر إلى عدن وحضرموت.
وتشير هذه السلطات إلى أن هناك قرابة مئة ألف مريض ومريضة يحتاجون للسفر العاجل إلى الخارج لاستكمال علاجهم، لكن هذه الصعوبات المتناثرة على طول الطريق ما بين مناطق الشمالية والجنوبية تجعل من هذه الرحلة محفوفة بالمخاطر.
آلاف الضحايا
الرحلة الشاقة التي يتوجب على المرضى قطعها بين مناطق شمال اليمن وجنوبها، خلقت معاناة إضافية لعشرات الآلاف من المرضى، وهو ما أكده مسؤولو مطار صنعاء الذين عقدوا في السابع من فبراير/ شباط 2021 ، مؤتمرًا صحفيًّا مشتركًا مع بعض ممثلي منظمات المجتمع المدني، قالوا فيه إن استمرار إغلاق مطار صنعاء الدولي تسبب بالكثير من الأضرار على الجوانب الإنسانية والصحية، وعلى جميع جوانب الحياة المدنية لليمنيين.
وأضاف خالد الشايف، مدير عام إدارة مطار صنعاء، في هذا المؤتمر، بأن آلاف الحالات تعرضت للوفاة جراء إغلاق المطار، مؤكدًا وفاة أكثر من 80 ألف مريض كانوا بحاجة ماسة لتلقي العلاج في الخارج.
مشيرًا إلى أن هناك أكثر من 450 ألف مريض لا يزالون بحاجة للسفر لتلقي العلاج في الخارج، منهم أكثر من 12 ألف مريض بالفشل الكلوي بحاجة لإجراء عمليات زراعة الكلى بصورة عاجلة، وأكثر من 65 حالة مرضية بالسرطان، وكلهم أصبحوا مهددين بالموت في أي لحظة.
بالإضافة إلى أكثر من ثلاثة آلاف مريض مسجلين بوزارة الصحة، يعانون من تشوهات قلبية بحاجة ملحة أيضًا إلى السفر للخارج لتلقي العلاج. غير أن هناك مخاطر جمة تتهدد حياتهم إذا ما سلكوا طريق البر من صنعاء إلى عدن. مجدِّدًا التأكيد على وفاة مسافر من بين كل عشرة مسافرين ما بين صنعاء وعدن وصنعاء وسيئون، وذلك لطول المسافة ووعورة الطريق وكثرة النقاط العسكرية المنتشرة على الطريق.
ويبقى الراحل البيضاني واحدًا من بين عشرات الآلاف من المرضى، الذين قد يدفعون حياتهم ثمنًا إذا قرروا خوض غمار الرحلة في هذا الدرب الخطير كثير الحواجز والشراك.