رحلة البريطانية "فريا ستارك" إلى اليمن

البروباجندا؛ استراتيجية للتأثير والهيمنة خلال الحرب
د. حافظ قاسم القطيبي
September 4, 2024

رحلة البريطانية "فريا ستارك" إلى اليمن

البروباجندا؛ استراتيجية للتأثير والهيمنة خلال الحرب
د. حافظ قاسم القطيبي
September 4, 2024
.

منصة خيوط

تعكس رحلة فريا ستارك الثالثة إلى اليمن، التسابقَ المحموم بين الدول الكبرى في السيطرة على اليمن والبحر الأحمر ومنافذه الاستراتيجية، وتتجلّى قيمة مثل هذه الأعمال في قدرتها على طرح الأسئلة وإثارة التفكير في الماضي، واستحضار الحاضر ومسارات الصراع الراهنة. فما أشبه الليلة بالبارحة! ذلك أنّ قراءة مثل هذه الأعمال والكشف عن أنساقها وملاحظة تحركات هذه الأنساق وتفاعلها بين الماضي والحاضر لهو جدير بالتأمل والبحث والتحليل، إذ تكشف القراءة الفاحصة عن الأنساق المهيمنة لعملية الاستشراق: نسق الاستعلاء والتفوق والرغبة في امتلاك الشرق والسيطرة عليه والتحكم به.

اليمن بين إيطاليا وبريطانيا

سبقت الحرب العالمية الثانية استعدادات وتحالفات واستقطابات وتنافس على مناطق النفوذ، وقد كانت اليمن منطقة جذب لعوامل عديدة، فصارت جزءًا من محطات الصراع، وغدت ساحة حرب دعائية بين قوتين عالميتين، هما: إيطاليا وبريطانيا. 

ومعلوم أنّ بريطانيا قد احتلت عدن والمناطق اليمنية الجنوبية في 1839. كما كانت إيطاليا منذ أوائل القرن العشرين تحاول مد سيطرتها إلى الساحل الغربي اليمني المواجه لإريتريا؛ للتحكم في المدخل الجنوبي للبحر الأحمر؛ لذلك حرصت على توقيع معاهدة صداقة مع الإمام يحيى في عام 1926 مدة عشر سنوات، ويشير سيد مصطفى سالم في كتابه (تكوين اليمن الحديث) إلى أنه "تم تجديد هذه المعاهدة، بعد تردّد الإمام في عام 1937، وقد تبع تجديد المعاهدة إرسال الكثير من الفنيين والأطباء. وقد أثار هذا الفوز الإيطالي الكبير إنجلترا... ولقد ظلت إيطاليا صاحبة المقام الأول في الجزء الشمالي من اليمن، وكان الأطباء هم أقوى الشخصيات الإيطالية نفوذًا وقوة بين الإيطاليين المقيمين هناك، وقد ظل هكذا الأمر حتى بعد نشوب الحرب العالمية الثانية. لقد كانت المستشفيات الإيطالية هي المراكز الرئيسة للدعاية الفاشية، وكانت توجد في المدن الهامّة ذات المراكز الاستراتيجية، مثل: تعز، والحديدة، بل وفي صنعاء نفسها... وكان النفوذ الإيطالي والدعاية الإيطالية في اليمن تضايق الإنجليز كثيرا". [ص459، 460] 

رحلة ثالثة لفريا ستارك

في هذا السياق، ومع نشوب الحرب العالمية الثانية، جاءت فريا ستارك إلى اليمن في رحلة ثالثة، والجدير بالإشارة أن فريا ستارك كاتبة إنجليزية تعشق المغامرة والاكتشاف والترحال في بلدان الشرق، سافرت إلى بغداد ثم إيران بهدف استكشاف قلاع (الحشاشين)، وفي 19 ديسمبر 1934 وصلت عدن، ومنها ذهبت إلى حضرموت، وهدفها الوصول إلى مدينة شبوة العاصمة التاريخية لحضرموت، واكتشاف طريق البخور، ودوّنت رحلتها في كتابها (البوابات الجنوبية لشبه الجزيرة العربية). ورحلتها الثانية كانت في أكتوبر 1937، جاءت مرافقة لعالمتَي آثار في رحلة استكشافية لمعبد القمر في مدينة حريضة في حضرموت. 

أما الرحلة الثالثة فكانت إبان الحرب العالمية الثانية، فقد وصلت عدن في ديسمبر 1939، وكتبت عن رحلتها في كتابها (الشرق هو الغرب)، وقد ترجم الدكتور مسعود عمشوش فصلين منه في كتابه (اليمن في كتابات فريا ستارك: من الاستكشافات إلى الاستخبارات، دار عناوين، 2021، ص131-153)، وهذه الرحلة هي محط قراءتنا هنا.

القوة العسكرية وحدها لا تكفي 

تنوّعت دوافع المستشرقين وأهدافهم، فهناك من المستشرقين والكُتّاب الغربيين من كانت أهدافه علمية، ومنهم من كانت تحركه دوافع الهيمنة والسيطرة على الشرق. ورحلة فريا ستارك الثالثة تختلف عن سابقتيها، فهذه الرحلة تدفعها موجّهات استعمارية، لتحقيق أهداف سياسية واحتلالية، إذ تذكر أن مهمتها كانت البروباجندا، أي نشر معلومات بطريقة موجهة تعبر عن وجهة نظر واحدة. فقد رأت الدول الكبرى أن القوة العسكرية لا تكفي لحسم الصراع بل يجب الاستعانة بالحرب الدعائية للتأثير في الرأي العام وتوجيه قرارات الناس وسلوكهم بما يخدم أهداف هذه الدول.

تذكر فريا ستارك أنه مع تراكم سحب الحرب في أوروبا، وفي نهاية شهر أغسطس 1939، غادرت منزلها بالقرب من البندقية، وجاءت إلى لندن، بحسب تعبيرها: "لأداء أية خدمة يمكنني تقديمها. وبسبب إلمامي باللغة العربية اختارتني وزارة الإعلام للعمل بصفة (خبيرة في شؤون الشرق). وبدأت العمل من الرابع من شهر سبتمبر 1939، أي من ثاني أيام الحرب".

ثم تقول: "وبعد بضعة أسابيع، وصلتنا برقية من ستيوارت بيراون Perowne) Stewart)) -مدير مكتب الإعلام في مستعمرة عدن- يسأل فيها عمَّا إذا كنت أرغب في أن أصبح مساعدة ضابط الإعلام في عدن". 

وعلى عجل، أبحرَت إلى عدن في نوفمبر 1939، وعندما وصلت باشرت عملها في الحال.

كان علي محمد لقمان يناقش معنا دلالات بعض الكلمات الإنجليزية ومدى ملاءمة الإيقاعات العربية للنصوص التي تُوظَّف للردّ على البروباجندا الإيطالية، وتُقدم على أنها الأخبار الصحيحة (الوحيدة) عن الحرب، وذلك لسكان عدن الذين يسمعونها في المساء، (مرتلةً) بالصوتِ الجميلِ لقارئ مسجدهم.

الأخبار بصوت مؤذن المسجد

بطبيعة الحال تتداخل أهداف المستشرقين وتتآزر، فالهدف السياسي "لم يكن مقتصرًا على بسط النفوذ على العالم الإسلامي فحسب، بل إن المستشرقين قد دخلوا في صراع دول أوروبا على منطقة العالم الإسلامي، فكانوا أدوات في أيدي حكوماتهم تعينهم على التنافس بين الدول الأوروبية ذاتها" [كُنه الاستشراق، د. علي النملة، ص97].

ففريا ستارك كانت أداة للسلطات البريطانية لمواجهة نفوذ منافستها إيطاليا، فقد كان أبرز مهامها الرد على البروباجندا (الدعاية) الإيطالية من خلال إعداد الأخبار وترجمتها إلى العربية وبثّها في ساحات عدن، وكان يساعدها الشاب علي محمد لقمان، الذي كان حينها في الثالثة والعشرين من العمر، وقد وصفته في كتابها، وتوضح فريا ستارك أنه: "كان يناقش معنا دلالات بعض الكلمات الإنجليزية ومدى ملاءمة الإيقاعات العربية للنصوص التي تُوظَّف للردّ على البروباجندا الإيطالية، وتُقدم على أنها الأخبار الصحيحة (الوحيدة) عن الحرب، وذلك لسكان عدن الذين يسمعونها في المساء، حينما يحتشدون، تحت ضوء النجوم في ميدان كريتر، (مرتلةً) بالصوتِ الجميلِ لقارئ مسجدهم، ومكبرٍ للصوت". 

وهي هنا توضح الأسلوب الذي تتبعه في توجيه الأخبار بما يخدم السياسة البريطانية، وتُقدم على أنها الأخبار الصحيحة الوحيدة؛ نظرًا لعدم وجود تعدد إعلامي منافس، إذ لم تظهر صحافة في عدن، في ذلك الوقت (1939).

وفي العاشر من يونيو من عام 1940، أعلنت إيطاليا دخول الحرب، وبدأت بقصف عدن، فبادرت فريا ستارك إلى "تشكيل ثلاث فرق من الشباب العرب للعمل التطوعي: حراسة الشوارع والمنازل أثناء الغارات الجوية الإيطالية".

جعل الإيطاليون مستشفى صنعاء أداتهم الرئيسة للدعاية، وشكّلوا أكبر تجمع للأجانب في صنعاء، إضافة إلى أنّ الأطباء الإيطاليين في صنعاء كانوا يحولون مرضاهم الميئوس من شفائهم إلى عنابر الطبيبين البريطانيين، ومن ثم يتحدثون في المدنية عن النسبة العالية للوفيات في عنابر منافسيهم البريطانيين.

المستشفى أداة رئيسة للدعاية

بالرغم من أنّ الإمام يحيى فضّل الحياد في الحرب، وكان بطبيعته حذِرًا من النفوذ الأجنبي، فإنّ بريطانيا ظلت منزعجة من تأثير البروباجندا الإيطالية، إذ تشكل خطورة على وضع القوات البريطانية في المنطقة؛ لذلك تحركت فريا ستارك إلى صنعاء، بهدف مواجهة البروباجندا الإيطالية. ويذكر الدكتور عمشوش، نقلًا عنها، أنّها أكّدت لقيادتها في لندن "تحقيق مهمتها من خلال الوصول إلى حريم الإمام بطريقة هادئة تعطي صبغة استقامة للأنباء التي ستنشرها". [د. عمشوش، ص39]

وهنا ندرك أهمية الرأي العام، فإذا تشكل بوعي لخدمة المصالح الوطنية فسيكون فاعلًا ومؤثرًا لا تستطيع الدول الكبرى تجاوزه؛ لذلك تلجأ هذه الدول إلى اختراق المجتمعات والسيطرة والهيمنة على الرأي العام وتوجيهه لخدمة مصالحها ومطامعها.

في منتصف شهر فبراير عام 1940، وصلت فريا ستارك صنعاء مع جهاز سينما مخبأ في ملابسها. وأول ما لا حظته أنّ المستشفى في صنعاء جعلها الإيطاليون أداتهم الرئيسة للدعاية أو (البروباجندا)، وأنهم شكّلوا أكبر تجمع للأجانب في صنعاء. ولاحظت أيضًا، توظيف المستشفى أداة للبروباجندا، بأنّ الأطباء الإيطاليين في صنعاء يُحوِّلون مرضاهم الميئوس من شفائهم إلى عنابر الطبيبين البريطانيين، ومن ثم يتحدثون في المدنية عن النسبة العالية للوفيات في عنابر منافسيهم البريطانيين.

عروض سينمائية في صنعاء

تقول فريا ستارك إنّها ذكرت اقتناءها للأفلام السينمائية بشكل عابر أثناء أول حديث دار مع زوجة وزير الخارجية في صنعاء (راغب بيه)، وعلقت الزوجة قائلة: "سينما! سينما في صنعاء! ينبغي أن نشاهدها".

فردّت فريا ستارك بأنه ينبغي الحصول على إذن من جلالة الإمام. قالت زوجة الوزير: "سأخبر الملكة بذلك".

وحالما تحصلت فريا ستارك على ترخيص الإمام، حولت جميع لياليها في صنعاء إلى برنامج للعروض السينمائية، وكانت الأفلام السينمائية التي عرضتها إخباريةً وثائقية: واحد عن الجيش، والثاني عن السفن الحربية البريطانية، والثالث عن القوات الجوية. وكانت جميعها تركز على الجانب البطولي من الحرب. 

وتؤكّد فريا ستارك: "الأفلام الحربية -على الرغم من تواضعها- هي التي أحدثت ثورة في مشاعر سكان المدينة. فطوال ستة أشهر كنا نخوض حربًا من دون أي أخبار لافتة؛ لهذا كان من السهل على الفاشيين وإذاعة برلين أن يُقنعوا اليمنيين بأن القوات البريطانية قد اندثرت من البر والبحر والجو. وأفلامي عرضت للمشاهدين الدبابات، والطائرات وهي تلقي بالقنابل وكأنها تبيض، والبوارج الحربية ذات الأبراج الضخمة (Nelson & Rodney)، وهي تحرث البحر المغطى بالزبد. وكنت أسرد التعليق عبر الميكرفون، باللغة العربية، وأرفع صوت الجهاز حينما تُشاهد الدبابات والمدافع، ليتلذذ الحاضرون بأصوات الانفجارات". 

ونظرًا لهذا الشحن الدعائي وما قامت به من حرب سردية تعزز الدعاية البريطانية، بين أوساط النساء وبمن تلتقيه من عمال القصر، تقول إنها واجهت عراقيل: "اشتداد حدة غضب رئيس البعثة الفاشية وهيجانه، بل إنّه لم يتردد في شتمي علانية حينما ساءت الأمور". 

وتذكر أنّها لم تكلم الإمام شخصيًّا، ولكن تشير إلى موقفه وسياسته، قائلة: "وبالنسبة للإمام، أعتقد أنّه كان مسرورًا بأن يرى أنّ التأثير التهديدي للأجانب يُقاوم من غير أن يتدخل بنفسه... باختصار، لم يذعن جلالة الإمام لأيٍّ من المحاولات التي بُذلت لإبعادي". 

وقد غادرت فريا ستارك صنعاء عائدة إلى عدن في نهاية مارس 1940. وفي شهر أغسطس سنة 1940، نُقلت فريا ستارك إلى مصر ثم العراق. وفي كلتا الرحلتين قامت بتأسيس شبكة شبابية عربية من المتعاطفين مع بريطانيا مهمتها المساعدة في الحفاظ على ولاء المصريين والعراقيين والعرب للحلفاء، وأطلقت عليها اسم: (إخوان الحرية Brothers of Freedom).

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English