قد لا يشعر الكثير من الساسة أننا نقف في هذه اللحظة بالذات على أعتاب انقسام العالم إلى قطبين عالميَّين متنافسين، إذا لم نقُل متناحرين. ولم يعد خافيًا على أحد تأثيرُ هذا الانقسام على دول الشرق الأوسط، والعالم عمومًا.
ربما نتّجه إلى انقسامٍ قوامه الشرق والغرب، حيث تهيمن الولايات المتحدة ودول الاستعمار القديم الجديد، على الجزء الشمالي من العالم بصورة شمولية، مع جيوب لها في الشرق الأوسط وإفريقيا وأمريكا الجنوبية، مثل الأرجنتين التي حدّدت انحيازها لإسرائيل في عدوانها على الشعب الفلسطيني، وأظهرت موقفًا معاديًا تمامًا لحركة التحرر، وتسعى نحو (دولرة) عملتها الوطنية لتثبيت تبعيتها للولايات المتحدة، بوهم أن ذلك يمكن أن يغيّر وضعها الاقتصادي نحو الأفضل، ويبدو أنّها لم تستفِد من دروس جيرانها.
أمريكا ليست وسيطًا نزيها
وفي الشرق الأوسط، حددَت بعضُ الدول موقفها بصورة أو بأخرى؛ إما عبر صفقة أبراهام أو عبر السعي نحو التطبيع مع إسرائيل بأي ثمن، ولو كان ذلك متأخرًا، مع الاحتفاظ بخطاب لزج قابل للقولبة وفقًا للظروف والمتغيرات فيما يخص القضية الفلسطينية.
انقسام العالم يبدو أقرب من أي وقت مضى، والكيِّسُ مَن يُجيد اللعب في اللحظة الحاسمة، ويستغل مزايا المنطقة الرمادية القريبة من تحقيق أهداف ملموسة دون الوقوع في شراك الوعود الغامضة، كما حدث في أكثر من منعطفٍ تاريخي، خاصة بالنسبة للعرب، الذين لم تغنِ عنهم ثرواتهم وتحالفاتهم شيئًا. كلُّ تحالفات العرب مع الولايات المتحدة مهما بلغت استراتيجيتها، لن تجدي نفعًا إذا كانوا في صراعٍ وجوديّ مع إسرائيل أو أي حليف آخر. هذا مبرهن عليه، والوقت يبرهن عليه كل يوم.
سَلَّمَ العربُ قرارَهم للغرب، فأصبح الجميعُ يبتزهم، بل صاروا أنفسهم جزءًا من أدوات الابتزاز. مؤخرًا، وجّه الوسطاء العربُ تهديدًا لقادة حماس بالقبول بالمبادرة الأمريكية حول غزة أو سيكونون عرضة للطرد من دولهم! مثلُ هذا التهديد لم يوجّه لإسرائيل وهي التي تحتل وتنفذ إبادة موثقة بحق الفلسطينيين.
مذبحة النصيرات ليست عملًا صهيونيًّا صرفًا، بل نتاج تخطيط وتنفيذ أمريكي معقد. الأمر ليس مجرد تقديم عون استخباري متعدد الوجوه فحسب؛ ألف جندي أمريكي حضروا إلى غزة، لماذا؟ لقد صدّق الأعراب كعادتهم، الروايةَ الأمريكية؛ أن ألفًا من جنودها قدموا لمساعدة أهل غزة، لكن الرياح كشفت زيف الادعاء، فجرفت الرصيف الأكذوبة. وقد نقل موقع قناة "آر تي العربي" عن "السي إن إن"، أن قوات أمريكية شاركت القوات الإسرائيلية هجومها على مخيم النصيرات، وأوضحت حركة حماس أن "ما كشفت عنه وسائل إعلام أمريكية وعبرية حول مشاركة أمريكية في العملية الإجرامية التي نفذت اليوم، يثبت مجددًا دور الإدارة الأمريكية المتواطئ، ومشاركتها الكاملة في جرائم الحرب التي ترتكب في قطاع غزة، وكذب مواقفها المعلنة حول الوضع الإنساني وحرصها على حياة المدنيين"، ليس هذا فقط ما يكشف زيف ادعاء دور الوساطة بين الفلسطينيين والصهاينة، لم تكن الولايات المتحدة ولن تكون وسيطًا نزيهًا فيما يخص أي نزاع يكون أحدَ أطرافه العرب أو المسلمون. كم مرات أحبطت الولايات المتحدة قرارات إيقاف الحرب؟ كم مرات عارضت مبدأ الاعتراف بالدولة الفلسطينية؟! لا نحتاج إلى كثير من الأدلة؛ فهي في متناول اليد.
في مقال سابق، قلنا إنّ ما يجري في البحر الأحمر ليس بمعزل عن جملة النزاعات العالمية. لا يمكن عزله بأي صورة عن الحرب في أوكرانيا، ولا عمّا يدور من صراع أمريكي صيني خفي أو سافر حول تايوان والنفوذ في بحر الصين، والصين نفسها تجد نفسها مضطرة إلى السير في بناء تحالف آسيوي مساند، ومَن القوة الأفضل لها حاليًّا غير روسيا؟
ستتضاءل فرص القوى المحلية في أن يكون لها قدرة على الحركة عكس تيار الانقسام العالمي، وستجد نفسها مجبرة على الدوران في فلك القوى التي تواليها. سيزداد الوضع تعقيدًا مع فتح الأطراف جبهات صراعية هي أصلًا في غنى عنها، وليست بالقدرة التي تمكّنها من مجابهة تداعياتها.
مجرد تفاصيل تكميلية
وتنخرط الولايات المتحدة في صراع وجودي مع الصين، فهي عدوّ استراتيجي، حسب توصيف الخبراء الأمريكان. وهكذا فقد أعلنت في 12 أبريل 2024، التزامها بالدفاع عن اليابان والفلبين ضد الصين فيما لو تعرضت طائراتهما أو سفنهما للهجوم في بحر الصين الجنوبي، ومعلوم أن الولايات المتحدة نفسها هي التي شنّت الهجوم النووي على اليابان وليست الصين أو روسيا، وهي نفسها التي شنّت الحرب على الفلبين بعد أن تنازلت لها إسبانيا عنها. أدّت الحرب إلى مقتل ما لا يقل عن 200 ألف مدنيّ فلبينيّ، معظمهم بسبب المجاعة والمرض. تشير بعض التقديرات إلى أن العدد الكلي للقتلى المدنيين، يقارب المليون قتيل. أدّت الحرب والاحتلال الأمريكي إلى تغيير ثقافة الجزر، وفرض البروتستانتية وحل الكنيسة الكاثوليكية، وإدخال اللغة الإنجليزية إلى الجزر باعتبارها لغةً أساسيةً للحكومة والتعليم والأعمال والصناعة.
كلُّ الدلائل تشير بوضوح، إلى ترابط وثيق في أحداث العالم، مع تقدم أحداث نحو الواجهة، وتراجع أخرى لتصبح مجرد تفاصيل تكميلية في لوحة عامة تكاد تكتمل.
تجاوز الغرب في الحرب الأوكرانية كلَّ الخطوط التي تعتبرها روسيا "حمراء حرجة". وكنا قد قلنا إن الغرب سيزوّد أوكرانيا بطائرات إف 16، وربما بما بعدها أيضًا، وذكرنا أن فرنسا ستوجّه اللواء الأجنبي أو بعض قطعه إلى أوكرانيا، وكل ذلك صدق حرفيًّا، بل وذهب الأمر بعيدًا، برفع القيود عن استخدام الأسلحة الغربية لضرب العمق الروسي. ولكن هل سيمر كل ذلك بدون ردٍّ روسي؟
بالطبع، لن يمر، ففي 7 يونيو 2024، قال الرئيس الروسي في منتدى بطرسبورغ الاقتصادي الدولي: "نحن لا نقوم بتوريد الأسلحة بعدُ، لكننا نحتفظ بالحق في القيام بذلك لتلك الدول أو حتى بعض الهياكل القانونية التي تعاني من ضغوط معينة ضدها، بما في ذلك ذات الطبيعة العسكرية". مضيفًا: "إذا قاموا [الغربيون] بإرسال هذه الأسلحة إلى منطقة المعارك، ودعوا إلى استخدامها لضرب أراضينا، فلماذا لا يكون لنا الحق في أن نفعل الشيء نفسه، وأن نرد بطريقة متكافئة؟".
إذن، والأمر على هذا الشكل، ما الذي يمنع تنفيذ الفكرة؟
يقول الكاتب كونستانتين دفينسكي تعليقًا على ضرب الحوثيين لحاملة الطائرات الأمريكية في البحر الأحمر: "بينما تدرس روسيا والغرب إجراءات انتقامية ضد بعضهما، خوفًا من زيادة تصعيد الوضع، يظهر الحوثيون اليمنيون بكل أفعالهم أنهم لا يهتمون على الإطلاق بـ(الهيمنة العالمية) و(خطوطها الحمراء) و(التحذيرات الخطيرة)".
وردًّا على سماح الغرب باستخدام أسلحته لضرب الداخل الروسي، يقول: "يمكننا الرد بتسليح الحوثيين بأحدث أنواع الأسلحة. ماذا لو تم استخدام الأقمار الصناعية الروسية لتصحيح الهجمات على مجموعة حاملة الطائرات التابعة للبحرية الأمريكية، وتم وضع وحدات الاستخبارات اللاسلكية التابعة للقوات المسلحة الروسية في الجبال اليمنية، ولم يتم إطلاق الصواريخ البالستية الإيرانية على دوايت أيزنهاور، بل صواريخنا؟".
هذا هو السيناريو المحتمل. علينا أن نتصور نتيجة ذلك على الوضع السياسي الوطني. في هذه الحالة، ستتضاءل فرص القوى المحلية في أن يكون لها قدرة على الحركة عكس تيار الانقسام العالمي، وستجد نفسها مجبرة على الدوران في فلك القوى التي تواليها. سيزداد الوضع تعقيدًا مع فتح الأطراف جبهات صراعيةٍ هي أصلًا في غنى عنها، وليست بالقدرة التي تمكّنها من مجابهة تداعياتها.
هل يمكن لأطراف الصراع المحلية أن تتحلل من إحرامها لصالح الآخرين، والعمل ربما للمرة الأخيرة لصالح هذا البلد؟