تقول أزهار، (وهو اسم مستعار): "عندما كنت في الثامنة طلب منا عم صديقاتي الجلوس على شكل دائرة ليعلمنا الحساب، وكنت الأقرب إليه حين شعرت أن يده تحاول الوصول لمكان ما من جسدي، انتفضت وقمت من مكاني، لكنه كان أكبر من أن أقاومه، أجبرني على الجلوس، وأعاد الكرة، لكني هذه المرة كنت أكثر صرامة، أدركت أنه يفعل شيئًا غير لائق، فمسكت يده قبل أن ينال مني، وفررتُ هاربة، قفزت من درج منزلهم دفعة واحدة، كأن الريح من يحركني، وأشعر أن لهيبًا يلفح قلبي، حينها لم أسمع إلا ضرباته المتزايدة تتعالى، لتغطي بصوتها على كل شيء".
تقول لـ"خيوط": "كنت أبكي من الخوف والاشمئزاز، وجدت صعوبة بالغة في الاعتراف لوالدتي بهذه القصة التي نالت من حياتي الكثير، وظلت سيناريوهًا يعاد ويكرر كل يوم في مخيلتي، حتى أنه أصبح كابوسًا يطبق علي في كل وقت، حتى في عز فرحتي".
تضيف أزهار التي تروي حكايتها، وكأنها للتو حدثت: "والدتي بعد مرور سنوات أخبرتها بالقصة، التزمت الصمت، لكن بعد ذلك نقلت للمستشفى بعد ارتفاع حاد في الضغط".
في اليمن، التي تعتبر من البلدان العربية الأشد تحفظًا، هناك نسبة كبيرة من النساء اليمنيات تعرضن للتحرش الجنسي، سواء في الأماكن العامة أو أماكن العمل، حسب المؤتمر الإقليمي الذي أقيم عام 2009، عن التحرش الجنسي، وبمشاركة 17 دولة عربية، منها اليمن، أكد ممثلو المؤتمر أن تفشي ظاهرة التحرش الجنسي في الوطن العربي سببه الصمت وتحميل الضحية المسؤولية الكاملة.
التحرش في الحرم الجامعي
نبيلة طالبة جامعية، تعيش في مدينة عتق بمحافظة شبوة شرقي اليمن، تصف تجربتها بأنها أفظع ما حدث لها طيلة حياتها، تقول لـ"خيوط": "تعرضت للتحرش والابتزاز من أحد أساتذتي الجامعيين حين طلب مني الخروج معه، هددني أنه سيجعلني أعيد مقرره الذي يدرسنا إياه، وفعل ذلك، وحين لم أمنحه ما يريد -رغم كل المحاولات- عاد ليتحرش بي بألفاظ خادشة وبذيئة، انصدمت أن كلمات كهذه تبدر من أستاذ جامعي".
ثقافة العيب التي ينشأ عليها الطفل منذ نعومة أظافره، ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالظواهر السيئة في مجتمعاتنا، فهناك لوائح من الممارسات والعادات الاجتماعية المنتشرة في اليمن تحميها هذه الثقافة التي تستمر في قهر المرأة بالأساليب والأغطية التي تحفظ الممارسات اللا إنسانية بحق النساء
أما مجموعة فتيات جامعيات في محافظة وسط اليمن شرحن معاناتهن مع التحرش، حيث وصفنه متهكمات "بالإفطار"، فلا يأتي يوم إلا ويتعرضن للتحرش في الباصات صباحًا وهن في طريقهن للجامعة، حتى أنهن يعتقدن أن المتحرشين يعتبرون أفعالهم طبيعية وروتينية فلا يملون.
غير أن التحرش الذي يحصل لهن -بحسب حديثهن لـ"خيوط"- يتم بطريقة استغلال لهن في البداية من قبل الدكاترة أو زملائهن في القاعات، تحت ذريعة التواصل من أجل التكاليف الجامعية، ثم يتطور بهم الأمر بإرسال رسائل مخلة بالأدب، وتحتوي على ثناء أو تغزل أشبه ما يكون "بالإسهال"، حسب توصيفهن.
يعتبر التحرش من الآفات العالمية ومن الغريب وجوده في مجتمعات متحفظة وتحسب للعيب وكلام الناس ألف حساب، بل أصبحت هذه المجتمعات بيئة حاضنة وخصبة له، كون الفتيات والنساء اللواتي يتعرضن لأفعال خادشة كهذه، يلتزمن الصمت خوفًا على أنفسهن من نظرة المجتمع التي ترد الحمل والمسؤولية على الضحايا، مع تبرير تام لمن يمارس مثل هذه الأفعال المشينة.
استمعت "خيوط" لامرأة في العقد الرابع من عمرها، قالت إن المتحرش لا يفرق بين ضحاياه، وإن غاياته واحدة، وكيفما كانت تكن، لا تهم النتائج؛ لأن عمى قد أصابه وجعله يفقد الصواب، وتقول أنيسة (45 سنة) انتهيت من زيارة الطبيب وخرجت بعد زوجي الذي سبقني ليأتي بسيارته إلى أمام العيادة التي أراجعها، وحين كنت في انتظاره على الرصيف مر ثلاثة شباب في بداية العشرينيات، بدؤوا في التفوه بألفاظ جريئة للغاية، وانتهوا بمحاولة سحب "برقعي" (لثامي)، ليفروا بعد ذلك هاربين، لم يخجلوا من امرأة في سن أمهاتهم ولم يضعوا اعتبارات لمرضي؛ كون التعب يبدو جليًّا على هيئتي.
مواقع التواصل الاجتماعي
لا تزال قضايا التحرش الجنسي تشغل رواد مواقع التواصل الاجتماعي كل حين وآخر، وسط حملات إلكترونية تطالب بردع من يقدموا على فعل هذه الأفعال المشينة وحماية النساء المتضررات دون النظر لمسألة العيب وكلام الناس الذي هو السبب الأول لتشجيع وتنامي هذه الظاهرة.
أثناء إعداد هذا الاستطلاع والحديث مع الضحايا من النساء اللواتي كن ضحية للتحرش، أجرينا بحثًا على محرك "الفيسبوك" في الصفحات العامة والمجموعات النسائية السرية، ووجدنا عشرات القصص لفتيات تعرضن للتحرش، سواء في الشوارع أو أماكن العمل أو حتى على منصات التواصل الاجتماعي، ومنها قصص أحدثت ضجيجًا على "فيسبوك" و"تويتر"، ومن الغريب أن مع انتشار الوعي بأسباب وخطورة هكذا أفعال لا أخلاقية لا يزال هناك من يبرر، ومن يطلب من الضحية السكوت، درأً للفضيحة أو يتهمها أنها هي من كان السبب في تمادي الطرف الآخر.
في بداية العام 2019 انتشر وسم #قع_رجال، وهي حملة إلكترونية لمناهضة التحرش الواقع على النساء في اليمن، سواء في الأماكن العامة أو العمل أو حتى على منصات التواصل الاجتماعي، أخذت الحملة انتشارًا واسعًا على مستوى البلاد، وشجعت كثيرًا فتيات بالحديث عن قصصهن مع التحرش، وهو عادة ما تخفيه المرأة اليمنية خوفًا على نفسها وسمعتها من المجتمع.
في الوقت الذي لقت فيه الحملة تأييدًا كبيرًا، أخذت أيضًا انتقادات لاذعة من الكثيرين، الذين هم ذاتهم يرجعون أسباب التحرش على النساء.
القانون اليمني
بحسب القانون اليمني تنص المادة رقم 275 على أن القانون يعاقب بالحبس مدة لا تتجاوز سنة أو بالغرامة كل من أتى فعلًا فاضحًا مع أنثى بغير رضاها، فإذا كان الفعل عن رضا منها يعاقب الاثنان بالحبس مدة لا تزيد عن ستة أشهر أو بالغرامة التي لا تتجاوز ألف ريال.
إلهام (اسم مستعار)، تعمل في المجال الإنساني، تحكي قصتها لـ"خيوط": "أعمل في المجال الإنساني: "كنت أعمل مع فريقي ذات نهار، وبينما كنت أقدم المساعدات كان أحد المستفيدين الذين أقدم لهم المساعدات قد شرع بالتحرش بي، أوقفته عند حده وحاول الهرب، لكن قد فات الأوان حين استدعيت زميلي وأخبرته بالقصة، فكانت ردة فعله أن اتركيه يذهب واستري على نفسك، كيف سيكون وضعك أمام بقية الزملاء. كانت صدمتي كبيرة".
نظرة المجتمع
ثقافة العيب التي ينشأ عليها الطفل منذ نعومة أظافره، ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالظواهر السيئة في مجتمعاتنا، فهناك لوائح من الممارسات والعادات الاجتماعية المنتشرة في اليمن تحميها هذه الثقافة التي تستمر في قهر المرأة بالأساليب والأغطية التي تحفظ الممارسات اللا إنسانية بحق النساء.
شيماء حميد ناشطة مجتمعية من مأرب، تقول لـ"خيوط"، إنه يتم التستر على المتحرشين حين يرمون أسباب التحرش على عنق المرأة، وتلصيق كل التهم بها جزافًا، دون النظر لحل حقيقي يخفف من المشكلة.
يرى الأخصائي في علم النفس مرزاح هاشم، أن انتشار ظاهرة التحرش يؤدي إلى تعطيل بعض أفراد المجتمع الذين تعرضوا له، إضافة إلى الأثر النفسي للضحية بعد التحرش، والذي يحيله إلى حالة من الخوف من ممارسة حياته بشكل طبيعي
تضيف حميد، أن التوحش الذكوري المستعر في مجتمعاتنا الذي يوجه كل أمراضه النفسية على المغلوب لا الغالب، إذ حين نسمي المرأة "المغلوب" -والحديث لهذه الناشطة- فهذا يعني أنها كذلك بالفعل بداية من التربية التي تجعل منهن مسكينات ومغلوب على أمرهن، إضافة إلى دور القوانين الرثة التي تحمي هؤلاء المجرمين، وانتهاءً بالخوف من الأهل ونظرة المجتمع الذي يجبر الكثيرات على الصمت.
من أسباب تفشي الظاهرة حسب شيماء، ما يتمثل في الخلفية الثقافية للمجتمع وانحدار القيم الأخلاقية، والغطاء الذي يتدفأ به المتحرشون.
مثل هذه العوامل ساهمت بشكل بارز في استمرار هذه الظاهرة، علاوة على التربية الذكورية السائدة في مجتمعاتنا التي تعطي للمتحرش الحق إن كانت هناك فرصة.
وكما ترى حميد، فالمتحرش يقتنص الفرص في كل الظروف والأحوال، ولا يعنيه مظهر المرأة أيًّا كان، كما يبرر له المجتمع.
الوضع النفسي
في هذا السياق، يقول مرزاح هاشم وهو أخصائي علم نفس لـ"خيوط"، إن انتشار هذه الظاهرة يعمل على تعطيل بعض أفراد المجتمع الذين تعرضوا له، كأن يكونوا صالحين لأنفسهم ومجتمعهم، فالأثر النفسي للضحية بعد التحرش جسيم ويحيله إلى حالة من الخوف من ممارسة حياته بشكل طبيعي.
مرزاح يؤكد أن تعامل الأفراد بعد التحرش بهم يختلف من شخص وآخر، قد تستمر الآثار النفسية لأيام، وقد تستمر على مدى طويل، وغالبًا هذه الآثار هي من تتسبب في انزواء الضحية عن ممارسة الحياة الطبيعة، فالشك وعدم الثقة وترك العمل أو الدراسة كلها عوامل خوف، يسببها التحرش، ناهيك عن الفشل العاطفي والاضطرابات النفسية التي تلحق بالضحية.
يتطلب الأمر كذلك أن يكون هناك دعم نفسي للنساء اللواتي تعرضن للتحرش، كما أن هناك حالات تقتضي علاجًا دوائيًّا عند أطباء مختصين، لكن الطبيب الأول كما يقول هذا المختص النفسي، هو المرأة نفسها حين يجب أن تفهم أنها ليست السبب في كل هذا، وعليها التوقف بالفور عن لوم النفس وسحقها، وأنها هي من جعلت المتحرش يعتدي عليها.