الاحتقانات الشديدة التي شهدتها البلدان العربية، وعلى وجه الخصوص ذات طبيعة الأنظمة الجمهورية، بفعل استشراء الفساد في بناها العامة، واحتكار السلطة والثروة فيها من قبل العائلات الرئاسية والمحاسيب، قادت إلى الانفجار الكبير في أواخر العام 2010، ابتداء من جمهورية تونس، حين أضاء جسد محمد البوعزيزي الدروبَ المعتمة للثورة.
ولم يكن لهذه الشرارة أن تمتد لتحرق سهل القشّ الكثيف في المحيط، لولا وصولها إلى جمهورية مصر العربية في 25 يناير 2011، ممهِّدة بذلك الطريق إلى اليمن وسوريا وليبيا.
في اليمن، كان نظام صالح بتحالفاته التاريخية قد بدأ بالتصدُّع ابتداء من سبتمبر 2006 حين خاض رأس النظام الانتخابات الرئاسية أعزلَ إلّا مِن تهديداته بإشعال الحريق الأكبر في اليمن ومحيطه إن لم يفز فيها، فتم تفويزه بمسرحية، لم يعترف بها منافسه فيصل بن شملان حتى وفاته. بعدها بدأ الحديث عن التوريث واستدامة الحكم في بيت الرئيس، وهو أمر لم يرغب به حلفاؤه القبَليين والدينيّين، الذين شعروا أنّهم خارج اللعبة، فبدَؤُوا بتنظيم معسكرهم، وبالتنسيج السياسي مع أحزاب المعارضة، التي كانت حتى وقت قريب على غير توافق معها.
سالت مياه كثيرة في سنوات التوتر الأربع التالية، ومنها نشوء تيار الحراك الجنوبي الذي بدأ برفع سقف مطالبه باستعادة دولة الجنوب، بعد أن كان يطالب بإصلاح مسار الوحدة فقط، وأعقب ذلك وفاة الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر ناظم العلاقة التاريخية بين صالح وحلفائه، وصولًا إلى دخول لاعبين إقليميّين ودوليين على خط التوتر لانتزاع مكاسب مختلفة في بلد هش ينهشه الفساد وتعبث به الفوضى.
الوعود بإصلاحات سياسية واقتصادية لم تعُد تعطي مفعول المسكّن الطويل الذي استخدمه النظام طويلًا، فبدأت الاحتقانات تكبر، والتنفيس الذي يتسرّب هنا وهناك بالمظاهرات والاحتجاجات في مدن ومناطق الجنوب لم يعد مسيطرًا عليه، والاعتصامات والمسيرات الطلابية الصغيرة في صنعاء وتعز صارت كرة ثلج تكبر يومًا بعد آخر، تجمّعت في الساحات والميادين مع أول خيمة تنصب في أمام بوابة الجامعة في 11 فبراير 2011.
الأرض التي اهتزت تحت كراسي حكّام الجمهوريات بفعل الاحتجاجات العفوية في بداية الأمر، شجّعت شرائح كثيرة من المجتمع إلى النزول إلى الشارع باحتجاجات سلمية منظمة شديدة الإبهار، وحين ارتكبت الأجهزة حماقتها في 18 مارس (جمعة الكرامة) بقتل المتظاهرين في صنعاء، اختلّ ميزان العلاقة الحَذِر بين حلفاء الأمس الذين كانوا يؤمّلون في بقاء مساحة التجاذب آمنة دون انفجار.
تكتيك القوى الدينية وحلفائها القبَليّين والمنشقّين السياسيين عن نظام صالح، كان يرمي إلى إسقاط رأس النظام وبقاء بنيته القائمة عليهم أصلًا، فعملوا على احتواءٍ قويّ للثورة وتوظيف خطابها لصالح مشروع سياسي لم يعد الداخل اليمني هو المنتج والموجّه فيه.
بعد عشرة أشهر كاملة من تعطيل الحياة، تخلّلتها محاولة اختصار الطريق بالتخلص من رأس النظام في يونيو 2011 بتفجير مسجد الرئاسة، ذهبوا للتوقيع على مبادرة سعودية بغطاء إقليمي ودولي تعيد تقسيم السلطة والموارد من جديد بين حلفائها القريبين (القوى الدينية والقبلية والعسكر الموالين)، مع إعطاء بعض الفتات للحلفاء السياسيين من أحزاب المعارضة، انتقل بموجبها رأس النظام من دار الرئاسة إلى (دار الثَّنِيّة) بكل أجهزتها، فصارت الشرعية الدستورية للرئيس التوافقي عبد ربه منصور هادي، الذي انتُخب في فبراير 2012 في المكان الأضعف، وقوة الغلبة والسيطرة في مكان آخر قوي.
عوّل اليمنيّون على مخرجات مؤتمر الحوار الوطني كنتاج لثورة الشباب السلمية، لكن قبل أن يجف حبر التوقيع عليها، كان هناك بندق ينتصب تحت لافتات شتى، كانت مخططات وضغائن الثورة المضادّة فيها هي المغذِّي الحقيقيّ للأزمة التي صارت حربًا منذ ثماني سنوات، أكلت أخضر ويابس اليمنيين، وفي مقدّمتها الأحلام النبيلة. حرب ذهبت بمعظم أحلام التغيير وثورة الشباب السلمية أدراج رياح السموم الصفراء، وحجبت المتبقي منها غمامةُ البارود الكثيفة، في بلد على حافة التفكك، تديره ميليشيات بلبوس شتى تتكسّب من دم أبنائه وجوعهم.