إن البحث عن قضايا النوع الاجتماعي والتوعية بها، لا يقتصر على تتبع أدبيات حقوق الإنسان ولا على المراكز والمؤسسات التي تُعنى بالحقوق والحريات فقط، ولكن أيضًا في البحث عن المؤثرات التي تُفضي إلى ظواهر اجتماعية جُبِل عليها المجتمع.
ففي اليمن، بدأ الفنانون اليمنيون بالتطرق إلى قضايا النوع الاجتماعي مبكرًا، وأعلنوا رفضهم لكثير من الظواهر السلبية التي تمارس سطوتها على المرأة اليمنية، وعن طريق الفن تمكنوا من إيصال رسالة التوعية.
وكان للأغنية اليمنية حضورها اللافت في طرح قضايا المرأة، وفي محاربة الكثير من العادات والتقاليد التي حاصرتها وحبستها في صورة محددة، وعن طريقها نوقشت الكثير من الموضوعات التي تتعلق بمعاناة المرأة اليمنية.
ومن الظواهر السلبية التي تعرَّضت لها الأغنية الشعبية ناقدة وشارحة ورافضة ظاهرة تزويج القاصرات؛ حيث كانت هذه الظاهرة محطّ اهتمامٍ دوليٍّ، وحظيت بنقاش مستفيض لما لها من تأثير في حياة قطاع واسع من الطفلات ومن مختلف الثقافات.
ووفقًا للأمم المتحدة، "لا تزال الفتيات تتأثرن تأثرًا غير متناسب بهذه الظاهرة؛ إذ إن شابة من كل 5 شابات تتراوح أعمارهن بين 20 و24، تزوجن قبل بلوغهن سن 18، مقارنة بشاب واحد من كل 30 شابًّا".
وعلى وفق إفادة صندوق الأمم المتحدة للسكان، فإن أكثر من 150 مليون فتاة سيكُنَّ (عرائس بحلول عام 2030، إذا لم يتصرف العالم تصرفًا حاسمًا لإنهاء زواج الأطفال".
وفي اليمن، "ذكر تقرير لمكتب تنسيق الأمم المتحدة في اليمن (أوتشا)، في 2019، أن زواج الفتيات دون سن الـ18 عامًا ارتفع نحو ثلاثة أضعاف، بين عامي 2017 و2018".
وقد ناقش الموروث الغنائي اليمني، ظاهرةَ تزويج القاصرات (الطفلات)، في أغنية: "يا ماه، أبي باعني"، وهي من كلمات الشاعر أحمد قائد المقطري، وغناها عدد من الفنانين اليمنيين؛ أبرزهم الفنان عبد الباسط عبسي، والفنانة أمل كعدل.
إن ضرورة مراعاة الفروق العمرية بين الزوجين، وعكس صورة مثالية للفتاة التي تتزوج بشاب في مثل عمرها، والتضاد بين صورة الزيجتين في الأغنية؛ أي بين الزيجة الأولى (بيع)، والزيجة الثانية (حياة)، بالإضافة إلى تشبيه الفتاة نفسها بأزهار نيسان عندما سترتبط بشاب في مثل عمرها
تبدأ الأغنية بافتتاحية استباقية تلخص حال الفتاة، وتشرح معاناة الفتيات الصغيرات مع التزويج المبكر، ومن خلال هذه المعاناة تتضح جملةٌ من المسببات التي تقف خلف استمرار ظاهرة تزويج القاصرات.
الفقر:
وقاااالت البنت أنا يُمَّاه .... يُمَّااااه ظلمني أبي
وأهدر شبابي لشيبه .... ألااااااا بالذهب فاز بي
غالبًا ما يكون الفقر والطمع في المهر، أحد الأسباب المؤدية إلى انتشار تزويج القاصرات في المجتمع اليمني، مع الانتباه إلى أن الأمر منوط بدرجة أساسية بالعادات والتقاليد التي قضت منذ أمد بعيد بتزويج الفتيات في سن الطفولة، على وفق المدونات الثقافية على تعددها واختلافها.
في المقطع الأول مشهدٌ لحال الفتاة التي تروي لأمها حالها، وتشكي الظلم الذي وقع عليها من والدها، والمشهد الافتتاحي للأغنية وشرح المعاناة يقدم صورة مؤلمة عن مبادلة الأب ابنته مقابل المهر وهي بيعة جائرة؛ فالأثر السلبي لهذه البيعة هو إهدار شباب الفتاة.
إن استخدام لفظ الإهدار ودلالته تنطوي على إباحة الدم والكرامة، ودقة استخدام اللفظ هنا تعكس دلالة وقوة المعنى المقصود، وتلخص حياة الفتاة الصغيرة التي تجبر على الزواج من رجل في عمر أبيها، وفي كثير من الأحيان، في عمر جدها.
واقع الفتاة بين الحلم، والرفض
تضمنت شكوى الفتاة لأمها حديثًا عن الحياة التي أرادت أن تعيشها كأي فتاة في عمرها، وقد حرمها والدها من هذا:
واني بقلبي عصافير الهوااااااء تختبي
تشتاق روضة صبا جنة صبية وصبي
جنة صبية وصبي جنة صبية وصبي
ومن ثم تنتقل الأغنية لتأكيد رفض الواقع وعدم تقبله، بل وإنكاره.
لمو أبي باعني يا ماه، لدنيا العذاب؟ لمو أبي باعني يا مَّه، لدنيا العذاب؟!
لمو لمو آااااااه لمو أبي باعني يا مَّه، لدنيا العذاب
وسيَّب أزهار عمري تظمى وتشرب سراب
واني صبية على درب المحبة شباب
وأزهار نيسان بس وأزهار نيسان بس يا ماااااا آه آه آه آه يا ماه أه تُهدى لشاب
تدرجت معاناة الفتاة التي تشكو حالها لأمها إلى مراحل بدأت بوصف حالها وكأنها سلعة بيعت، ومن ثَم انتقلت لنسج حلم عن الحياة السهلة واليسيرة التي أرادت أن تعيشها، ومن ثم انتقلت إلى التساؤل وهو تساؤل لا يحتاج إلى أن نجيب عنه، ولكن السؤال هنا جاء من باب الاستنكار، فالفتاة تتساءل: كيف يمكن أن يؤذي الأب ابنته مقابل المهر؟!
إن ضرورة مراعاة الفروق العمرية بين الزوجين، وعكس صورة مثالية للفتاة التي تتزوج بشاب في مثل عمرها، والتضاد بين صورة الزيجتين في الأغنية؛ أي بين الزيجة الأولى (بيع)، والزيجة الثانية (حياة)، بالإضافة إلى تشبيه الفتاة نفسها بأزهار نيسان عندما سترتبط بشاب في مثل عمرها، كل هذه التفاصيل الدقيقة تعكس الفرق بين الموت والحياة، بين الأزهار والإهدار.
كما أن لفظة الإهداء في الحلم المنشود، تختلف عن البيع في الزيجة الحقيقية، وهذه الثنائية الضدية في النص تبيِّن الفرق بين زواج يقوم على الرضا والقَبول بين الطرفين، وبين صفقة دفع أحدهم ثمنًا بخسًا ليحصل عليها مقابل حياة فتاة، وهذه الصفقة لا يهمُّ فيها الرضا والقَبول بين الطرفين، إلَّا على أساس المنفعة المتبادلة، ولا تتعدى إلى العلاقات الإنسانية المبنية على التوافق عمومًا، وهو ما تؤكده الفتاة لوالدتها، قائلة:
وأزهار نيسان بس وأزهار نيسان بس يا مااااااااا آه يا ماه تُهدى لشاب
المواجهة:
إلى الجحيم البياس البياس اللي تبيع النفوس
إلى الجحيم البياس البياس اللي تبيع النفوس
تكفن الشايب الفاني آه بأحلى عروس
وفي وجوه الفوارس ترسم ظلال العبوس
تُسقي البنات النواعس تُسقي البنات النواعس
يا مااااااه يا مااااا آه أمر الكؤوس أمر الكؤوس
إن التجربة التي مرت بها الفتاة في الأغنية جعلتها ترفض أن تعيش هذا الواقع، وترفض هذه المقايضة بين حصول الأب على المهر (البِيَس)، وحياة الفتاة ومستقبلها، وأكدت "لتذهب هذه النقود إلى الجحيم ما دام الثمن أن يتلحف الشائب بثوب زواج أبيض"، وهي صورة بليغة عن هول المصيبة للفتاة، وكأن ما ترتديه ليس ثوب زفافٍ ولكنه كَفَن، وهذا الكفن من المفترض أن يلتف على الشايب الفاني.
وتتطرق الأغنية إلى ظاهرة غلاء المهور وعوز الشباب، فهذه (البِيَس)، هي عائق أمام زواج الشباب بمن يختارونها، وهذه (البيس) هي من تتجرع بسببها الفتاة، الحياةَ مع رجل فانٍ.
وعن دور هذه الأغنية وغيرها في تغيير الكثير من الأنماط الثقافية التي جبل عليها المجتمع، تحكي سماح عثمان (معلمة في مدرسة للفتيات بتعز)، عن أثر الأغنية في حياة المجتمع اليمني قائلة: "كثير من الأغنيات الشعبية كان لها وقع إيجابي في تغيير نظرة الناس تجاه موضوعات، أبرزها ما يتعلق بالعنف الاجتماعي، كتزويج القاصرات مثلًا، وأسهمت في الحدِّ من انتشار هذه الظاهرة، كما عُدت هذه الأغنية وغيرها مسارات تتبنى قضايا المرأة في مناطق مختلفة من أرياف اليمن".
تحكي سماح عن تأثر المرأة في الريف بهذا النوع من الأغاني الذي تعرض لظاهرة تزويج القاصرات وقضايا اجتماعية أخرى، وحاولت المرأة أن تبحث عن الحلول عن طريق الأغنية نفسها، وأول مظاهر هذا التأثر يكمن في تبني الرفض المعلن لهذا الزواج".
وتؤكد سماح: "كانت المرأة وستظل المؤثرة، والحقوقية، والمدافعة، عن بنات جنسها، وستتخذ مختلف الوسائل المتاحة لها للإعلان عن ذلك".
وعن شيوع انتشار زواج المسن بفتاة تصغره بعقود، تقول الحاجة طلحة: "يا بنتي، ما يتزوج إلَّا كثير المال أو قليل الحياء". وعلى طرافة المثل إلَّا أنه يؤكد أن ظاهرة تزويج القاصرات تمارس سطوتها في المجتمع اليمني، لا سيما الأرياف بفعل العوز والفقر.
وهي ظاهرة توافق المجتمع على رفضها والوقوف في وجهها، ولنا في قضية نجود علي (طفلة يمنية تزوجت بالإكراه)، مثال حي على رفض هذه الظاهرة، ونحتاج فقط إلى البحث عن ترسيم الوعي وفقًا لقراءة تراثنا، لا سيما الشعبي منه، فلا يمكن البدء بالبحث عن الحلول لدرء الممارسات التي تقوم بها المجتمعات التقليدية في بعض توجهاتها ضد المرأة من دون دراسة مستفيضة عن مكنونات الخطاب الأيديولوجي للمجتمع في تجلياته المختلفة، فمضمون التراث اليمني مثلًا يعكس في موضوعاته التي يعالجها الرفض لكثير من السلوكيات التي تمارس بحق المرأة، بل إنه خطاب يعبر عن معاناة المرأة اليمنية، وهو ما يجب الانطلاق منه للتعبير عن ثقافة مجتمع محلية ترفض هذه الظواهر والسلوكيات.
وحتَّى نقدم خطابًا موجَّهًا يجب الإشارة إلى هذه الأدبيات الشعبية؛ كونها لا تُصدِّر المجتمع على أنه مجتمع تأثيميٌّ، فالخطاب من الداخل والبحث عن التأليه للقيم المجتمعية يجب أن ينعكس من ماهيَّة المجتمع ويعبر عنه، لا سيما عند تقييم الظواهر السلبية في المجتمعات المحليَّة.