شهدت السنوات العشر الماضية تطورًا وانتشارًا كبيرًا للصناعة العسكرية الفرنسية وتكاثر عمليات نقل التكنولوجيا وإنشاء العلامات التجارية الكبرى، الأمر الذي أدى إلى احتلالها المرتبة الثالثة بين أكبر مصدري المعدات العسكرية في العالم في عام 2020.
وأصبحت فرنسا وجهة رئيسية لمستوردي الأسلحة في الأسواق الدولية، وهو ما مكّنها من تشبيك تحالفات وثيقة مع بعض الدول، مثل الإمارات التي برزت كلاعب رئيسي في المنطقة العربية المشتعلة بالحروب والصراعات، وشريكة السعودية في الحرب الدائرة في اليمن منذ سبع سنوات.
ويكشف تقرير حقوقي اطلعت "خيوط"، على مقتطفات منه، عن فشل الشركات الفرنسية والدولة في الوفاء بعدد من التزاماتها الدولية في مجال العناية الواجبة، وهو ما من شأنه تحميلها مسؤولية التشارك في الجرائم التي ارتكبتها الإمارات العربية المتحدة.
وحسب التقرير الذي سيصدر عن الفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان وروابطها والمنظمات الشريكة لها بعنوان "مبيعات الأسلحة: فرنسا والإمارات شريكتان في الجرائم المرتكبة في اليمن"، فإن فرنسا تحقق نجاحًا تجاريًّا على حساب التزاماتها الدولية، حيث إن جزءًا كبيرًا من هذه الإمدادات يقوم بتجهيز نظام متهم بانتهاك القانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي.
ومن خلال التشابك المعقد للروابط السياسية والعسكرية والصناعية التي أقيمت على مر السنين من أجل الالتفاف على القانون الدولي أصبحت الشراكة الوثيقة بين فرنسا والإمارات العربية المتحدة حالة نموذجية. فهذه الشراكة ترسم الخطوط العريضة لـ"نظام" حقيقي مصمّم خصّيصًا للتّحايل على الضوابط القانونية والأخلاقية التي تشكل إطار تجارة الأسلحة.
يتطرق تقرير الفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان وروابطها والمنظمات الشريكة لها، إلى الالتزامات القانونية السارية فيما يتعلق بصادرات الأسلحة الفرنسية، إذ يوثق الجزء الأول من التقرير تورط أبو ظبي أو الجماعات التابعة لها في الصّراع الدائر في اليمن منذ نحو سبع سنوات
وأصبحت أبو ظبي خامس أكبر مستورد للمعدات العسكرية الفرنسية. وبالتالي، فإن قوة منطقة الخليج تتمثل في كونها "منطقة رمادية" حيث يمكن بيع المعدّات الفرنسية أو تصنيعها أو تمريرها دون عوائق. بالرغم من إدانتها لسنوات، إذ لا تزال تفلت من أي رقابة دولية وإقليمية فعّالة قائمة على الاشتراطات المعيارية التي تحظر تصدير الأسلحة للأنظمة التي ترتكب جرائم وانتهاكات جسيمة بحق القانون الدولي الانساني.
وعملت دولة الإمارات، شريكة السعودية في تحالف الحرب الدائرة في اليمن، على إنشاء وتشكيل عشرات الفصائل العسكرية غير النظامية خارج إطار وزارة الدفاع التابعة للحكومة المعترف بها دوليًّا، وإمدادها بالأسلحة المختلفة، إضافة إلى مشاركة طائراتها الحربية في عمليات القصف الجوي الذي عمد التحالف إلى اتباعه في إطار تدخله -كما هو معلن- لدعم الحكومة المعترف بها دوليًّا.
قتال وكوارث
بموجب القانون الفرنسي، تخضع صادرات المعدات العسكرية لمبدأ حظر التصدير، ما لم تمنح السلطة التنفيذية استثناء. وذلك بغاية التأكد من أن الأسلحة "صنع في فرنسا" لا تغذي النزاع المسلح أو الحرب الأهلية، ولا تستخدم لارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان. مع ذلك كشف التقرير أن فرنسا منحت الامارات 1093 ترخيصا لتصدير الأسلحة على الرغم من الانتهاكات التي ترتكبها منذ تصاعد النزاع المسلحة في اليمن العام 2015.
لكن بالرغم من ذلك، فإن الحليف التاريخي والاستراتيجي لفرنسا، وهي دولة الإمارات العربية المتحدة، منخرطة في الحرب في اليمن، التي تسببت في أكبر كارثة إنسانية في العالم، وفقًا لمنظمة الأمم المتحدة، والتي نتج عنها مقتل أكثر من 400 ألف شخص.
وجددت الأمم المتحدة دعوتها لجميع الأطراف في اليمن بإيقاف الحرب، والحوار بهدف خفض العنف ومنع المزيد من التدهور الاقتصادي والإنساني.
وأعرب مبعوث الأمم المتحدة الخاص إلى اليمن هانس غروندبرغ عن قلق بالغ إزاء التصعيد العسكري والعنف المستمرين في البلاد، مشيرًا إلى أن هناك خطرًا من أن هذا قد يفتح فصلًا جديدًا أكثر دموية في الحرب اليمنية.
وانتقد غروندبرغ في الإحاطة التي قدمها إلى مجلس الأمن الثلاثاء 14 ديسمبر/ كانون الأول، تركيز أطراف النزاع على الخيارات العسكرية، مشيرًا إلى أنها لن تؤدي إلى حلول مستديمة، إذ إن هناك حاجة ماسة الآن لضبط النفس ووقف التصعيد وبدء الحوار.
وحذر من أن اشتداد القتال وتحول خطوط المواجهة يعرض المدنيين للخطر ويجبرهم في كثير من الحالات على الفرار للمرة الثانية أو حتى الثالثة، معربًا عن قلقه من التصعيد العسكري من قبل جميع أطراف الصراع في اليمن.
ووفقًا لـفريق الخبراء البارزين الدوليين والإقليميين بشأن اليمن، واصلت فرنسا دعم القوات الإماراتية من خلال مبيعات الأسلحة. وكانت زيارة ماكرون الأخيرة إلى الإمارات من أجل بيع أكبر صفقة أسلحة مكونة من 80 مقاتلة جوية، على الرغم من ممارسات الإمارات في استهداف المدنيين والأعيان المدنية بالغارات الجوية.
فريق خبراء الأمم المتحدة البارزين الدوليين والإقليميين بشأن اليمن، كان قد أكد في آخر تقرير له أن النزاع في البلاد لا يزال مستعصيًا على الحل، على الرغم من الجهود الدولية والإقليمية الحثيثة للوصول إلى اتفاق وقف إطلاق نار واستهلال عملية سلام.
وأعرب فريق الخبراء البارزين عن قلقه البالغ تجاه استمرار بيئة الخوف والخروج على القانون السائدة في اليمن، "والتي تردع الكثيرين من التعاون ومشاركة المعلومات مع الفريق أو حتّى منح الموافقة على استخدام المعلومات".
الشراكة القاتلة
العديد من التقارير الحقوقية والدولية تستمر بالتأكيد على أن هناك دولًا ثالثة تواصل توفير الأسلحة والدعم العسكري لأطراف النزاع في اليمن.
ويتطرق تقرير الفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان وروابطها والمنظمات الشريكة لها، إلى الالتزامات القانونية السارية فيما يتعلق بصادرات الأسلحة الفرنسية، إذ يوثق الجزء الأول من التقرير التورط المباشر وغير المباشر للقوات الإماراتية في ارتكاب انتهاكات جسيمة على الأرض في اليمن، حيث ارتكبت انتهاكات بحق المدنيين كالاعتقال التعسفي والإخفاء القسري والتعذيب، وتقديم العديد من الشهادات المباشرة لضحايا هذه الانتهاكات.
وقد استعرض التقرير ثمان حالات انتهاكات - جمعها باحثو "مواطنة" الميدانيون - ارتكبتها قوات إماراتية وقوات مدعومة من قبلها كالمجلس الانتقالي الجنوبي، وفي معظم الحالات التي استعرضها التقرير تعرض الضحية للإخفاء القسري بعد الاعتقال مباشرة، وعادة ما يتعرض الضحية للتعذيب خلال فترة الاختفاء القسري. وفي إحدى الحالات، مات الضحية في مركز الاعتقال إثر التعذيب. ويُنظر إلى المدنيين الذين يتعرضون للتعذيب بناء على اتهامات مختلفة، على أنهم بشكل عام معارضون سياسيون. كان التعذيب في ست حالات من اجمالي الثمان الحالات التي نشرها التقرير، وقد اقترفه ضباط إماراتيون بأنفسهم.
قال علي عبد الله باحث في مواطنة لحقوق الانسان:" منذ بداية الحرب وحتى الآن، تردى وضع حقوق الإنسان في اليمن من سيء إلى أسوأ، وقد أدت سبع سنوات من النزاع إلى دفع اليمن إلى حافة المجاعة. مع ذلك دأبت أطراف النزاع بما فيهم الاماراتيين والجماعات المسلحة المدعومة من قبلهم على ارتكاب انتهاكات جسيمة بحق المدنيين والأعيان المدنية، ولم يبدوا أي احترام لقوانين الحرب."
بينما يستعرض الجزء الثاني من التقرير نشأة الشراكة الاستراتيجية بين فرنسا وحليفتها الخليجية والروابط التي تسمح بدورة سلسلة من صادرات الأسلحة الفرنسية المباشرة، ونقل المعرفة والمهارات، فضلًا عن التطوير المشترك للأسلحة مع الإمارات، كجزء من مشروع يشارك فيه مورّدون آخرون (ألمان، بريطانيون، إلخ)، وأخيرًا تطوير الأسلحة من قبل الفروع الأجنبية التابعة للشركات الفرنسية.
وتطالب الفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان بحظر تصدير الأسلحة وتقنيات المراقبة إلى دولة الإمارات العربية المتحدة طالما ترتكب هذه الأخيرة انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان داخل البلاد أو في الخارج، وخاصة في اليمن سواء من قبل السلطات أو الجيش أو القوات المتدخّلة بالوكالة. وطالما لم يتم التحقيق في الانتهاكات المرتكبة، تدعو كذلك إلى إنشاء لجنة تحقيق برلمانية دائمة، تكون مسؤولة عن الرقابة المنهجية المسبقة واللاحقة على الصادرات الفرنسية من الأسلحة ومعدّات المراقبة إلى وجهات حسّاسة. إضافة إلى إصلاح عملية الإذن بتصدير معدّات الأسلحة والأدوات ذات الاستخدام المزدوج، والتي يعدّ التعتيم الحالي بشأنها مقلقًا بشكل خاص.
وتؤيد مواطنة لحقوق الانسان دعوة الجمعية العامة للأمم المتحدة إلى إنشاء هيئة مستقلة ومحايدة تحقق في الانتهاكات المزعومة في اليمن، وتحث "مواطنة" فرنسا على استخدام نفوذها للضغط على الأطراف المتحاربة للجلوس حول طاولة مفاوضات والبدء في محادثات جادة لتحقيق سلام شامل ومستدام في اليمن.
الجدير بالذكر أن التقرير الذي يتوقع أن يكون له صدى واسع، نتاج بحث أجري بين أبريل 2019 وأبريل 2021 من قبل الفدرالية الدولية لحقوق الإنسان وروابطها في اليمن والخليج وفرنسا، وهم على التوالي، منظمة مواطنة لحقوق الإنسان، ومركز الخليج لحقوق الإنسان، ورابطة حقوق الإنسان الفرنسية بالتعاون مع مرصد التسلح.