وهو يتذكر ذلك اليوم الذي سيغير شكل حياته إلى الأبد، وسيجعله غير قادر على المشي مجددًا، أخبرني أول جريح في ثورة 11 فبراير الشبابية، بسام الأكحلي، أنه لن يغير خططه في حال عاد به الزمن 10 سنوات للوراء؛ سيشارك بفعالية في المظاهرات التي خرجت للمطالبة بإسقاط نظام صالح؛ "نعم سأرغب في عيش كل ما عشته لو عاد بي الزمن للوراء، حتى إذا كنت أعرف بأني لن أستطيع المشي طيلة حياتي".
في ذكرى ثورة 11 فبراير، وبعد مرور 10 أعوام عليها، فإن ما آلت إليه أوضاع البلاد لا يدهش بسام الأكحلي، بل كان يتوقعه. ويضيف في حديثه لـ"خيوط"، أنه بنى توقعه هذا على كون الرئيس السابق صالح "لم يبنِ دولة طوال فترة حكمه، وإنما زرع حقل ألغام، عمد إلى تفجيرها بعد تجريده من الحكم، حتى يوهم الشعب أن الوضع في فترته كان بخير".
في 19 فبراير 2011، سقط بسام الأكحلي جريحًا بعد أن اخترقت رصاصة كلاشنكوف جسده النحيل، أثناء مشاركته في مظاهرة أمام جامعة صنعاء. يومها لم يطلق جنود الأمن المركزي النار على المتظاهرين تخويفًا، بل كانت الرصاصات تطلق مباشرة على المحتجين. لكن الشاب الذي اعتقد الجميع أنه قُتل، نجا بأعجوبة، ليسجل اسمه كأول جريح، في قائمة ستطول فيما بعد، وسيطلق عليها اسم "جرحى الثورة". وهي القائمة التي يرى أنها لم تطوَ حتى اليوم؛ لأن كل التطورات اللاحقة، ومن ضمنها الحرب التي اندلعت في 2015، تأتي في سياق الانتقام من الثورة. "كان نظام صالح بإطلاقه لتلك الرصاصة يدشن مرحلة من العنف وإراقة الدم، لم تتوقف حتى اليوم"، يقول بسام.
يرى بسام الأكحلي، أول جريح في ثورة 11 فبراير، أن "شلة من الانتهازيين" كانوا وحدهم المستفيدين من الثورة، والأحزاب "الانتهازية السلطوية" التي سطت عليها، ووظفتها بشكل سيئ ساهم في إيصال اليمن إلى ما وصلت إليه
بعد مرور ما يقارب العقد من الزمن، ورغم دخول البلد في أتون حرب مدمرة، لم تتوقف منذ نحو ست سنوات، لا يزال بسام يحتفظ بكامل قناعاته الثورية، وبما قام به ثوار فبراير، ويؤمن بأنها كانت ضرورة بالنظر إلى وضع البلاد اّنذاك، مع ذلك، فعندما يتذكرها لا ينكر أن من وصفهم بـ"شلة من الانتهازيين" كانوا وحدهم المستفيدين منها، وأن الأحزاب "الانتهازية السلطوية" التي سطت عليها، وظفتها بشكل سيئ، ساهم في إيصال البلد إلى ما وصلت إليه. وكما لا ينكر أن الخذلان وحده هو ما جناه شباب الثورة حتى الآن، إلا أنه يؤكد أن إيمانه بالثورة وضرورتها، راسخ في نفسه، تمامًا كما كان ليلة اندلاعها في 11 فبراير. فهو يؤمن، أن الرابح على المدى القصير، خاسر على المدى الطويل عندما يتعلق الأمر بالثورة - حسب تعبيره.
لا يشكل احتفاظ بسام بكامل قناعاته الثورية تلك، مفاجأة لأي شخص يعرفه جيدًا. فبالنسبة لشاب بمثل وعيه وتطلعه للحرية وانتمائه للمستقبل، شاب كان مستعدًا لتقديم روحه في سبيل الثورة، لا يمكن أن تتراجع قناعته بسهولة لمجرد أنه أصيب، حتى وإن كانت الخسارة جراء الإصابة فادحة كتلك التي مُني بها، أو بسبب ما آلت إليه أوضاع البلاد من حرب وتمزق. وإلى ذلك، يؤكد على أن قناعته هذه نابعة من إيمانه بأن الثورة لم تأتِ كفكرة عبثية؛ "لم نخرج للاحتجاج؛ لأننا كنا رومانسيين وغير واقعيين، كان وضع البلد لا يسر، والنظام مثقل بالأزمات السياسية، والاقتصادية، والثقافية، والاجتماعية، التي لم يخلص لشيء أكثر من إخلاصه لاختلاقها وإدارة البلد بها".
عرفت بسام منذ اليوم الذي أصيب فيه، وكان آخر لقاء بيننا في العام 2013، قبل شهرين من سفره إلى ألمانيا للعلاج. يومها زرته بصحبة عدد من أوائل الشباب المشاركين في الثورة، إلى مستشفى الكويت بصنعاء. كان ينتابنا قلق شديد عليه بعد أن تدهورت حالته الصحية، وتناقشنا حول إمكانية إطلاق حملة مناصرة له للضغط على "حكومة الوفاق" حينها، من أجل نقله للعلاج خارج اليمن، بينما كان هو قلقًا على مصيرنا، ويريد منا التركيز على مواصلة الفعل الثوري والدفاع عن الثورة التي كان من الواضح بالنسبة له أنها تواجه "مخاطر الانقلاب عليها".
قبل أن أتواصل معه بعد انقطاع لسنوات، بدأت بجمع معلومات عن وضعه من أقاربه الذين أعرفهم. ورغم الصورة الجيدة التي نقلوها عنه، إلا أني كنت أتوقع أن أجد شخصًا محطمًا ويائسًا وكافرًا بكل ما يمت للثورة بصلة. لقد وصل عدد غير قليل من شباب الثورة الأوائل لمرحلة اليأس، وتخلوا عن ذلك الحماس، لكن الأمر مختلف مع بسام الأكحلي. بمجرد أن التقى صوتانا عرفت بأن توقعي لم يكن صائبًا. وجدت أن إيمانه بالثورة كان ما يزال هو نفسه أو أزيد قليلًا.
خلال حديثنا، الذي استمر لأكثر من ساعة، اعترف بسام أن أهداف ثورة 11 فبراير، لم يتحقق شيء منها حتى الآن. "لهذا ما زلنا نحمل كل تلك الأهداف، وسنحملها حتى نصل بالثورة إلى مبتغاها". قال ذلك وهو يعدد ثورات اندلعت في بلدان عدة، وفي مراحل تاريخية مختلفة، ولم تحقق أهدافها إلا بعد سنوات، وعلى رأسها الثورة الفرنسية. تشعب حوارنا ليشمل مواضيع كثيرة، وخلال ذلك كان يردد: "الثورة لا تنجح في ليلة وضحاها".
بالعودة إلى المكالمة التي أجريتها معه عبر تطبيق "الأيمو"، يمكنني القول إنه كان منفعلًا وساخطًا. نعم، لقد كان كذلك بالفعل، ووجه سخطه بشكل مباشر نحو القوى السياسية التي تتصدر المشهد؛ قال: "المشكلة حاليًّا في القوى السياسية والأطراف التي تشكل ما يسمى بكتلة الشرعية، التي ليس لديها مشروع وطني حقيقي، وهي القوى التي كانت الناس تبني عليها نوعًا من الأمل قبل أن يتضح أنهم عبارة عن مجموعة من اللصوص وتجار حروب، وبسببهم توسعت الانقسامات لتشمل طول البلد وعرضه".
لا يثق بسام بجميع القوى التي تتصدر المشهد اليوم، ويرى بأن الثورة دخلت منحنى جديدًا منذ نهاية عام 2014. وهو يرى أيضًا أن انتقال اليمن من السلم إلى الحرب، كان بسبب "غياب المسؤولية الأخلاقية عند هذه القوى". ويتابع: "مأزقنا يتمثل في أن القوى التي تتصدر المشهد منذ توقيع المبادرة الخليجية، كانت مخلصة للقيم المشوهة التي زرعها نظام صالح، لذلك هي عاجزة وفاشلة لهذا الحد، وتمارس كل هذا الفساد والارتزاق بدون خجل". ويضيف: "لم يكن علينا أن نترك تلك القوى تتسلم زمام الأمور، فقد كانت الثورة ضد منظومة قيم وممارسات كرسها نظام صالح، وليست ضده شخصيًّا".
لم تتشكل قناعاته هذه، بسرعة؛ قال إنه كان يفقد ثقته بالقوى السياسية تدريجيًّا منذ توقيعها على المبادرة الخليجية حتى وصل لقناعة بأن "أكبر أكذوبة انطلت علينا كانت حينما صدقنا بأن هناك أحزابًا سياسية حقيقية في اليمن". ومع أنه استمر بتسميتها أحزابًا طوال حديثنا، إلا أنه لا يعتبرها "أكثر من تكتلات انتهازية كسيحة، لا تملك أية برامج أو رؤى".
ومع تعذر بناء أمل على كل القوى السياسية المتصدرة للمشهد، يرى الأكحلي بأن استعادة روح فبراير وتخلّق قوى جديدة من أوساط الشعب، سيمثل خطوة مهمة في طريق استعادة الدولة التي سيمثل استعادتها مرحلة أولى في طريق استعادة الثورة. والحل لاستعادة الدولة بالنسبة له، يكمن في عزل الرئيس هادي "كونه عاجزًا وفاشلًا"، وتشكيل مجلس رئاسي من الشمال والجنوب. وفي حين يعترف "بوجود النخب السياسية ومراكز القوى الانتهازية الموجودة في مراكز صنع القرار حاليًّا"، يراهن بسام على "تخلق قوى جديدة من أوساط الشعب، تكون قادرة على صياغة وثيقة اتفاق وعهد وطني لتشكيل مكون وطني لمقاومة تجريف الدولة".
عندما يتحدث عن المستقبل، لا يريد بسام أن يكون متشائمًا، لكنه لا يتفاءل بدرجة كبيرة. ذلك أن البلاد تعاني، ليس فقط من حالة الحرب، بل من صراع سياسي، وانقسامي افقي ورأسي (سياسي واجتماعي)، ويخشى أن تستمر حالة اللا حرب واللا سلم الراهنة، فترة أطول.
حاليًّا، يتلقى بسام العلاج في ألمانيا، التي وصل إليها في 2013، وتتكفل بنفقات علاجه الحكومة الألمانية، بعد أن تخلت عنه حكومة بلاده، وقطعت عنه منحته العلاجية بعد وصوله بشهرين. لم يكن أمامه غير تقديم طلب لجوء، فحصل على إقامة مؤقتة تُجدد سنويًّا، ويقول إنها ستنتهي بمجرد استتباب الوضع في اليمن.