أبو بكر السقاف أول فليسوف يمني

نذر فكره لبلاد محاطة بظلمات حالكة السواد
د. إحسان شاهر
August 31, 2024

أبو بكر السقاف أول فليسوف يمني

نذر فكره لبلاد محاطة بظلمات حالكة السواد
د. إحسان شاهر
August 31, 2024
الصورة لـ:محمد عبدالوهاب الشيباني 2007

من المعروف أن تاريخ العلوم الفلسفية في اليمن الحديث تاريخ غير طويل. فقد بدأ تدريسها في شمال اليمن مع إنشاء كلية الآداب في جامعة صنعاء في العام الجامعي 1970/1971 ضمن المقررات الأساسية لقسم الفلسفة وعلم الاجتماع، الذي قام أساتذته أيضا بتدريس بعضها لطلاب قسم العلوم الاجتماعية في كلية التربية. 

أما في جامعة عدن فلم يتأسس قسم الفلسفة إلا في عام 1995، وقبل ذلك التاريخ لم يعرف جنوب اليمن العلم الفلسفي الأكاديمي، ويرجع ذلك ـكما يبدوـ إلى اعتقاد القيادة العليا للحزب الاشتراكي اليمني، قبل قيام الوحدة اليمنية، بأن الفلسفة الماركسية ـ اللينينية هي الخلاصة النهائية الحقة للفكر الفلسفي الإنساني.

وقد جرى تدريس الفلسفة الماركسية ـ اللينينية في المدرسة الحزبية العليا للعلوم الاشتراكية في مدينة عدن، جنبا إلى جنب مع عدة مقررات، مثل البناء الحزبي، والاقتصاد السياسي، والاشتراكية العلمية، والحركات العمالية المعاصرة، وحركات التحرر الوطني المعاصرة، وتاريخ اليمن الحديث والمعاصر.

  لا نعرف بالضبط تاريخ حصول الدكتور السقاف على درجة الدكتوراه في الفلسفة من جامعة موسكو الحكومية، وكل مصادر معلوماتنا تفيد بأنه وصل إلى صنعاء في عام 1974، وباشر عمله بصفة محاضر في قسم الفلسفة والاجتماع في العام الجامعي 1975/1976.

وفي العام الجامعي 1976/1977، التحقتُ بجامعة صنعاء في قسم العلوم الاجتماعية، وهو أحد أقسام كلية التربية، وهناك تعرفتُ على الدكتور السقاف وبعض آرائه السياسية والاجتماعية، وتبين لي اتجاهه الفلسفي من خلال استماعي لمحاضراته في مقرر «الفلسفة اليونانية.»

في السبعينيات كانت حاجة المنظمين للندوات الأدبية كبيرة لسماع رأي الفلسفة في المشاكل التي استعر النقاش حولها في العالم العربي في النصف الثاني من القرن العشرين، وفي مقدمتها مشكلة العلاقة بين المضمون والشكل في الأدب والفن، ومشكلة التزام الأديب، ومزايا المدرسة الواقعية.

 أول لقب فلسفة 

في تلك الفترة الزمنية كان أبو بكر السقاف هو الدكتور اليمني الوحيد الحاصل على لقب الدكتوراه في الفلسفة، وبدأ عمله في بلاد شغف معظم مثقفيها بنظم الشعر قديمه وحديثه، وكتابة النثر الفني، وقراءة ومناقشة وتحليل بعض الأعمال الأدبية.

وكان من الطبيعي أن يتأثر أبو بكر السقاف بهذا المناخ الثقافي. واضطر من باب المجاراة أن يوزع نشاطه الفكري بين الأدب والفلسفة، فكتب عدة مقالات متعلقة بالأدب والفلسفة على حد سواء، وشارك بنشاط في العديد من الندوات الأدبية التي جرت في صنعاء في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي.

وكما يبدو، كان هناك سببان أساسيان لمشاركة الدكتور السقاف في الندوات الأدبية: أولهما هو اطلاعه الواسع على الأعمال الأدبية العالمية والعربية واليمنية، الذي يرجع بدايته إلى سنوات دراسته في القاهرة. وثانيهما هو حاجة المنظمين للندوات الأدبية لسماع رأي الفلسفة في المشاكل التي استعر النقاش حولها في العالم العربي في النصف الثاني من القرن العشرين، وفي مقدمتها مشكلة العلاقة بين المضمون والشكل في الأدب والفن، ومشكلة التزام الأديب، ومزايا المدرسة الواقعية. 

وسبق لي أن ألمحت إلى الخصائص الأكثر عمومية للثقافة اليمنية في سبعينيات القرن العشرين، وقلت في هذا الخصوص: "كان الأدب، وبخاصة الشعر والقصة والنقد الأدبي، هو الزاد الأساسي للمثقفين، ومعظم الندوات تناقش قضاياه، وكرست المجلات الرئيسة (الحكمة، اليمن الجديد، الثقافة الجديدة، الكلمة) في البلاد نفسها لنشر القصائد والقصص القصيرة والنقد الأدبي. 

أما العلوم الإنسانية كالفلسفة، وعلم الاقتصاد، وعلم الاجتماع، وغيرها من العلوم، فلم تملك رواجا يستحق الذكر. وليس غريبا أن أصحابها ظلوا غرباء في الساحة الثقافية، والاستثناء الوحيد من هذا الحكم العام هو التاريخ العربي بوجه عام، والتاريخ اليمني بوجه خاص.

  وتحت تأثير ذلك المناخ الفكري شرع طلاب الجامعة، حتى من ذوي التخصصات العلمية (رياضيات، أحياء، كيمياء) بمطالعة دواوين الشعر وقراءة القصص والمسرحيات. فكان من المعيب ألا تملك معرفة أدبية، ولا ينجيك القول بأن تخصصك غير أدبي من النظرة الدونية.

  إن الرومانسية الثورية هي أهم ما يميز جيل السبعينات في القرن الماضي ـ خطاب سياسي ثوري، ورافقه وعي ثوري استحوذ على قلوب الشباب. وقد عكس الأدب تلك الروح، فظهر أدب ثوري، هيمن بدون منازع على الساحة الثقافية، وكانت ثورية وتقدمية العمل الأدبي من أهم معايير النقد الأدبي."

ضريح الفيلسوف اليمني الدكتور أبو بكر السقاف- موسكو- روسيا

دراسات فكرية ونقدية

  يدل كتاب السقاف «دراسات فكرية ونقدية»، الذي صدر في عام 1977، دلالة قاطعة على اهتمامه بالفلسفة والأدب على حد سواء، فقد احتوى الكتاب على ترجمات لنماذج من قصائد الشعراء الروس مثل، ميخائيل ليرمنتوف، الذي أثر تأثيرا كبيرا على الكتاب والشعراء الروس في القرن التاسع عشر والقرن العشرين، وأصبحت قصائده منهلا للإبداع في الأوبرا والسيمفونية، والكساندر بلوك، الشاعر والناقد الأدبي، والكاتب المسرحي، وأحد أكبر ممثلي الرمزية الروسية.

ولم يقتصر النشاط الأدبي للدكتور السقاف على ترجمة نماذج من روائع الشعر الروسي، بل امتد أيضا إلى دراسة الأدب اليمني، وأهم ما عرف من أبحاثه في هذا المجال هو دراسة نقدية كتبها في سبعينيات القرن الماضي بعنوان «الزبيري شاعرا ومفكرا.»

وإلى جانب هذه الأعمال الأدبية، أودع الأستاذ السقاف في كتابه السالف الذكر بعض المقالات الفلسفية، وإحداها بعنوان «المركزية الأوروبية،» والثانية بعنوان «الأصول الاجتماعية للمعتزلة،» وكان هذان الموضوعان من المواضيع الجذابة للباحثين العرب طيلة النصف الثاني من القرن الماضي. 

  ومن المقالات الفلسفية التي كتبها أبو بكر السقاف في مرحلة الثمانينيات، تجدر الإشارة إلى مقالة كتبها بعنوان «ابن خلدون،» (اليمن الجديد، أكتوبر ـ نوفمبر 1981، السنة العاشرة. منشورة في كتاب: أبو بكر السقاف. آفاق فكرية وسياسية يمنية، إعداد منتدى الجاوي الثقافي، الطبعة الأولى، 2023،) وكذلك مقالة كتبها بعنوان «فروم والخوف من الحرية» (اليمن الجديد، العدد 1، السنة الحادية عشرة، سبتمبر 1982، منشورة أيضا في الكتاب السالف الذكر.)

ومن مقالات الثمانيات، تجدر الإشارة أيضا إلى مقالة كتبها أبو بكر السقاف تحت عنوان «موضوع ومنهج علم الاجتماع عند دوركايم،» ( اليمن الجديد، السنة السابعة عشرة، العدد 5، مايو،1988، منشورة أيضا في الكتاب المذكور سابقا،) وكذلك «الحاكمية في الفكر السياسي الإسلامي،» (لا نعرف أين نشرت لأول مرة، لكنها منشورة في الكتاب السالف الذكر.)

يعتقد بعض الزملاء الأكاديميين في اليمن أنه من الصعب أن نعتبر الدكتور السقاف فيلسوفا بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، وأنه بالأحرى مفكر سياسي، ومناضل تقدمي، أقرب ما يكون في تكوينه الفكري إلى قادة الأحزاب السياسية اليمنية اليسارية. وأنا لا أتفق مع هذا الرأي.

مشكلة المواطنة في اليمن

وهناك كتاب ألفه الأستاذ أبو بكر السقاف في نهاية الثمانيات، باسم محمد عبد السلام، وعنوانه: «الجمهورية بين السلطنة والقبيلة في اليمن الشمالي،» (شركة الأمل للطباعة والنشر والتوزيع، 1988،) وصدرت منه في صنعاء طبعة جديدة باسم مؤلفه الحقيقي في عام 2020. 

هذا الكتاب بطابعه العام كتاب سياسي ـ اجتماعي، وموضوعه الأساسي هو تحليل مشكلة المواطنة في اليمن الشمالي قبل الوحدة، والذي لم يعرف أبناؤه مفهوم المواطنة، بسبب تحوصلهم في أنسجة البنى القبلية، وانجرارهم وراء رايات التعصب الطائفي، وانسحاقهم اليومي تحت وطأة النزعة السلطوية للحكام. 

  وإذا انتقلنا إلى تسعينيات القرن الماضي، سنجد في الإنتاج الفكري للدكتور أبي بكر السقاف مقالات تربوية، تحتفظ بأهميتها حتى يومنا هذا، وهي: 1) «الديمقراطية والإصلاح والجامعة،» ( مجلة الحكمة، العدد 174، أغسطس 1995، منشورة أيضا في كتاب: أبو بكر السقاف. آفاق فكرية وسياسية يمنية.)،2) «مرة أخرى التعليم في اليمن،» (مجلة قضايا العصر، يناير 1993، منشورة أيضَا في الكتاب المذكور سابقا.) 3) «اللغة والعلم والتعليم،» (كتبها في 12/10/2003، منشورة في كتاب: أبو بكر السقاف. دفاعا عن الحرية والإنسان، إعداد منصور هايل، منتدى الجاوي الثقافي، الطبعة الأولى، 20011.) 4) «العلم والثقافة ومعارك المصير،» (جريدة الثوري، العدد 9481، 21/3/2004، منشورة في الكتاب السالف الذكر.)

  ويلاحظ مما سبق أن ما كتبه أبو بكر السقاف من مقالات حول الأحداث السياسية اليمنية، بما رافقها من ممارسات قمعية للسلطة القائمة، وما كتبه حول مشاكل اليمن الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، يفوق ما كتبه حول قضايا الفلسفة.

ولذلك يعتقد بعض الزملاء الأكاديميين في اليمن أنه من الصعب أن نعتبر الدكتور السقاف فيلسوفا بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، وأنه بالأحرى مفكر سياسي، ومناضل تقدمي، أقرب ما يكون في تكوينه الفكري إلى قادة الأحزاب السياسية اليمنية اليسارية.

وأنا لا أتفق مع هذا الرأي، لأنه لا يأخذ بعين الاعتبار الظروف التاريخية التي عاش فيها الدكتور أبو بكر السقاف، ابتداء من تاريخ عودته إلى اليمن في عام 1974 وحتى رحيله من صنعاء إلى موسكو في عام 2014، والتي أثرت تأثيرا كبيرا على تكوينه الفكري وموقفه السياسي. 

تميزت تلك الظروف التاريخية بالتخلف الشديد، الذي عم كل مجالات الحياة الاجتماعية في اليمن الشمالي، وبنفوذ قوي للزعامات القبلية، التي تداخلت مصالحها مع مصالح القيادات العسكرية العليا من خلال تقاسم النفوذ في مؤسسات الدولة، وبانعدام الحقوق السياسية الفعلية للجماهير الشعبية.

لم يكن بوسع الأستاذ السقاف أن يتجاهل الواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي للبلاد، ورأى أن مهمته، في المقام الأول، هي تنوير الناس، ولذا احتلت المقالات السياسية والاجتماعية مكان الصدارة في إنتاجه الفكري، ورام من خلالها تعرية السلطة القائمة، ورسم نموذجا أوليا في وعي الناس للمجتمع المدني، البديل التاريخي للنظام الاجتماعي والسياسي القائم.

الدكتور أبو بكر السقاف هو أول فيلسوف يمني، في العصر الحديث، تحمل بصبر عظيم وجميل عناء وضع اللبنات الأولى للعلوم الفلسفية في اليمن، وجلدته مرارة زمانه على النضال الدءوب طيلة حياته من أجل بناء مجتمع مدني، في بلاد محاطة بظلمات حالكة السواد.

 مناضل ومفكر في آن 

  ولذا يمكن القول إن الأستاذ السقاف كان مناضلا ومفكرا في آنٍ واحد، ويجب ألا يفهم القارئ من هذا القول أن السقاف كان مفكرا ملتزما لحزب من الأحزاب اليمنية اليسارية، فهو لم يفكر أبدا بالانتماء إلى أي حزب سياسي، لأنه تميز بنزعة فردية قوية، لا تسمح إطلاقا بأن يكون مرءوسا لأحد.

  إن كل من يتفحص أعمال الدكتور السقاف يدرك بدون عناء أنه لم يكتب كتابا مونوغرافيا واحدا، يعالج قضية فلسفية واحدة بكل تفاصيلها، بحيث يمكن تصنيفها في قسم معين من أقسام الفلسفة كما جرت العادة في المؤلفات الفلسفية الكلاسيكية.

ويدرك أيضا أن مقالاته السياسية والاجتماعية، التي عبرت تعبيرا صريحا عن مواقفه الثورية من كل ما يجري في المجتمع اليمني من أحداث وتغيرات اقتصادية واجتماعية وسياسية، أكثر عددا ووزنا من مقالاته الفلسفية النظرية المحضة.

ويمكن تبرير ذلك كله باتساع مجال النشاط الفكري والعملي للدكتور السقاف، الذي اشتمل على الفلسفة، والأدب، والنضال التنويري الهادف إلى تثوير الوعي الاجتماعي اليمني، الذي لا زال يستمد وجوده وحياته من تنفسه للأبخرة المتصاعدة من أقبية القرون الوسطى.

  وبناء على كل ما قدمناه من شواهد وحقائق، يمكن القول، بصورة قاطعة، إن الدكتور أبا بكر السقاف هو أول فيلسوف يمني، في العصر الحديث، تحمل بصبر عظيم وجميل عناء وضع اللبنات الأولى للعلوم الفلسفية في اليمن، وجلدته مرارة زمانه على النضال الدءوب طيلة حياته من أجل بناء مجتمع مدني، في بلاد محاطة بظلمات حالكة السواد.

•••
د. إحسان شاهر

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English