داخل خيمة مهترئة تفتقر إلى أدنى مقومات الحياة الأساسية، تعيش الأربعينية نبيلة فؤاد، من فئة (المهمشين) هي وثلاثة من أطفالها على أطراف منطقة (كُريزة)، في مديرية قعطبة، التابعة لمحافظة الضالع (جنوب اليمن)، بعد أن تقطّعت بها السبل وهي تصارع ثقافة المجتمع الدونية تجاه الأشخاص ذوي البشرة السمراء، ليستقر بها الحال منذ سنوات في هذه المنطقة، إذ يواجهون ظروف الطبيعة القاسية وموجة الصقيع القارسة هذا العام.
تقول فؤاد في حديث لـ"خيوط": "بات المهمشون في محافظة الضالع بين مطرقة العنصرية المقيتة وكماشة الفقر والجوع الذي يعم البلاد من شرقها لغربها، يعيش هؤلاء حالة من العوز والحاجة التي جعلتهم يكافحون لكسب لقمة العيش وسط حرب دائرة منذ تسع سنوات".
ومع دخول فصل الشتاء صارت معاناتهم مضاعفة، وأشد ضراوة، خاصة على الأطفال الذين لا يجدون ما يحمي أجسادهم من موجة البرد التي تتسلل حتى عظامهم، في ظلّ تجاهل حكومي ومجتمعي قاتل.
حلم بسيط
لا تختلف معاناة كوثر محمد، إحدى المهمشات المقيمات في المخيم، عن معاناة نبيلة، حيث تروي لـ"خيوط" قصتها المأساوية مع برد الشتاء وسلوك المجتمع تجاههم، قائلة: "للشتاء آثار مدمرة علينا، لذلك تجدنا في حالة يرثى لها، نتجول بين منازل (القبائل) -حسب توصيفها- بحثًا عن بقايا فرش أو أغطية، نمني أنفسنا أن نعود ظافرين بها حال العودة للمخيم، وحين لا نحصل عليها نتجه صوب مكب النفايات ومقالب رمي المخلفات، طمعًا في الحصول على أي غطاء يحمي أجسادنا من صقيع الشتاء القارس".
نزحت كوثر وأسرتها من سكن متهالك في منطقة جبارة شرقًا إلى منطقة كُريزة، بعد أن أقدمت قوات الحزام الأمني التابعة للمجلس الانتقالي جنوب اليمن، بإحراق مخيمات المهمشين وطردهم من المنطقة سنة 2021، ليقف بها الحال في هذا الوضع القاهر والصعب الذي عبرت عنه بدموع القهر والخذلان
معاناة متمددة
تكرست الطبقية في أوساط المجتمع اليمني منذ زمن، وساهم الحكم السلالي شمالًا، والاستعمار البريطاني جنوبًا في تعميقه وترسيخه كثقافة عامة لخلق حالة من التفاضل والتمايز الفئوي والمناطقي، ولعل أبرز الفئات المتضررة من هذا التكريس هم اليمنيون ذوو البشرة السمراء الذين يشكون الإقصاء والتهميش والعنصرية، علاوة على تداعيات الحرب التي تسبّبت بالإجهاز تمامًا على هذه الفئة، وجعلت آلاف الأسر تسكن في مخيمات غير صالحة حتى للحيوانات في منطقة سهدة وكُريزة الضالعيّتين إذ لا غذاء ودواء ولا رعاية صحية ولا وسائل تدفئة، ومخيمات مهترئة لا تقي البرد ولا تصدّ الشمس.
الجدير بالذكر أن أعداد المهمشين في منطقتي سهدة وكُريزة في مديرية قعطبة التابعة لمحافظة الضالع، بلغت قرابة 8027 أسرة موزعة على نحو 265 خيمة فقط. ووفقًا لمندوب المهمشين في الضالع، محمد هادي، فإن "اكتظاظ الأسر في المخيمات يشكّل عبئًا كبيرًا، خاصة مع انعدام شبه كلي للمساعدات الإنسانية التي تمكنا من بناء مخيمات إضافية لهذه الأعداد المتزايدة".
وأضاف هادي في حديث لـ"خيوط": "تفتقر الأُسَر المهمشة في منطقة سهدة في محافظة الضالع إلى أبسط مقومات الحياة، ومتطلبات الشتاء الأساسية والمساعدات الإغاثية التي لا تمر عليهم إطلاقًا؛ لكونهم "أخدامًا" -حد التوصيف الاجتماعي السائد- ما جعل هذه الأسر تعيش في ضيقةٍ مستمرة كان للنظرة الاجتماعية وللحرب وللوضع الاقتصادي الصعب في البلاد وللحصار المفروض على خط الفاخر في الضالع، اليد الطولى في تفاقم مأساتهم.
يمر المهمشون في الضالع بوضع إنساني صعب وقاسٍ للغاية، فهناك مئات الأسر المهمشة بدون غذاء، فضلًا عن غياب الخدمات الأساسية، إضافة إلى الإهمال المتعمد لهذه الفئة من قبل الوحدة التنفيذية، التي تركز جهودها على الأسر النازحة دون الأسر المهمشة.
استثناء غير مبرر
وتابع هادي حديثه عن آليات توزيع المساعدات التي تقوم بها الوحدة التنفيذية لمخيمات النازحين والمنظمات الإنسانية المعنية، بالقول: "يمر المهمشون في الضالع بوضع إنساني صعب وقاسٍ للغاية، فهناك مئات الأسر المهمشة بدون غذاء، فضلًا عن غياب الخدمات الأساسية، إضافة إلى الإهمال المتعمد لهذه الفئة من قبل الوحدة التنفيذية، التي تركز جهودها على الأسر النازحة دون الأسر المهمشة".
مضيفًا: "هذا الاستثناء التمييزي سواء من تقديم المساعدات الإغاثية أو التجاهل المستمر من قبل المنظمات الإغاثية، التي استبعدت مئات الأسر من فئة المهمشين، من قوائم المستهدفين من مشروع برنامج الأغذية العالمي، وهو مشروع عملاق، كنّا نأمل أن يتم استيعاب كافة الأسر المهمشة ضمنه، لكن ما حصل أن الشريك المنفِّذ لهذا المشروع، المتمثل بـ: جمعية التكافل الإنساني- تلاعب بعملية استيعاب المهمشين في الضالع، ورغم توجيهات الجهات المعنية، فإنه إلى الآن لم نجد جدية لاستيعابهم، بناء على توجيهات السلطة المحلية بالمحافظة".
في حين ترى الفئة المهمشة هذا الاستثناء عنصريًّا وغير إنساني، وينال من إنسانيتهم تقول نبيلة: "نحن بشر؛ لماذا يتم توزيع المساعدات الإنسانية المقدمة من المنظمات على المواطنين ذوي البشرة البيضاء فقط؟ لماذا لا ينظرون إلينا ونحن نُكابد الشقاء والجوع أمام أعينهم؟".
لجوء اضطراري
تلجأ بعض الأسر المهمشة لتوفير لقمة العيش والحد من العوز الذي بات يفترس هذه الفئة أينما ولّت وجهتها إلى العمل في مهن شاقة ومرهقة، وبعض الأحيان خطيرة، وبعضها لا إنسانية مثل التسول.
شفيقة طاهر، إحدى النسوة المهمشات، تعمل في رعي الأغنام، تروي قصتها قائلة: "اتفقت مع أحد المواطنين على رعي الأغنام مقابل 25 ألف ريال يمني بالشهر مع وجبة الغداء، أو 30 ألف ريال يمني بدون أي وجبة، فاخترت الثلاثين الألف طمعًا بسد الاحتياجات الضرورية، وهو مبلغ غير منصف كوني أقوم برعي الأغنام من الساعة الثامنة صباحًا حتى الساعة الخامسة مساء، لكن الحاجة جعلتني أوافق وأتحمل حرارة الشمس والرياح والجوع والعطش طوال اليوم، نظير هذا المبلغ الزهيد".
تسرد شفيقة بعض المصاعب التي قد لا يتركها الأغلبية، في حديثها لـ"خيوط"، بالقول: "في أحد الأيام فقدت ماعزًا من بين الأغنام في قمة جبل شاهق، لا أعلم إلى أين اتجهت تلك الغنمة، حينها شعرت بخوف شديد وقمت بالبحث عنها في كل التباب والجبال والوديان، ولكن بدون فائدة، وعندما أخبرت صاحب الأغنام بفقدانها، صرخ بأعلى صوته في وجهي متلفظًا بألفاظ نابية، شتم وقذف أمام الأهالي وسكان المنطقة وأمام أولادي، ثم خصم قيمتها مرتب شهر كامل بعد تدخل أحد المواطنين، وبعد أن سددت قيمتها خلال شهر تركت رعي الأغنام".
تضيف شفيقة والدمع يتساقط من عينيها: "بعد أن شحّت فرص العمل، أمشي كل يوم عند الساعة السابعة مساءً إلى مركز تجمع النفايات القريبة من منطقة كُريزة، وأبدأ بنبشها والتقاط ما يصلح للأكل أو البيع من قوارير البلاستيك أو حطب للتدفئة، بدلًا من التسول والإهانة داخل الأسواق".
معاناة المهمشين في الضالع، ليست استثناء عن معاناة رفاقهم في مناطق ومحافظات أخرى، لكنها أشدّ وطأة بالنظر إلى تظافر كل مسببات التهميش، ابتداء بالنظرة الاجتماعية العنصرية، مرورًا بالحرب وتداعياتها، وليس انتهاء بحسابات الجغرافيا والسياسة.