تحني رأسها بحزن، مشبهة الأمر بالشمعة التي تضيء الطريق المظلم والوعر، بَيْدَ أنّ الرياح كانت أقوى منها وأطفأتها، أو ربما كمن يبني عمارة من الأحلام والأمنيات الجميلة وبلمح البصر تقع على رؤوس ساكنيها.
هكذا وصفت فاطمة بانتيش (25 عامًا)، شعورها عقب إغلاق مكتب التربية والتعليم في محافظة حضرموت (شرقي البلاد)، المجمعَ المسائي الذي التحقت فيه بغية استكمال مشوارها التعليمي برفقة أختها أسماء، عقب توقفها عن التعليم سنوات، لأسباب خاصة.
وتقول فاطمة لـ"خيوط": "بعد انقطاعنا عن التعليم العام سنوات، ظهرت أهمية المجمعات المسائية لأمثالنا ممن عرقلت الظروف الاجتماعية والأسرية سير تعليمهن. التحقت بمجمع الشحر المسائي، واستكملت مشواري التعليمي إلى الصف الثاني الثانوي، برفقة عدد من زميلاتي اللاتي يماثلنني في العمر والظروف الأسرية (ربات منازل)، بيد أنّ الإدارة أغلقت الصف، وعدنا جميعًا من حيث أتينا".
وتؤكّد أنّ قرار إغلاق المستوى الدراسي في المجمع العام الجاري، أحبط عزيمتها لاستكمال الدراسة، وعندما حاولت الالتحاق بالدراسة في المدارس العامة، وجدت الكثير من التنمر والمضايقة من زميلاتها، مما دفعها إلى الخروج من المدرسة بعد شهر واحد، ودموعها تملأ مقلتيها.
وتضيف: "ما زلنا متمسكات بالأمل أن تبقى شمعة المجمعات المسائية التي استفادت منها النساء في حضرموت كثيرًا خلال السنوات الماضية مضيئة، ولا تنطفئ. كل يوم ونحن ننتظر كلنا -فتيات الصف- أن يقولوا: عُدنَ للمجمع، فتحنا الصف من جديد".
تجربة المجمعات
نفذت وزارة التربية والتعليم في حضرموت، التجربة الفريدة؛ المجمعات المسائية للتعليم على مستوى اليمن بشكل عام، في العام 2015، واستهدفت النساء في المحافظة، والموظفين في مرافق الدولة الذين يسعون إلى تحسين مؤهلاتهم ودخلهم المعيشي، والمغتربين، والنازحين، وممن حالت الظروف أمامهم دون استكمال مسيرتهم التعليمية.
مثّلت تجربة المجمعات التي حظيت بها حضرموت عن باقي محافظات الجمهورية، بارقة أمل للكثير ممن تكالبت عليهم ظروف الحياة (رجالًا ونساء)، ليس فقط من تركوا المدارس سنوات طويلة، بل أيضًا للنازحين، ومتضرري الحرب.
طلاب المجمعات التي بلغ عددها نحو 18 مجمعًا في مديريات "غيل باوزير، والشحر، والديس الشرقية، والريدة، وقصيعر، وبروم، وحجر، بالإضافة إلى فوة، وروكب"، حقّقوا نجاحات كبيرة، منها منافسة أوائل الجمهورية لطلاب المدارس العامة، وحققوا برغبتهم الشديدة نجاحاتهم التي سعوا إليها؛ كما تقول نادية أنور خريدة، الطالبة في المجمع المسائي، والتي حصدت الترتيب الأول على مستوى المحافظة للشهادة الثانوية العامة في 2019.
تضيف في حديثها لـ"خيوط": "بعد انقطاعي عن التعليم مدة تجاوزت العشرين عامًا، مثّلت تجربة المجمعات تجربة فريدة بالنسبة لي، التحقت بالتعليم وحصلت على الترتيب الأول، وكذلك في الجامعة، حصلت على الترتيب الأول في قسم إدارة الأعمال بنسبة 98%، والفضل يعود إلى إتاحة الفرصة أمام الطلاب لاستكمال تعليمهم.
تعبر نادية عن أسفها عقب قرار إغلاق جزء من صفوف المجمعات المسائية، لافتة إلى أنّ الطلاب، خصوصًا النساء، لا يستطعن الذهاب إلى المدارس العامة، بسبب انشغالهن بالمسؤوليات المنزلية صباحًا، أضف إلى ذلك أنّ طالبات المجمع جلهن تسربن سنوات طويلة عن التعليم، ومن الصعب عليهن التأقلم مع طلبة المدارس العامة.
المحدودية
تقول مديرة مجمع الشحر المسائي للبنات، إجلال المرفدي، إن طلبة المجمعات المسائية أثبتوا للمجتمع ولأنفسهم، قدرتهم على تخطي الصعاب، وحقّقوا نجاحات كبرى، منهم من أصبحوا ذوي شأن مرموق في محيطهم، وحصلوا على شهادات جامعية، ومن المحزن أن يتوقف التعليم وتغلق المجمعات.
وتؤكّد المرفدي في حديثها لـ"خيوط"، أنه "تم إغلاق مجموعة خاصة في الشحر قرابة 8 مجمعات؛ مجمع البنين تم إغلاقه بشكل كامل، وتبقى مجمع البنات الذي ما زال مفتوحًا، لكن للصف الثالث الثانوي فقط، بقسميه (العلمي والأدبي).
وتضيف: "كان لديّ طالبات درسن من الصف السابع، والآن وصلن إلى المرحلة الثانوية. كان قرار إغلاق المجمعات لعدد من الصفوف هذا العام صادمًا ومحبطًا بالنسبة لهن.
قيادة التربية الجديدة قالت إن عدد الطالبات قليل، حيث شرطت ألّا يقل عدد الطلاب في الفصل الواحد عن 15، الأمر اختلف في مجمع الشحر الذي لم يستوفِ العدد، بخلاف بقية المديريات. وهنا يجب أن ألفت إلى أنّ مكتب التربية أغلق باب التسجيل قبل استكمال العدد، برغم مطالبتنا بتمديد الفترة، وبصورة أوضح المجمعات المسائية لها ظرفها الخاص، ومن المستحيل أن توازي أعداد المدارس العامة للتعليم"؛ بحسب المرفدي.
تقييم رسمي
يوضح أمين باعباد، مدير مكتب التربية والتعليم في حضرموت، لـ"خيوط" أن تقييم وإصلاح المجمعات المسائية تم في ورشة بحضور مُديرِي التربية لهذا العام، وخلصت الورشة إلى وضع آلية جديدة لتسيير الدراسة، على أن يكون هناك عدد معين لكل صف دراسي.
يتابع حديثه: "مجمعات تحتوي على 8 أو 5 طلاب لكل صف، وفي المقابل يوجد 20 معلمًا لتعليمهم من غير الإدارة، الأمر صعب؛ لذا تم التوجيه من قبل شعبة التعليم بإغلاق بعضها، وللاستفادة من المعلمين والمعلمات للدراسة النظامية الصباحية، التي هي أصل منظومة التعليم في ظل الظروف الحالية، وما نعانيه من نقص المعلمين وتقاعد عدد كبير منهم".
كما أن المجمعات العاملة حاليًّا، هي فقط من تسير بشكل جيد، وفق الآليات والمعايير التي وضعت من قبل مختصين، ويمكن فتح مجمع في أي مديرية، لكنه يخضع أولًا إلى مدى توافقه مع المعايير المطلوبة، وعلى رأسها العدد.
تعليم متدهور
مثّلت تجربة المجمعات التي حظيت بها حضرموت عن باقي محافظات الجمهورية، بارقة أمل للكثير ممن تكالبت عليهم ظروف الحياة (رجالًا ونساء)، ليس فقط من تركوا المدارس سنوات طويلة، بل أيضًا للنازحين، ومتضرري الحرب، الذين فاقت أعدادهم الملايين، إذ يؤكد تقرير صادر عن منظمة اليونيسف أن قرابة 6 ملايين من طلاب اليمن طالهم ضرر اضطرابات التعليم خلال فترة الصراع، وهو ما سيكون له تبعات هائلة على المدى البعيد.
ويؤكّد التقرير في إحصائية، وجود قرابة نحو مليونَي طفل خارج العملية التعليمية، وفي الوقت ذاته، تتعرض الفتيات ممن تسربن عن صفوف الدراسة للزواج المبكر، ويصبح الفتيان المنقطعين وقودًا للحرب بعد استقطاب أطراف النزاع لهم في عملية "التجنيد القسري".
وسيبقى أمل العودة إلى صفوف الدراسة، معلقًا في نفوس الطلبة، آملين أن يعاد نشر إنشاء وتنفيذ المجمعات المسائية في عموم المحافظات؛ كونها التجربة الإيجابية والشجرة المثمرة التي سيجني ثمارها المجتمع.