مزاج الجائع مجموعةٌ قصصية جديدة للروائيّ والفنّان التشكيلي ريّان الشيبانيّ، صدرت عن منشورات مواعيد(*)، بعد روايتَيه (نزهة الكلب 2016)، و(الحقل المحترق 2022). تشتمل المجموعة على واحد وعشرين نصًّا مفتوحًا على فضاء السرد الجديد، وتُفتتح بنصّ "البائع" الذي تتكثف فيه الشخصية الحميمية الفكِهة، التي تريد أن تبيع للطالب الفقير الذي يعيش في حجرة بائسة أيّ شيء؛ من البدلة العتيقة والمطرقة إلى ميزان الماء، ولا ينسى، في نهاية المطاف، أن يعرض عليه الزواج بابنته الصغرى إن هو لا يرغب في شراء أيٍّ من معروضاته التي يجمعها بشوالة قديمة بما فيها الأرنب.
وتُختتَم بنصّ الاسم الذي ليس هو طرفًا في ملابساته، حتى وهو يسمع أكثر من تبرير عائليّ للتسمية التي صار يحملها حتى اليوم، ناسفًا القاعدة الرائجة التي تقول إنّ لكلّ إنسانٍ من اسمه نصيب، فمثلًا كيف لأب يُعتقد أنّه يعمل في شركةٍ ما، ويسمّي ولده المولود حديثًا باسمٍ قريبٍ لمنتَج شركة منافسة "أبو يمان"، وكيف لعامل في دكان، لبيع الأشياء القديمة التي لا يشتريها أحد، بهيئته المتوسطة، والسمين مثل برميل نبيذ، وبشفتين متشققتين، أن يكون اسمه "هشام"، رغم أنّ الاسم الذي يناسبه هو "سامي".
بين النصّين 19 نصًّا، منها:
(المميزون الغرقى) الذي يرصد حالات انفعالات وتهيؤات وهواجس ركاب طائرة تعرّضت لمطب هوائيّ مخيف، في سماء بحيرة تانا في إثيوبيا، فركاب الدرجة الأولى الذين دفعوا مبالغ أكثر من أجل الجلوس على مقاعد وثيرة، ولم يمرّوا بطوابير المسافرين، أو "ليتجنّبوا عدوى التحول إلى عامة"، كان خوفهم من فكرة الموت المجاني واضحًا وحاضرًا، بمن فيهم القس الذي كان يطمئن نفسه بأنّ الموت في الماء نوعٌ من التطهر؛ أمّا العجوز المحنطة دودي فتذكرت في ذات اللحظة كيف كانت تترك كل الأوشحة على كراسي الطائرات خلف ظهرها وتمضي؛ خوفًا من أن تجرح شيئًا ساميًا في روحها، أغمضت عينيها لترى الطائرة منقسمة نصفين، فأمسكت بالستارة الزرقاء، وتأهبت للسقوط على سطح المياه الباردة، وهي تردد: "هذه البحيرة لي، هذا الهواء الرطب لي".
وحده "يوسف زباطة"، راكب الدرجة العادية، من راق له مشهد الستارة الزرقاء المرتعشة أمامه لمقصورة الـ(VIP) والمنفرجة انفراجًا حذرًا انسرب من خلاله لحظ خلّاب لكيف للعالم المميز أن يصاب بالرعب.
بالمناسبة "يوسف زباطة" هو الذي سيحمل اسم الحاكم في النصّ التهكّمي: "يا لوجهك القاتل اللعين! ما الذي يدور ببالك؟"، حين يعيد الكاتب إنتاج صورة الحاكم المُزاح، وهو يحاول بواسطة أدواته السابقة (ثلاثة أبناء وخمسة أحفاد وابن الأخ الأوسط ونجله) افتعالَ فوضى في البلد الذي حكمه طويلًا، فصار في وعيه مملكة خاصة وينبغي استعادة ملكها حتى وهو جالس على كرسي بعوارض ذهبية نقله إلى قصره من دار الرئاسة الذي غادره بعد أشهر قليلة من انفجار لغم في مرحاضه الشخصي فتسبب بتشويه جسده ووجهه الذي صار مرقعًا بمساحات متعفنة لجلد بشري مستعار.
في (أن تنشر غسيلك في مطار بيروت)، يجد المسافر البسيط نفسه في معركة وجودية مع راكبة مسِنّة (سيدة أعمال بحقائب كثيرة متبوعة بخادمة)، ترى في وجود غريب في مقاعد الدرجة الأولى في مطار بيروت أمرًا مستفزًا ولا يُحتمل، فتؤلب عليه أحد الموظفين بعد حدجه بنظرات متعالية، فلا يجد أفضل من نشر جواربه المبلولة على المقعد المقابل لإغاظتها بعد تشممها.
في نصّ (نيبور) يرصد الكاتب حالة الانفعالات المكتومة وسرد حكايات أفراد في مقيل جمعهم لإتمام عملية خطبة فتاة لنيبور، غير أنّ المبالغة في تحديد مهر العروس وحضور تشبيه البقرة في عملية التسليع أبطل مشروع الخطوبة، وإن كان تحت لافتة التشاور والعودة.
في (البحث عن جثة الـ (cv)للقائد)، هي حالة التأهب الدائمة لقائد عسكري متقاعد في قريته بعد حرب صيف 94، حين يتلبسه وسواس أنّ القرية ستُهاجم من أتباع وجواسيس السلطة للقبض عليه، فترك أمر مراقبة المنحدر الصخري المؤدّي إلى القرية لأبنائه الصغار وزوجته، حينما يشاهد الطفلان رجلًا غريبًا دخل في حرش كثيف في مدخل القرية، يبلغان الأم التي أرادت أن تكتم الخبر عن الزوج المنسدح على دكة أمام البيت، لكنه يفطن للأمر فيدخل إلى البيت ويتجهّز بكل عدته العسكرية ويتزين، حتى بالكحل، ثم يغادر مع الزوجة والولدين لتعقب الغريب المختبئ في الحرش، وحينما يصلان يجدان راعي بقر القرية المزحور، فلا تتحقّق منية العقيد في إضافةِ جثةٍ لـ(cv) المقاتل الشجاع.
"أريد دبابة"؛ كانت أمنية تاجر يمنيّ قبل إفلاسه ببناء دار ضخم يشبه دبابة، لكنه بعد إفلاسه في الرياض وعودته إلى قريته، أراد وبشكل بائس أن يتملك كلَّ شيء في محيط قريته، من الطيور والحيوانات المتشرّدة والماء والنجوم، غير أنّ كل رغباته تنتهي في كلِّ مرة بكوميديا سوداء.
على هذا المنوال، تسير نصوص (مزاج الجائع)، الذي لا يستطيع اكتشافه المباشر (النادل) الصغير في مطعم العم، إلّا حينما يجلس على الطاولة ويطلب الطعام، بعد فترة من تركه لوظيفته السابقة.
الشخصيات الملتقطة بذكاء شديد وبمزاج الفنّان، لا تحسها غريبة عنك، بل تتأكد مع كلِّ اقتراب منها، أنّها مقيمة في الذاكرة ومنقوشة فيها. ضمائر السرد المتعدّدة في النصوص منحت الوحدات الحكائية حيوية تتحاشى أن تُغرِق المتلقيَ في حفرة المشابهة والتكرار.
(مطالعة أولى)
(*) منشورات مواعيد، صنعاء 2023.