تكتسب ليالي رمضان نكهتها وأجواءها الخاصة المطرزة بالبهجة والحياة الليلية بشكل خاص، حيث ينير الضوء الليالي المعتمة، وتكون الشوارع والمحال التجارية وجهة للمتسوقين والمتجوّلين ليلًا.
"كاتلوج" لفكّ شفرة القناص!
في المدينة المحاصرة منذ سنوات، يختلف الأمر كليًّا بالقرب من خطوط التماس شرقًا وغربًا وشمالًا، حيث يعيش السكان حياة خاصة محفوفة بالخوف وملفوفة بالعتمة المطبقة في ليالي رمضان بشكل خاص، يمكنك ملاحظة ذلك بوضوح عند خروج الناس ليلًا -وخصوصًا النساء والأطفال- من منازلهم في تلك المناطق، حيث يتخذون مسارات محددة للخروج من أزقة الحواري والأحياء السكنية المتاخمة لمصادر النيران التي يطلقها القناصون من المناطق والبنايات المطلة.
هناك يعيش آلاف السكان على حافة الأخطار المحدقة بهم، لكنهم يتغلبون على مخاوفهم الكبيرة بعد أن أجبرتهم الحاجة والظروف السيئة على السكن في مساكن من ركام وأطلال حرب ووسط أحياء يتربص بها قناصون. يتتبع سكان هذه الأحياء في تحركاتهم برنامج سير دقيق باتجاه الحياة المقابلة، ويسترشدون بما يشبه "كاتلوج" دقيقًا، يحفظونه عن ظهر قلب مثلما يحفظه كافة أفراد النقاط العسكرية والأمنية عند مخارج الأحياء السكنية المتهالكة.
حياة تبددها العتمة
لاحظ مُعدّ هذا التقرير جزءًا من هذه الحالة البائسة حين كان يستقل حافلة صغيرة من وسط شارع جمال العابق بالحياة في ليالي رمضان. صعدت بعض النسوة في ذات الحافلة، وطلبن من السائق إيصالهن إلى جولة "حوض الأشراف" الواقعة في الجهة الشرقية من المدينة والمتاخمة لمناطق التماس الرئيسية، ناحية حي الكمب والقصر وفرزة صنعاء، حيث يتمركز المسلحون الحوثيّون وقناصة الجماعة.
ما أن يمر الباص الصغير بالشارع المحاذي لمدرسة الشعب ويقترب من جولة حوض الأشراف وبداية شارع سوق الصميل الشعبي، حتى تلحظ جليًّا تبدّد معالم الحياة، يحل الظلام على بعد خطوات قليلة، العتمة تلف المكان، المحال التجارية شبه مغلقة، كلما اقتربت أكثر من مناطق التماس. وعلى مقربة من خط النهاية تتبدّى جلية مظاهر الخوف الذي يلف المكان البعيد، عن أجواء رمضان المترعة بالحياة ليلًا.
تنزل النسوة بمحاذاة نقطة أمنية تتمركز عند مدخل حي الكمب ومبنى المحافظة القديم والمهجور منذ سنوات، ثم يتخذن مسارًا للمرور عبر محيط تلك النقطة الأمنية. يحفظ أفراد النقطة عن ظهر قلب بيانات وملامح كل سكان الحي الذي دمرته الحرب ويسكن الناس على أطلاله، يتحققون ما إذا كان هناك شخص غريب عن الحي، وإن وجدوه لا يُسمح له بالعبور إلّا بعد تحرٍّ دقيق عن وجهته، وبعد أن يقوم بتسليم هويته الشخصية حتى يعود من زيارته الخاصة، ويُسمح للسكان بالتعريف بزوارهم أحيانًا.
قناصة القتلة وقذائف الفناء
يقول منير الأكحلي، وهو أحد قاطني مناطق التماس في الجهة الشرقية من المدينة في حديث لـ"خيوط"، أنّ حياتهم كأُسَر عالقة منذ ثماني سنوات على خطوط التماس والنار لا يمكن تصوّرها فهي تقع بين قناصات القتلة وقذائف الموت والفناء، والتي صارت أشبه بمسلسل يوميّ، وعلى وجه التحديد سكان منطقة بريد الروضة التي تقع أمام معسكر الأمن المركزي المسيطر عليه من قبل ميليشيات أنصار الله (الحوثيين) ومواقعها العسكرية المحاصرة لهم من مختلف الجهات، في ظلّ صمتٍ مخزٍ من الجميع.
وحسب حديث الأكحلي، فإنّ عملية مغادرة السكان للحي لأيّ غرضٍ كان، تشكّل مغامرة محفوفة بالمخاطر، لأنّ آلات الموت تترصد الجميع، ولا يدرون من أيّ جهة ستطالهم.
تعسر ولادات وموت أجنّة
تتوزع القصص والوقائع التي تُرصد في خطوط النار ومناطق التماس في مدينة تعز، على حالات متعددة، وبحسب تصريح ماهر العبسي (راصد يعمل في اللجنة الوطنية للتحقيق في ادّعاءات انتهاكات حقوق الإنسان)، لـ"خيوط"، فإنّ أبرزها تتركز في عمليات القنص المباشر للمدنيّين، وزراعة الألغام والعبوات المتفجرة، واستهداف الأحياء بالقذائف.
يشير العبسي أيضًا إلى قصص مؤلمة، بطلاتها هن النساء في مناطق التماس وعلى وجه خاص النساء اللواتي يداهمهن المخاض فيصعب إسعافهن لتلقي الرعاية الصحية بعد الخامسة عصرًا، حيث يصبح التحرك بعد هذا الوقت عرضة للمخاطر المهلكة، ويتم استهداف أيَّ مصدرٍ للضوء بالقنص المباشر، الأمر الذي يتسبّب في تعسّر للولادات، أو وفاة النساء الحوامل، وتموت الأجنّة في بطون أمهاتها في أحيان كثيرة.
ووفقًا لحديث العبسي أيضًا، فإنّ المعاناة تمتد لتشمل حياة جميع السكان في مناطق التماس، وتصبح كل فرص الحياة عرضة للاستهداف المباشر، وهذا ما يحدث حين تذهب النساء لجلب الماء من البئر أو لغرض الاحتطاب، ما يجعلهن عرضة لرصاصات القناصين، وقد تم تسجيل العديد من الحالات المستهدفة بعملية القنص للنساء.
وعن مدى توفر تقارير خاصة توثق هذه الانتهاكات والوقائع من قبل اللجنة الوطنية للتحقيق في ادعاءات انتهاكات الإنسان، أفاد العبسي بعدم وجود تقرير رسمي عن خطوط النار، عدا ما يتم رصده بمبادرات خاصة، وأوضح أنّ آخر تلك الانتهاكات؛ عمليةُ استهداف مباشر بالقنص مطلع شهر أبريل الحالي، لمواطن يبلغ السبعين من عمره ويسكن في منطقة كمب الروس جوار مقبرة كلابة على خط التماس المباشر حيث يتركز القناصة الحوثيون، فقد تعرض لقنص مباشر وهو عائد إلى منزله بعد تفقده لزريبة مواشٍ خاصة به في الحي، وتم استهدافه بطلق ناري في منطقة الحوض، ويرقد حاليًّا (وقت إعداد التقرير) في مستشفى الصفوة بالمدينة.
كل كائن حي مستهدف بالقنص
ولكون منطقة بريد الروضة الواقعة بين مديرية القاهرة ومديرية صالة، مسرحَ عمليات عسكرية متصلة منذ سنوات، فقد تجرع السكان بمختلف أطيافهم أشكالًا عديدة من الجرائم البشعة، بحسب حديث منير الأكحلي، ممّا فرض عليهم التعايش مع آلات الموت والقهر بشقيه النفسي والمعنوي، حيث فقدت كل الأُسَر حقّها في الحياة الطبيعية، التي دُمِّرت بفعل عمليات القنص التي تستهدف كل كائن حي، سواء كان بشرًا أم حيوانًا، وحتى الطيور لم تسلم من القنص.
حصار مطبق ليلَ نهار، كما يقول الأكحلي، ويستحيل معه وصول المرضى إلى مراكز الإسعافات الأولية والمستشفيات الطبية، ويُحرمون من الحصول على الرعاية الصحية؛ الأمر الذي تسبّب في حالات إعاقة لكبار السنّ والأطفال، وإنّ الأمهات لا يحصلن على الرعاية الطبيعية أثناء فترة الحمل والرضاعة، فضلًا عن فقدان السكان للأمن الغذائي، وأنّهم صاروا يعيشون من وجبة واحدة في اليوم، بعد أن فقدت غالبية الأسر مصادر دخلها.
يتكدّس آلاف السكان في مناطق التماس وفي خطوط النار المنتشرة في وادي صالة ومنطقة كلابة، مرورًا بمناطق الضباب والمطار القديم، يترصّدهم الموت القادم من بندقية قنّاص، أو لغمٍ مزروع تحت أقدامهم، أو قذيفة تحط على رؤوسهم. تفقد ليالي رمضان وجودها هناك، وتمرّ كسائر الأيام على بشر يقاسون الأمرّين، وينتظرون الخلاص من الجحيم.