استعد نشوان محمد، العامل في إحدى ورش النجارة في مدينة تعز، لمشاهدة نهائي بطولة غرب آسيا للناشئين، أخذ مصروفه اليومي بعد أن أكمل عمله خلال الفترة الصباحية، وعاد إلى سكنه ينتظر موعد مباراة المنتخب اليمني مع نظيره السعودي، وبكل توتر ظلّ يترقب ساعته بين حين وآخر، ينتظر موعد مباراة التتويج الثاني، كان أمله كبيرًا بالعودة بكأس البطولة مرة أخرى، بعد مشوار مميز رغم الإمكانيات الشحيحة التي ترافق الصغار.
ما إن دقت ساعة الصفر وبدأت جولة المباراة الأولى حتى أخذ الحماس نشوان ورفاقه في السكن، ووصل ذروته مع تسجيل الهدف اليمني في شباك المنتخب السعودي في الدقيقة الثامنة.
ليس نشوان وحده من تلبسه هذا الشعور واستعد لهذا اليوم، بل ملايين اليمنيين على امتداد خارطة الوطن اليمني، من أقصاه إلى أقصاه، رغم الحواجز المسلحة والترسانة العسكرية التي قسمت البلد إلى دويلات صغيرة وأرادت تمزيق النسيج الاجتماعي اليمني وتفريق قلوب ووحدة اليمنيين، لكن هذا اليوم جمعهم كالجسد الواحد.
بعد فوز المنتخب بالبطولة، عمت الفرحة أرجاء اليمن، شارك فيها الجميع بمختلف مشاربهم السياسية والمناطقية والطبقية، خرج الجميع إلى شوارع المدن مبتهجين ومحتفلين بهذا النصر، خرج الصغار قبل الكبار مردّدين هتافات حماسية، زغردت حناجر النساء وأشعلت الألعاب النارية والرصاص الحي سماوات المدن والقرى.
قدم صغيرة
فرقتهم الأجندة السياسية والمشاريع التفكيكية الصغيرة، وجمعتهم الرياضة ومنتخب الناشئين. وفور الخروج إلى الشوارع، كتب الصحفي والروائي ريان الشيباني، منشورًا على صفحته الشخصية على فيسبوك، قال فيه:
"لهم أكثر من سبع سنوات وهم يحاولون بالنار والحديد تقسيمنا إلى دول وشعوب وأقليات وجهات، وفجأة ظهرت قدم صغيرة نحيلة، أعادت دمجنا داخل البوتقة الوطنية، بركلة واحدة"، في دلالة واضحة على أنّ اليمنيين لا يمكن تقسيمهم أو تفرقة شملهم أو التأثير على وحدتهم الوطنية مهما كان الثمن.
من صنعاء إلى عدن ومن تعز إلى حضرموت إلى إب، شهدت كل تلك المدن وأريافها احتفالات واسعة شارك فيها المواطنون من مختلف شرائح المجتمع، حتى أطراف النزاع ذاتها -وهي المربوطة بمصالح وأجندة سياسية لا وطنية- تسابقت في تهنئة المنتخب الصغير، ووصل الحال إلى الهيئات الدولية العاملة في البلاد، إذ باركت الوحدة الوطنية التي جمعت قلوب اليمنيين، وقد عبّر عنها مبعوث الأمم المتحدة إلى اليمن هانس غروندبرغ، بقوله على حسابه في تويتر: "يسعدنا أن نرى الوحدة والفرح والاحتفالات في جميع أنحاء البلاد"، كتعبير واعتراف دولي بوحدة قلوب هذا الشعب العظيم.
قيم التعايش
باحثون وسياسيون يمنيون وإعلاميون أكّدوا على دور الرياضة وأقدام الصغار في لملمة النسيج الاجتماعي لليمنيين. الباحث عيبان السامعي قال في هذا السياق:
"كرة القدم تعدّ أكثر أنواع الألعاب الرياضية العالمية شعبيةً وحضورًا، إذ يتجاوز جمهورها المليار إنسان حول العالم. لا تعرف حدودًا جغرافيّةً أو هُويات دينية أو عِرقية أو قومية، بل هي أشبه بلغة عالمية توحّد البشر، وتلعب كرة القدم دورًا هامًّا في تكريس قيم التعايش وتجاوز الحدود الأيديولوجية والانتماءات السياسية والهُويات العصبوية، وتخلق فضاءً عامًّا ومشتركًا إنسانيًّا يجمع أفراد المجتمع بمختلف فئاتهم وطبقاتهم وانتماءاتهم، وتنشأ بينهم علاقات تفاعلية مباشرة وغير مباشرة، ويتكون لديهم شعور بوجود روابط مشتركة، وهُوية جمعية".
كرة القدم قد مثّلت ملاذًا لليمنيين، وصارت بمثابة وسيلة لمقاومة الحرب والتقسيمات التي أفرزتها، ومحاوَلة للتغلب على المعاناة التي خلقتها الحرب سعيًا إلى ترميم الهُوية الوطنية واستعادة التعايش والسلم الاجتماعي.
يضيف السامعي: "ما شاهدناه من مظاهر احتفالية وفرح عارم عمَّ شوارع اليمن من الجنوب إلى الشمال ومن الشرق إلى الغرب، بمناسبة فوز منتخب الناشئين وتتويجه بكأس بطولة غرب آسيا، لهُوَ دليلٌ ساطع على ما نقول، هذه المشاهد الاحتفالية ليست الأولى من نوعها؛ فقد شهدت شوارع المدن اليمنية في 2021، ذات المظاهر الاحتفالية بمناسبة حصول المنتخب اليمني للناشئين على كأس بطولة غرب آسيا، لقد شاهدنا كيف خرجت الجماهير اليمنية في شوارع عدن وصنعاء وتعز والحديدة وغيرها من المدن، تبتهج وتهتف: "بالروح بالدم نفديك يا يمن". وهي مظاهر احتفالية أعادت توحيد اليمنيين بعد 8 سنوات من الحرب التي مزقت اللحمة الوطنية ودمرت النسيج الاجتماعي".
وأوضح السامعي أنّ "فوز منتخب الناشئين بكأس بطولة آسيا قد أشعل جذوة الأمل في نفوس اليمنيين وأعاد إليهم الثقة بأنفسهم وبالهوية اليمنية وبالمصير الوطني المشترك. إذن، يمكن القول إنّ كرة القدم قد مثّلت ملاذًا لليمنيين، وصارت بمثابة وسيلة لمقاومة الحرب والتقسيمات التي أفرزتها، ومحاوَلة للتغلب على المعاناة التي خلقتها الحرب سعيًا إلى ترميم الهوية الوطنية واستعادة التعايش والسلم الاجتماعي".
خارج حسابات الساسة
من جهته، قال الصحفي توفيق الشنواح:
"أثبتت الصور والمقاطع المتداولة من كافة المحافظات اليمنية بأنّ الشعب اليمني خارج حسابات الساسة، وكما هو بالمقابل فالساسة لا ينشغلون بحاجات الشعب، يدعون إلى الوصاية باسم هذا الشعب سواء في الشمال أو في الجنوب، وأثبتت هذه المشاهد بأن الشعب اليمني يبحث عن فرص وإن كانت بسيطة ولو من باب الرياضة أو الفنون أو غيرها للفرح والتعبير عن وجودهم وذاتهم كشعب عريق وغني بتراثه الإنساني وفلكلوره الشعبي وغيره من الفنون التي كانوا هم روّادها على مستوى العالم، ولهذا رأينا هذا التلاحم، وهذه الجماهير التي خرجت وتصرخ بشعار واحد وهو "بالروح بالدم نفديك يا يمن" كشعار جمعي متخفف من كل الشعارات الأخرى التي يرددوها هنا وهناك، وبتلك الطائفية والعصبية التي ملأت بها الميليشيات عقول النشء والصغار، شعارات طائفية إرهابية مريعة تؤسس لجيل مفخخ للأسف الشديد. كان هذا الشعار العفوي والجامع يعبر تعبيرًا واضحًا وجليًّا عن أن الشعب اليمني يرفض كل الشعارات الأخرى ذات المحدّدات الطائفية ويرفض خيارات الساسة وادعاءهم الوصاية".
أما مراد بليم، عضو اللجنة المركزية للحزب الاشتراكي، فيرى أنّ الاحتفالات بفوز منتخب الناشئين في كل اليمن، من أقصاه إلى أقصاه في زمن قلت به الأفراح، لهو مؤشر على أن الكرة المنتصرة قادرة على ترميم النسيج الذي دمّرته الحرب وقبلها أفعال المتسلطين خلال عقود من الزمن؛ ولذلك لا بد من دعم الرياضة بكل الأشكال؛ لأنها شكّلت بقعة ضوء في دجى ليل البلد المظلم الذي لم يعرف مثل هذه الأهازيج والأفراح منذ سنوات.
هناك من يقلل من أهمية هذه المشاعر التي غمرت كل أبناء البلد الواقعين تحت حكم السلطات المختلفة شمالًا وجنوبًا، ويرى أنها عاطفة عابرة وستزول بزوال المؤثر، لكن الأهم في الأمر أنّه ما يزال هناك شيء يوحد قلوب اليمنيين.
ترميم النسيج
أحمد عبدالرحمن عقلان، يتحدث عن الفرحة اليمنية في كل البلاد، بالقول: "بكل تأكيد أن الرياضة هي العامل المشترك الوحيد الذي ما زال يوحد الجميع، فالانتصارات التي يحقّقها منتخبنا الوطني تثلج صدور اليمنيين وترمم نسيجه الاجتماعي الذي مزّقته آلات الحرب والدمار، وأصبح الكل، شمالًا وجنوبًا وشرقًا وغربًا، يعيش فرحة غامرة ويتغنى بهذه الانتصارات الكروية التي ما زالت تجمع أواصر اليمنيين وتلملم جراحاتهم، وتسقط كل مشاريع التفكيك ليبقى الكل تحت راية اليمن الموحد".
فيما تقول الإعلامية والصحفية هويدا الفضلي: "مهما فرقتنا الأوضاع السياسية، تظل الرياضة وسيلة للتوحيد وإنقاذ ما تبقى مما هو جميل، حيث إنها دائمًا تجمع ولا تفرق".
رغم البهجة والسرور التي عمت مختلف أنحاء البلاد، مُدنها وقُراها، ووحّدت الشعب وأعادت الأمل بعض الشيء بوحدة قلوب اليمنيين الذي فرقتها الأجندة غير الوطنية، فإن هناك من يقلل من أهمية هذه المشاعر التي غمرت كل أبناء البلد الواقعين تحت حكم السلطات المختلفة شمالًا وجنوبًا، ويرى أنها عاطفة عابرة وستزول بزوال المؤثر، لكن الأهم في الأمر أنّه ما يزال هناك شيء يوحد قلوب اليمنيين ويجمع شملهم بعد أن فرقت بينهم السياسة والحرب.