اتكأت بريطانيا العظمى، بوصفها الأسطول البحري الأقوى من نوعها في العالم منذ القرن السابع عشر، على استراتيجية الاستحواذ على البحار لضمان تفوقها الحربي، ما أسهم في توسع رقعة مستعمراتها والحفاظ على مصالحها في مختلف أرجاء العالم.
كانت نظرة ماهان الجيوبولتيكية "تأثير القوة البحرية على التأريخ"، رهانًا قائمًا في مسارات الصراع الدولي، حيث أقام بناءه النظري على افتراض أن الصدام الدولي كان "حربًا بحرية بحتة"، وقد أكد أن نتائج الحملات البرية على الأراضي الاستعمارية بالكامل اعتمدت على السيطرة على المياه المتاخمة وخطوط اتصال المحيطات. وقد ارتبطت هذه النظرة بصفة خاصة بالأوضاع المحتملة للصراع الرئيسي في أواخر القرن التاسع عشر، إبان تنافس القوى العظمى على المستعمرات خارج أوروبا وطريق التجارة البحرية.[1]
في أعقاب الحملة الفرنسية للاستيلاء على مصر، بدأت أنظار الإمبراطورية البريطانية مترامية الأطراف، تنحرف نحو السواحل اليمنية، وذلك إدراكًا منها للخطر الوشيك الذي يداهم خط الملاحة البحري الرئيسي من وإلى مستعمرة الهند، وقد تمكنت على عجلة من وضع يدها على جزيرة بريم اليمنية القابعة بين ضفتي مضيق باب المندب في 1799[2]. لطالما ظل الطريق البحري المار بمضيق جبل طارق وقناة السويس وحتى باب المندب محل مطامع القوات البحرية الملكية، ويحتل هذا الطريق أهمية بالغة على مستوى التجارة الدولية، نظرًا لمرور معظم مواد الخام والسلع من خلاله. وقد تمكنت بريطانيا من التسلل إلى أهم المحطات الجغرافية على هذا الطريق والهيمنة عليها وإزاحة وتصفية الخصوم الدوليين المنافسين. وعلى قارعة هذه الطريق الدولية تتواجد الكثير من نقاط الخدمات التي توفر جميع احتياجات السفن التي تعبر على امتداده، وقد أصبحت هذه الطريق معبّدة أمام الإنجليز لتحقيق طموحاتهم الاستعمارية بعد استحكام سيطرتهم على مضيق جبل طارق وافتتاح قناة السويس، والسيطرة على مضيق باب المندب وميناء عدن في القرن التاسع عشر.
بالإضافة إلى كون عدن أصبحت قاعدة عسكرية لتنفيذ العمليات الحربية اللازمة لحماية المصالح البريطانية في الخليج والشرق الأوسط، مثلت المدينة جزءًا من إسهام بريطانيا في الحفاظ على المنظومة الدفاعية الغربية الشاملة
عدن كمدينة تعايش وميناء استراتيجي ومحطة تموينية
كانت عدن ميناءً بحريًّا عالميًّا يعتمد اقتصاديًّا على التجارة، وفي النصف الأول من عقد الخمسينيات، أصبحت عدن ثالث أكثر الموانئ ازدحامًا في العالم، إذ تحولت محطة تزويد رئيسية لمد السفن المارة بالوقود، وقد استفادت بصورة فعالة من قناة السويس[3]، وكذلك من بناء مصافي عدن للنفط في منطقة البريقة لاحقًا. وقد اكتسبت عدن الكثير من بريقها على مستوى العالم، بوصفها مدينة تعايش، يسكنها بشر من مختلف الأعراق والأديان؛ حيث يوجد المسجد والمعبد اليهودي والكنيسة. كان معظم مواطني مستعمرة عدن على درجة عالية من التعليم، وعملوا في العديد من المناصب المهنية داخل البيروقراطية الاستعمارية. وكانت عدن أيضًا موطنًا للعديد من اليمنيين العابرين الذين لم يتم منحهم حقوقًا سياسية صريحة في الإطار السياسي للاستعمار، هذه الأقلية الكبيرة داخل الميناء ستكون بمثابة عامل رئيسي في تطور نضال شعبي لطرد الاستعمار.
عدن كقاعدة عسكرية بريطانية
مثلت عدن أهمية استراتيجية حربية للمملكة المتحدة، خلال فترة التوسع الإمبراطوري، وكذلك خلال الحرب العالمية الأولى والثانية مطلع ومنتصف القرن المنصرم، كونها نقطة اتصال في منتصف الطريق الواصل بين الشرق والغرب. وقد زادت المخاطر على مستعمرة عدن ومحمياتها بعد أن شنت القوات العثمانية وقوات المملكة المتوكلية هجمات حربية متلاحقة عليها، الأمر الذي أجبر المملكة المتحدة على تعزيز تواجدها العسكري، إذ تحولت الأساطيل الحربية المتمركزة في ميناء وقاعدة عدن العسكرية، إلى نقطة تجمع ومركز مراقبة وقاعدة انطلاق لتحقيق المصالح الاستراتيجية البريطانية. الأدل على أهمية ميناء عدن من الناحية الاستراتيجية، أنها منحت الدول المسيطرة عليها الأفضلية العسكرية والحربية خلال الحربين العالميتين في منطقة البحر الأحمر وبحر العرب والمحيط الهندي؛ ففي الحرب العالمية الأولى استفاد البريطانيون من عدن لترجيح كفتهم وتقييد النفوذ العثماني والألماني في منطقة البحر الأحمر والعربي والمحيط الهندي خلال سنوات الحرب. إذ كانت نقطة لصيانة وتموين وتسليح القطع الحربية والأساطيل، وإغلاق هذه الطريق الاستراتيجية المهمة أمام القوات المعادية والخصوم.
وأصبحت عدن عام 1928، مقرًّا لقوة جوية بريطانية[4]. تمركز في عدن قرابة 2000 جندي من سلاح الجو الملكي البريطاني[5]. تزايدت أهمية عدن في نظر الاستراتيجية البريطانية بعد أن خسرت في أعقاب الحرب العالمية الثانية عديد من القواعد الحربية والمواقع العسكرية، خصوصًا في منطقة الشرق الأقصى. ومرد تلك الأهمية إلى: أن عدن أصبحت قاعدة عسكرية لتنفيذ العمليات الحربية اللازمة لحماية المصالح البريطانية في الخليج والشرق الأوسط. بالإضافة إلى أن عدن مثلت جزءًا من إسهام بريطانيا في الحفاظ على المنظومة الدفاعية الغربية الشاملة، ناهيك عن الاضطلاع بمهام حمائية وعسكرية لعدن والمحميات المحيطة بها[6]. القصف الإيطالي لعدن وأصبحت عدن مركز قيادة القوات البريطانية في منطقة الشرق الأوسط مطلع ستينيات القرن المنصرم، وقد أدى المد الثوري لحركات التحرير الوطني في عدة بلدان عربية إلى زيادة أهمية ميناء عدن حربيًّا[7]؛ ما دفع القوات البريطانية لتزويد القاعدة الحربية في عدن بأسلحة نووية مخبأة في سراديب أرضية في منطقة البريقة[8]. ومثلت عدن في ستينيات القرن المنصرم إحدى أهم ثلاث قواعد رئيسية بالنسبة للاستراتيجية الحربية البريطانية على مستوى العالم، بعد تصريح صدر على لسان وزير الدفاع البريطاني هارولد ولسون في مارس 1962[9].
شهدت فترة ما بعد العام 1945 نموًّا اقتصاديًّا كبيرًا في ميناء عدن، وبرزت تحولات متزامنة في الريف المحيط بها، حيث أدت كل من الهجرة والتدخل التدريجي للعلاقات المالية إلى تقويض الولاء التقليدي للسكان تجاه حكامهم، السلاطين والأمراء والمشيخات
موعد إعلان الاستقلال
عقب الحرب الكونية الثانية، أحرزت المشاريع الثورية بأفكارها التقدمية خرقًا مهمًّا في جُدر الهيمنة الاستعمارية، وأسهمت في بناء تنظيمات وطنية حاملة لمشاريع الاستقلال الوطني. وقد كان للثورة البالشفية أثر أيديولوجي وثوري واضح على حركات التحرر الوطني باختلاف حواملها القيمية وخصوصية ظروفها الوطنية، الأمر الذي أعاد ترتيب أولويات الشعوب المستعمرة وأحدث تحولات طبقية في بنية المجتمعات الكادحة في شتى بلدان العالم الثالث. وقد أعطى هذا الزخم هالة عظيمة من الشرعية للأكثرية التي حددت خياراتها ضمن الحق في الحرية وتقرير المصير، سيما في ظل الشراكة اللامساواتية والتبعية، وقد تمكنت هذه الحركات، في حقبة الخمسينيات والستينيات، من شق طريقها نحو الانعتاق من الاستعمار وحكم الأولغارشية.
في جنوب اليمن، استهلت الجبهة القومية بمعية جبهة التحرير كفاحًا شعبيًّا أصيلًا ضد الاستعمار الإنجليزي منذ يوم 14 أكتوبر 1963. وقد تشكلت حركة الاستقلال من كيانات وفعاليات سياسية مختلفة توحدت في تنظيمات أوسع، كان أبرزها الجبهة القومية التي تكونت من حركات أهلية ومكونات اجتماعية، أبرزها الفرع اليمني الجنوبي لحركة القوميين العرب، وجبهة التحرير. وتبين أن للثورة في الشمال أثرًا حاسمًا في إعلان تشكيل الجبهة القومية وتعزيز دورها، وقد أتى إعلان الجبهة القومية بكيانها التأسيسي من إذاعة صنعاء، ومن أهم ما حمله هذا البيان التأسيسي موقفان؛ إعلان الكفاح المسلح ضد الإنجليز، والبدء بعملية التعبئة الاجتماعية في الداخل الجنوبي[10].
شهدت فترة ما بعد العام 1945، نموًّا اقتصاديًّا كبيرًا في ميناء عدن، وبرزت تحولات متزامنة في الريف المحيط بها، حيث أدت كل من الهجرة والتدخل التدريجي للعلاقات المالية إلى تقويض الولاء التقليدي للسكان تجاه حكامهم، السلاطين والأمراء والمشيخات. وفي المجمل اتصفت الأوضاع في جنوب اليمن بتغيرات نوعية بالنظر إلى شماله؛ بسبب فعالية الحركة نقابية في عدن، صاحبتها هبة من التحولات الإقليمية المؤثرة كظفر القومية العربية في مصر وبدء حرب التحرير في الجزائر، وبفعل هذه المنعطفات في المحيط الإقليمي تخلق وعي سياسي قومي لأول مرة في الجنوب. التصق هذا الوعي بفكرة الوطن- اليمن- الموجودة أساسًا. وتمكنت قوى الاستقلال الوطني في جنوب اليمن من تثبيت حضورها وفاعليتها أواسط مناطق جغرافية وفئات اجتماعية كانت معزولة في السابق.[11]
وفي ظل الديناميات الكامنة والمتحركة للنزاعات الدولية والإقليمية، كان لدى البريطانيين شعور بأن تحركات جمال عبدالناصر في شمال اليمن هدفه تقويض الهيمنة البريطانية في منطقة الشرق الأوسط، وجاء التدخل العسكري المصري لمساندة الثورة اليمنية في الشمال 1962، ليعمق هذا القلق ويهدد التواجد العسكري البريطاني الحامي لحقول النفط في منطقة الخليج العربي[12].
بحلول أواخر شهر نوفمبر/ تشرين الثاني العام 1967، تم طرد الاستعمار البريطاني من جنوب اليمن، وقد ترك جندي بريطاني عبارة ساخرة مكتوبة على جدار أحد السجون الفارغة بـ"مستعمرة عدن": "ذهب بعيدًا- لا حليب، لا أوراق". وبهذه الرسالة أنهت القوات البريطانية استعمارًا دام أكثر من 120 عامًا. إلا أن العديد من اليمنيين يذكرون أن موعد إعلان الاستقلال في 30 نوفمبر 1967، مثّل فجرًا لحقبة جديدة من الحرية. وقد كان نقطة تحول فريدة من نوعها في تاريخ اليمن المعاصر، ولحظة فاصلة بين الماضي الاستعماري والمستقبل الوطني. فيما كان هناك شعور بأن فترة جديدة من التنوير كانت قد بدأت بعد وصول حكومة تمثيلية للعمال والفلاحين إلى السلطة في 1969، برئاسة سالمين.
يحتل ميناء عدن مكانة جيواستراتيجية رفيعة على الخارطة الدولية، حيث يتموقع على مقربة من منتصف طريق الملاحة الدولية بين الشرق والغرب، في الوقت الذي تحول إقليم الشرق الأوسط إلى مركز ثقل جيواقتصادي بعد اكتشاف خزانات ضخمة من مصادر الطاقة الحيوية في صحاري دول الخليج العربي ثلاثينيات القرن العشرين الفائت، ما عزز أهمية المضائق المائية كباب المندب وهرمز وقناة السويس، على صعيد الملاحة الدولية. لم يكن في وارد بريطانيا التخلي عن "مستعمرة عدن". كانت تهدف إلى إبقاء الصراع في اليمن مستمرًا في ظل تصاعد الخوف من انحسار تواجدها في المنطقة، إلا أن ثمة حقائق واجهتها القوات البريطانية على الأرض، وهناك أسباب كثيرة ليس أقلها أنها نقطة انعطاف مهمة، حدثت أثناء تمرير الوعي الثوري العابر للحدود، الذي ساهم في الرفع من مستوى نضوج الوعي بالتفاوت الطبقي واللامساواتية التي مارسها المستعمرون. ساد شعور لدى أهالي عدن والطبقة العمالية الكادحة بغطرسة المستعمر، وأثبتت وثائق -رفع عنها السرية مؤخرًا- تورط الاحتلال البريطاني في قضايا تعذيب وتنكيل بحق المواطنيين والمعارضين في "مستعمرة عدن"[13]؛ ما خلق لدى حركة التحرر الوطني بذور التمرد حتى إنجاز الاستحقاق الوطني بالخلاص من المستعمر.
الهوامش:
[1] : منقول بتصرف Jon Tetsuro Sumida,” GEOGRAPHY, TECHNOLOGY, AND BRITISH NAVAL
STRATEGY IN THE DREADNOUGHT ERA”, p90, available at: https://apps.dtic.mil/dtic/tr/fulltext/u2/a573630.pdf
[2] علي الصراف، "اليمن الجنوبي: الحياة السياسية من الاستعمار إلى الوحدة"، رياض الريس للكتب والنشر، لندن- قبرص، الطبعة الأولى، أبريل/ نيسان 1992، ص27.
[3] سكوت سميتسن، الطريق إلى النوايا الحسنة: بناء الأمة البريطانية في عدن، ص5.
[4] محمود السالمي، "اتحاد الجنوب العربي 1945- 1967"، جامعة عدن، دار الوفاق للنشر والتوزيع، ص74.
[5] محمد شفيق غربال، "منهاج مفصل لدروس في العوامل التاريخية في بناء الأمة العربية على ما هي عليه اليوم"، مؤسسة هنداوي، المملكة المتحدة، 2017، ص 14.
[6] محمود السالمي، "اتحاد الجنوب العربي 1945- 1967"، جامعة عدن، دار الوفاق للنشر والتوزيع، ص80.
[7] زايد محمد وآخرون، "اليمن والدول الكبرى"، الجزء الأول، دار الكتب الوطنية، صنعاء، ط1، ص246.
[8] مجموعة من المؤلفين السوفيت، "تاريخ اليمن المعاصر 1917-1982"، ترجمة محمد البحر، مكتبة مدبولي، القاهرة، ص 165.
[9] فاروق أباظة، "عدن والسياسة البريطانية"، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1987 ، ص 11.
[10] إياد أحمد وأسامة الروحاني، "ضرورة بناء شرعية الدولة في اليمن"، مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية.
[11] نفس المرجع السابق.
[12] محمود السالمي، "اتحاد الجنوب العربي 1945- 1967"، جامعة عدن، دار الوفاق للنشر والتوزيع، ص372.
[13] For more info, please visit: https://www.thenationalnews.com/world/mena/secret-colonial-era-files-reveal-british-cover-up-of-torture-in-aden-1.667507