يحتفل شعبنا اليمني وأمّتنا العربية بالعيد الـ58 لثورة الرابع عشر من أكتوبر، بعد الاحتفال بالعيد الـ59 لثورة الـسادس والعشرين من سبتمبر. تفجّرت حرب التحرير الوطني بعد بضعة أشهر من قيام الثورة الوطنية في صنعاء.
الأبطال الفادون الذين قاتلوا في الشمال وشمال الشمال، دفاعًا عن ثورة الـ26 من سبتمبر في الأيام الأول، عادوا بأسلحتهم إلى ردفان، وطلب منهم المستعمر البريطاني تسليم أسلحتهم، فرفضوا، وخاضوا الكفاح من الريف أولاً، ثم من داخل أحياء عدن؛ ليسجلوا مجد الاستقلال.
خلال أربعة أعوام وبضعة أسابيع، حققت الجبهة القومية مجد الاستقلال والكرامة الوطنية، وفي زمن قياسي تمّكنت الجبهة المكوّنة من سبع منظمات، جُلّها آتٍ من الاتجاهات القومية، ومن الريف، ومن ضباط وجنود بقيادة حركة القوميين العرب- من تحقيق الاستقلال، واستعادة الكرامة الوطنية.
راهن حزب الشعب الاشتراكي الواسع النفوذ، ورابطة أبناء الجنوب، وبعض السلاطين على الحصول على الاستقلال عبر التفاوض، ولكن الآمال كانت خائبة. انتُزِعَ الاستقلال عبر الكفاح المسلح بعد أن استطاعت الجبهة نقله إلى أحياء وشوارع عدن، واجتذاب قطاع واسع من النقابات العمالية: النقابات الست، ومؤسسات المجتمعين المدني والأهلي، اللتين ساندا بقوة ثورة الـ26 من سبتمبر 1962، وظل حزب الشعب الاشتراكي، ومعه الرابطة، وقوى مدنية عديدة، غير مؤيدة للكفاح المسلح، مع تمسكهم بقرارات الأمم المتحدة، وتحديدًا القرار 1949 الصادر في 14/12/1960، القاضي بمنح الاستقلال للأقطار والشعوب المستعمرة.
وكما قاتل أبناء الجنوب في الشمال دفاعًا عن الثورة السبتمبرية، فقد شكلت تعز وإب والبيضاء، خلفية لثورة الرابع عشر من أكتوبر 1963. أما الصحافة العدنية، ومؤسسات المجتمع المدني والأهلي، والصحافة بمختلف اتجاهاتها، والنخب السياسية، فقد وقفت إلى جانب ثورة سبتمبر، ودعمت التجنيد لحمايتها، وكان الشمال جُلّه مساندًا للثورة في الجنوب.
جبهة التحرير والدمج القسري
اتساع نطاق الكفاح المسلح، وامتداده إلى غير منطقة، وبالأخص عدن -مركز القاعدة البريطانية، واتساع نطاق الملتحقين بالكفاح المسلح، والتأييد الواسع للجبهة القومية وطنيًّا وعربيًّا ودوليًّا- من أسباب تأسيس جبهة التحرير، ويمثل رفض الاستعمار البريطاني في عدم الالتزام بالقرار الأممي 1949، وعدم القبول بإشراك حزب الشعب الاشتراكي والرابطة في المفاوضات في مستوى معين، ثم التقارب المصري- السعودي، ورغبة مصر للتهدئة في الشمال بسبب الانشقاقات الحاصلة في الصف الجمهوري، والدور السيئ لمراكز القوى المصرية ضد الثورة اليمنية، وضد الجبهة القومية تحديدًا، وإصرار قادة الكفاح المسلح على الاستقلال- كلها دفعت بالتيار الرافض للكفاح المسلح إلى تشكيل جبهة تحرير اليمن المحتل، كردّ فعل على خيبة الأمل في تنفيذ بريطانيا لوعودها في منح الاستقلال. وكان للجامعة دور كبير في حثّ مختلف الأطراف على هذا التشكيل لإيجاد تشكيل طَيِّع لمصر، ويفرمل اندفاع الجبهة القومية ذات المنحى اليساري صوب الانتصار والاستقلال.
كان هناك ما يشبه السباق بين تشكيل الاستعمار البريطاني لكيان زائف يحافظ على بقاء القاعدة العسكرية ويضمن مصالحها، وبين توجه مراكز القوى المصرية المعادية للجبهة القومية ولنهجها الثوري التحرري الرامية لتأسيس كيانات تابعة لها؛ كل هذا أدّى إلى فرض الدمج القسري في 13 يناير 1966؛ لشق صف الجبهة القومية، وفرض خيار المساومة مع بريطانيا والعربية السعودية.
كتاب "نكسة الثورة" الذي صدر وطبع في دمشق باسم عبدالله عبدالإله (عبد الملك الطيب)، وقدمه الأستاذ عبدالله سلام ناجي، يتحدث عن أهمية إصلاح العلاقة مع الجيران؛ أي بريطانيا في الجنوب، والسعودية في الشمال.
غياب الحريات السياسية أدّى إلى ضياع الإنجازات المكتسبة في المجالات الأخرى، ومكائد الرجعية العربية والإمبريالية كان لها الأثر البالغ في دفع التجربة الرائدة باتجاه العسكرة، وإرغامها على الامتشاق المستمر للسلاح، لحماية أمنها وتجربتها.
كان عبدالناصر قد بدأ يستشعر خطورة التحالف الثلاثي الشرير: الأمريكي، والإسرائيلي، والرجعي العربي، فبدأ صادقًا مساعي التصالح مع السعودية، والتهدئة في اليمن، ولكن المؤامرة كانت قد قطعت شوطًا بعيدًا باتجاه الخامس من حزيران/ يونيو 1967، وهو ما أشار إليه الأستاذ محمد حسنين هيكل في "الانفجار؛ حرب الثلاثين سنة"، (ص 231 إلى 234 ،243، 347-371).
رفضت قيادة وقواعد الجبهة القومية الدمج القسري، وأعلنت في 13 يناير 1967، إلغاء الدمج، والتصعيد لحسم المعركة، وهو ما تحقق في الـ30 من نوفمبر 1967. انتصرت الجبهة القومية في تحقيق مجد الاستقلال، وبنت كيانًا ثوريًّا وتقدميًّا، وحقّقت إنجازات عظيمة ورائعة في جوانب عديدة في بناء قطاع عام قوي، وفي الزراعة، والتعليم، والدمج الوطني، وتوحيد 22 سلطنة، وانتهجت سياسة خارجية متميزة في العالم الثالث، وكانت قبلةً وملاذًا لأحرار وثوار الوطن العربي؛ فما الذي جرى لتنهار تجربة من أهم تجارب التحرر الوطني عالميًّا؟! نتساءل بحبّ وصدق.
لم تكن قيادة الحركة ديمقراطية، لا قبل الاستقلال ولا بعده، بأي معنى من المعاني، وبرغم قطيعتها مع المركز القومي في بيروت، إلا أن تحوُّل نايف حواتمة والجبهتين: الديمقراطية والشعبية، إلى الماركسية، كان له تأثير وحضور كبير في التجربة، وكانت الإجراءات القمعية والعمياء ضد مؤسسات المجتمع المدني، والأحزاب، والصحافة -حتى المؤيدة والقريبة- في غاية القسوة. وكانت الإجراءات الاقتصادية في التأميمات غاية في التبدي والهمجية: تأميم الدكاكين، والمنازل، ودور السينما، وقوارب الصيد، وفرض الاتجاه واللون الواحد، ومصادرة الحريات، وقمع المختلف، والتصفيات الدموية، ثم كان الارتهان للمعسكر الاشتراكي بالمطلق، والقطيعة مع محيطها العربي غير متوازن.
في كل تجارب التحرر الوطني والثورات الوطنية اليسارية، جرى تغليب ما سُمي "الديمقراطية الاجتماعية" على السياسية، وجرى خلق عداوة بينهما، وللقضية علاقة بالخلاف بين "البلاشفة" و"المناشفة"، وبين المنحى الستاليني، والاشتراكية الأوروبية، بل وبين اللينينية، والستالينية؛ وهو ما ترتبت عليه نتائج كارثية داخل التجربة السوفيتية نفسها، وكانت الاستعارة الفكرية والارتهان الكبير ينفي الرابع عشر من أكتوبر، ثم إن الانتصار بالسلاح ضد الاستعمار البريطاني بقدر ما مثّل مجد الجبهة القومية وصواب رؤيتها وموقفها، بقدر ما أصبح "كعب أخيل" في النهج والممارسة بعد الاستقلال؛ فقد اعتقد قادة الكفاح المسلح أن "السلطة السياسية تنبع من فوهة البندقية"- المقولة الماوية. ليس هذا فحسب، بل توهموا أن السلاح وحدَه الوسيلةُ لحسم الصراعات الداخلية في مواجهة المعارض السياسي، وتطور الهوس إلى استخدامه في الخلاف الداخلي، وربما توهّم المنتصرون بالسلاح ضد بريطانيا العظمى أنه الوسيلة المثلى والسبيل والأداة الوحيدة لحل معضلات ومهام الثورة الوطنية الديمقراطية.
إن غياب الحريات السياسية أدّى إلى ضياع الإنجازات المكتسبة في المجالات الأخرى. وحقًّا، فإن مكائد الرجعية العربية والإمبريالية كان لها الأثر البالغ في دفع التجربة الرائدة باتجاه العسكرة، وإرغامها على الامتشاق المستمرّ للسلاح، لحماية أمنها وتجربتها.