بعد سنوات طوال من السريالية السياسية، التي شابت أداء فترة الرئيس عبدربه منصور هادي، لا يكاد المرء يصدق أنه أنفق أكثر من 10 سنوات من عمره، وهو ينتظر "جودو" الذي لا ولن يأتي. كانت المَلَكة التفكيكية للقائد واضحة، لكن اللوم أيضًا على واقع الذهول الذي وجدت القوى السياسية نفسها فيه، من أن فترة على هذا المستوى من التطاول والكارثية، ستصمهم بالتخاذل والعجز والأنانية. تأتي الحسرة -أيضًا- في كون هذه المقامرة، ثمنها بلد بكامل قواه البشرية والمادية، إذ إن رمزية السلطة لا يمكن اكتسابها بالصك الشعبي وحده، إذا كان ما بعد انتخابات مارس/ آذار 2012، أورثنا ندمًا جمعيًّا لا يمكن تناسيه.
لا يعني هذا بأي حال، اكتساب القوى التي استثمرت في نوم هادي وكسله، أي شرعية، وخاصة منها التي جالدت سلطة الأخير بالبنادق؛ لأنها هي الأخرى، أقامت على أنقاض "الجمهورية الفانية"، دولة الولي الفقيه التي لا يرتجى منها شيئًا. لكن حين لا ينفع الندم، يأتي التأكيد، بأن هادي لم يكن بأي حال شخصًا؛ إنه ظاهرة، بل من أبرز تجليات السياسات الخاطئة لأكثر من أربعة عقود، من الحكم بالترضيات المالية وتوازنات القوة والجاه، وقد رأينا، كيف أن القوى السياسية، سلطة ومعارضة، اختارت الانحياز لحساباتها الضيقة، وقد رأت في هادي رجل المرحلة الذي لا يمكن تفويته.
لذلك أثمرت 11 فبراير/ شباط ما يسمى ثورة مؤسسات. هذه الأخيرة لا تنتمي للثورة بشيء، إلا في كونها فعل فوضى لإحلال الجهاز الحزبي بديلًا عن الكادر الحكومي، الذي استجاب هو الآخر لهذه الموجة من التجريف، بدافع من شعوره بالذنب ورغبة في مقاسمة الوافدين الجدد كعكعة الفساد التي احتكرها حزب صالح طويلًا.
هذا الانشغال فجّر حينها سجالات وصلت إلى صحف الأحزاب، إلى الدرجة التي اختزلت فيه قوى المعارضة السابقة؛ السلطةَ، والمصلحة العامة، في حصتها من التعيينات والمناصب. وفي غمرة هذا النوع المقيت من الاشتباك، كان يتم إيقاظ هادي من هجعته، فقط عند الحاجة لتوقيع مراسيم قرارات جاهزة، لإرضاء الطرف ذاك، وربما إطفاء فورة غضبه.
مع كل هذا التجاذب، لم تستطع مؤسسة الرئاسة أن تبدي تمايزًا. كان شعور هادي، بالامتنان لا يضاهى. كيف أن ملايين من اليمنيين الذين ارتضوا بمهزلة تشريحه وحيدًا، ليسوا ذوي قيمة، من الأحزاب التي أجمعت على تصعيده إلى السلطة.
لكن لا خشية، أو هكذا التزم الإقليم الحياد، من أن هذا التداعي هو لدولة الثورة وليس للشركاء الاستراتيجيين في تقاسم النفوذ والثروة. في الفترة ذاتها، تم إسقاط أكثر صفقة تملك فسادًا لميناء عدن، من قبل شركة موانئ دبي، التي حلت في المنفذ البحري الاستراتيجي لتحجيمه لصالح ميناء علي
لقد صممت مرحلة هادي بعناية، كما لو أنه تم وضع رجل آلي على كرسي الرئاسة، من شأنه العمل وفق نظام برمجي، أنتج ليناقض نفسه. وهناك على بعد مسافة لا تذكر من دار الرئاسة، كان يقعد الرئيس السابق صالح متوترًا على أريكته، يقضم أظافر الندم، لأن رجُله الخانع في السلطة، لم يعد يرد على هاتفه.
لقد تمرّد عليه، وبالنواميس الطبيعية للسلطة، كان على هادي أن يتمرد هو الآخر، لأن علم اليمن الذي استلمه بيد مرتعشة، كان يعني له ماضيًا من القهر والإهانة والتهميش، حتى دبّجت القصص في أدبيات التنابذ السياسي القائم، ومن ذلك أنّ هادي يرفض استقبال طارق صالح؛ لأن الأخير أزاحه من على منصة ما، في لحظة تدافع ما، أثناء توليه فترة النائب الأول. هادي يكره حميد الأحمر أيضًا، لأن هذا المعارض البجح، ينازع الرئيس بالوراثة رمزية أحقية السلطة، من باب اعتبار الحكم حكرًا على القبيلة ومشائخها، وأن هذه اللحظة من خطيئة تنصيب بدوي على هرمها، هو تكتيك لا بد منه. وهنا يجب التأكيد على أن هادي الرجل المطواع، يحمل حقد الجبال وأثقالها في قلبه، وأتت اللحظة المواتية للانتقام من كل لحظات الهزء به، والتقليل من شأنه.
الإقليم هو الآخر، سيّر العملية السياسية من خلال الدول العشر الراعية للمبادرة الخليجية، كما لو أن أي فوضى هي خلاقة على أية حال، على الأقل للتأكيد بأن المغامرات والثورات في محيط ملكي مغلق، نوع من الحماقة غير محسوبة العواقب. لذلك تم النظر إلى الاشتباكات المسلحة التي بدأت العملية السياسية، باعتبارها نتاجًا طبيعيًّا لإسقاط النظام القديم، وأنّ هذه التناقضات العنيفة شرّ لا بد منه في طريق إضعاف الكل، تخطيطًا في إعادة العسكر ودورهم التاريخي في الانقلاب على السلطة، لكن اللعب بالنار، يُخرج الأمور عن السيطرة، ويجعل ما هو مستحيل ممكنًا.
داخل هذا الخليط غير المتناغم، كانت جماعة أنصار الله (الحوثيين)، هي التكتل الوحيد المتماسك، والتي هي الأخرى لم تكن أقل حظًّا في نوم القائد وأحلامه الوردية بمستقبل أفضل. لذلك رأت في كل هؤلاء السياسيين الحمقى، وتكالبهم على الوظيفة العامة، لحظة عظيمة لابتلاع كل شيء، ومن ثم التجريب بنا، مثل فئران المختبرات. وهكذا ادَّعت أن ثورتها هي لإسقاط ألف ريال عن صفيحة البنزين، وعندما أمسكت بالسلطة، أضافت عليها أكثر من 10 آلاف ريال.
لكن لا خشية، أو هكذا التزم الإقليم الحياد، من أنّ هذا التداعي هو لدولة الثورة وليس للشركاء الاستراتيجيين في تقاسم النفوذ والثروة. في الفترة ذاتها، تم إسقاط أكثر صفقة تملك فسادًا لميناء عدن، من قبل شركة موانئ دبي، التي حلت في المنفذ البحري الاستراتيجي لتحجيمه لصالح ميناء علي.
نتوخى من كل هذا القول، أن المساهمة في بناء شخصية هادي وسياساته، ليست بالهينة، وأن النظر إلى المشكلة باعتبارها فردًا، هو من قبيل الهروب من المسؤولية الوطنية، إلى المصلحة الضيقة للجماعات، وسيخسر الكل في ضياع الأمة. لقد رأينا كيف أن التشكيل الجديد للمجلس الرئاسي المعترف به دوليًّا، استثنى الأحزاب التي جعلت من مؤسسة الرئاسة ألعوبة، وصارت الخاسر الأكبر، في حين يحدث هذا التدافع والهلع وهي تعتقد أنّ بإمكانها حيازة السلطة خارج قنواتها الرسمية.
لذلك، يجب أن يتمايز "مجلس القيادة الرئاسي"، باعتباره حارسًا أمينًا للمصلحة العامة، لا مصلحة التشكيلات التي يمثلها. إن المزيد من التشظيات والانقسامات في المناطق التي تديرها الحكومة المعترف بها دوليًّا، لن يخلق مجالًا للسلام، وسيُبقي على حالة الجحيم التي يعاني منها السكان اقتصاديًّا وأمنيًّا، عوضًا عن كون النزاعات البينية، كانت عاملًا سلبيًّا في تعطيل أداء الحكومة، ومنعها من ممارسة مهامها.
يستطيع المجلس الجديد، أيضًا، أن يخلق مسافة آمنة مع دول الجوار، لصالح مواطنيه. وأن يكف عن البقاء في دائرة الارتهان الكامل، ليستطيع أن يفرض سيادته على الكانتونات العسكرية والسياسية المتناحرة، ومنع تحوّل أراضي الجمهورية اليمنية، مسرحًا للتنازع بالوكالة بين دول الإقليم. هذا الأمر قد لا يتحقق بالأماني، ولا بالسهولة التي نقولها، لكنه ليس مستحيلًا بالنظر إلى أسوأ تجارب الحكم في الجمهورية اليمنية.
أيضًا التركيز على الملف الاقتصادي، هو الضامن لخلق شرعية للحكّام الجدد، طالما لم يُحدث الاعتراف الدولي بنظام هادي أي فارق في حياة اليمنيين، إلى جانب إنهاء سياسة التمييز بين اليمنيين، وخاصة غير المنخرطين في الحرب، وإذابة التباينات والفوارق التي يحاول أن يصنعها القادة، وبدلًا من ذلك إرساء ثقافة الاحتكام للقانون، وإنهاء الجريمة، وتمكين المواطنين من حقهم في التنقل والسفر. ولدى المجلس تركة ثقيلة في منع الممارسات التي لا تمت لثقافة الدولة بصلة، ومن ذلك إغلاق المحتجزات غير الرسمية، ومنع الاحتجاز غير القانوني، وكشف مصير المختفين قسريًّا، وإنهاء حالات التعذيب.