عبدالرحمن فنّان من هذا الزمان. قبل أن نتعارف أو نتلاقى، كثيرًا ما حدّثني عنه بحبٍّ صديقُه فؤاد علي عبدالعزيز. تلاقيَا في دمشق منتصف سبعينيات القرن الماضي. أول مرة نلتقي في صنعاء، منتصف القرن الماضي. كانت السبعينيات مرحلة إيناع ونضج، غرس، ثمار الثورة اليمنية سبتمبر 1962 وأكتوبر 1963. تأسست الأحزاب أو أعلنت عن نشاطها الأحزاب السرية، وتأسست نقابات وجمعيات مهنية وإبداعية، وصدرت المجلات الأدبية والثقافية والملاحق الثقافية في الصحف، وتأسست الكلية الحقوقية في صنعاء، وتوالت الإصدارات. كان بزوغ النجم عبدالرحمن الغابري الآتي من عتمة المنطقة الأكثر خصبًا وجمالًا.
عبدالرحمن الإنسان البسيط بساطة الحياة، والمتواضع كالابتسامة، والصادق صدق اللوحة الفنية، برز نجمه في الحياة كعازف جيتار، وكفنان موهوب. اشتغل في المسرح كممثل وعازف، ومنذ البداية كانت الموهبة الأكثر جذبًا وعطاء هي التصوير.
في اليمن مئات وآلاف المصورين الفوتوغرافيين، ابتداءً من أحمد عمر العبسي "أبو المصورين" منذ ثلاثينيات القرن الماضي، وحتى اليوم، ولكن عبدالرحمن الغابري من ضمن قلائلَ ارتقوا بالصورة إلى أفق اللوحة. عبدالرحمن أيضًا خلق من الصورة وثيقة ثقافية وتاريخية وجمالية إبداعية، وقيمة حضارية ناطقة وشاهدة. الصورة المعادلة للوطن حضارة وتاريخًا وثقافة وأرضًا وبشرًا اندغمت وتمازجت مع كل معاني وقيم الحياة في اليمن، ابتداءً من معاينة بناة السدود، ومبدعي المدرجات، إلى تجار البخور والتوابل.
صوّر الغابري الحياة اليمنية في أدقّ التفاصيل. خلق لوحات فنية زاهية لا تفنى ولا تبلى. في رحلة لنا إلى سوقطرة بعد بيان الــ30 من نوفمبر 1989، كان في الرحلة الأستاذ محمود أمين العالم والدكتور عبدالسلام نور الدين، وفواز طرابلسي، وجوزيف سماحة والفنان العراقي جعفر حسن، وإبراهيم طاهر، وعبدالرحمن الغابري. قضينا في الجزيرة أكثر من أسبوع. كان عبدالرحمن الغابري أكثرنا إفادة واستفادة؛ فقد كان مسحورًا مبهورًا بها. صور كل ما تقع عليه العين- الجزيرة التي تضمّ جزءًا مهمًّا من غرائب العالم كواحدة من أهم الجزر العالمية على وجه الأرض. راحت كاميرا عبدالرحمن تستقرِئها وتتملى غاباتها وأنهارها وجبالها المغطاة بالثلوج، وبحرها الصافي الذي ترى أعماقه. رسم الغابري عشرات ومئات الصور لمعالم ومشاهد الجزيرة، وكان الوفد مدهوشًا بموهبة ابن الغابري وحبه لأرضه وفنه.
هناك علاقة عميقة، تتواصل وتتداخل حد التمازج أحيانًا، بين مختلف ألوان الآداب والفنون: الصورة، اللوحة، القصيدة، القصة، المسرحية؛ فهناك تلاقٍ وتقاطع. ترتقي صورة الغابري إلى اللوحة، وللوحة صلة بالإبداع بألوانه المختلفة.
كثيرًا ما التقينا وتذاكرنا عن رحلتنا إلى سوقطرة، والصور الكاثرة عن الجزيرة، وقبل بضعة أعوام أهداني عبدالرحمن بعضًا من إبداعه، وبعضها عن الجزيرة التي شُغف بها.
عبدالرحمن الإنسان البسيط الرائع فنّان متعدد المواهب، اشتغل في التمثيل فأبدع، وله حضور في العديد من الأعمال الإبداعية، منها دراسته إخراج سينمائي وتصوير، ومهارته ومواهبه وإبداعاته كثيرة؛ فحضوره الأدبي والثقافي والفني كبير وزاهٍ. درس الإخراج المسرحي، ومثّل العديد من المسرحيات والتمثيليات. أبدع في فرقة الإنشاد في البداية، وفي العزف على العود والجيتار.
يعتبر عبدالرحمن الأب الروحي للمصورين الفوتوغرافيين؛ فهو بحق ذاكرة اليمن الفوتوغرافية. ميزة عبدالرحمن الحقيقية حبُّه للحياة وللناس ولشعبه وللفن؛ فخلال نصف قرن انغمس ابن الغابري في تطويف اليمن أرضًا وتاريخًا وجغرافيا وحضارة؛ فصوّر معالم اليمن الحضارية وصور بشرها رجالًا ونساء، وصور الطبيعة، وغرامه بالحياة الريفية حاضر بقوة، فهو ابن القرية المغمورة (القشعي) في عُتمة التي غادرها إلى صنعاء.
يمتلك عبدالرحمن مقدرة فائقة على الحب، ونسج العلاقات مع الناس، والتفاني في حب فنه حد العبادة، والإخلاص حد الفداء. يواصل عبدالرحمن -مدّ الله في عمره- إبداعه. شارك في سبعين معرضًا داخل اليمن وخارجها، كما تقول سيرة حياته. إرثه الرائع الآن موزّع على أكثر من مكان بسبب الحرب الوبيلة التي أحرقت في القصف الجوي بعضًا من تراثه وإبداعه.
يحتفظ أرشيف عبدالرحمن الغابري بأكثر من مليوني صورة، ولا يزال الفنان المبدع شابًّا، وفي سنّ العطاء. اهتمامه الزاكي بفنّه وعطائه في التصوير لا يمنعه من المشاركة والحضور في الحياة الأدبية والشأن العام والدفاع عن الحريات والحقوق. أتذكر عندما يطال الظلم أو الإجراءات التعسفية الآخرين يصاب العزيز بحالة من القلق والتوتر، يتواصل مع الجميع؛ فهو عدوٌّ لدود للإجراءات القامعة والظلم وما أكثرهما في اليمن، وبالأخص في العقود الأخيرة، وهو مشارك فاعل في نقابة الصحفيين، وفي اتحاد الأدباء والكتّاب واتحاد الفنانين، وشارك في العديد من الأفلام التسجيلية، ولعب دورًا كبيرًا في الدفاع عن منطقته عتمة، وتحويلها إلى منطقة محروسة كمحمية؛ فهي منطق خصبة، غنية بالآثار والغابات والأشجار الكاثرة والنادرة.
حافظ الغابري على استقلاليته رغم العوائد والفوائد في زمن الرئيس علي عبدالله، وهي أسوأ مرحلة إفساد للحياة مهّدت لما هو أسوأ، وكان الانتماء للمؤتمر والولاء لصالح أهم شرائط الوظيفة والمال والنفوذ.
هناك علاقة عميقة، تتواصل وتتداخل حدّ التمازج أحيانًا، بين مختلف ألوان الآداب والفنون: الصورة، اللوحة، القصيدة، القصة، المسرحية؛ فهناك تلاقٍ وتقاطع. ترتقي صورة الغابري إلى اللوحة، وللوحة صلة بالإبداع بألوانه المختلفة.
عبدالرحمن الغابري فنّانٌ كامل بالمصطلح الصوفي، وموهبته في السلوك المهذب الأخلاقي والمستقيم لا تقل عن موهبته في التصوير والتمثيل والإنشاد والعزف على الجيتار والعود، وإحساسِه الإنساني الرفيع في الدفاع عن الحريات والحقوق، وكراهيته للفتن والحروب والاستعلاء والاستبداد والظلم.
عبدالرحمن واحد من الناس يحرص ويحب أن يكون كثيرًا كثيرًا كثيرًا.