تحقيق: منيرة أحمد الطيار
من الأهمية بمكان، أن تتجه اليمن نحو الصناعة الوطنية، وتمضي قُدمًا نحو افتتاح مصانع تحول بينها وبين الاستيراد؛ للإسهام في خلق فرص عمل جديدة، وتعزيز النمو الاقتصادي المحلي، إلا أنّ ذلك الحلم ما لبث أن تحول اليوم من بارق أمل للاقتصاد اليمني إلى نكسة كبرى؛ بسبب تصاعد أدخنة مسمومة لمصانع تقبع وسط التجمعات السكانية، مخلِّفةً لهم أمراضًا وتحسسات تصل بهم إلى الموت.
أسرة قاسم محمد (55 عامًا)، من سكان صنعاء، نموذجٌ للكثير من ضحايا هذه المشكلة البيئية الكبيرة، إذ يعانون من الأمراض؛ بسبب مصانع البلاستيك والمشمعات التي بجوارهم والتي تنبعث منها رائحة كريهة لا أحد يحتملها وتتسبب في انتشار أمراض الصدر والسرطان، فحفيده البالغ من العمر ستة أعوام، بات يعاني من تحسس حادّ في الصدر أدّى به إلى إصابته بالربو، الذي جعله عاجزًا عن التنفس بشكل طبيعي.
يتحدث قاسم، لـ"خيوط": "عندما ذهبنا بحفيدي إلى طبيب متخصص، قال إنّ السبب الرئيس لإصابته، هو تعرضه لروائح غازية أثّرت على جهازه التنفسي، وعليه أن يبتعد عن تلك الروائح، وإلا تطورت حالته بشكل خطير، قد تصل إلى إصابته بمرض السرطان".
بحسب تقرير صادر عن وزارة الصحة والسكان للعام 2020، اطلعت "خيوط" على نسخة منه، فإنّ إجمالي عدد المصابين بالأمراض التنفسية بصنعاء، ارتفع إلى (767866) مصابًا، مقارنة بالعام 2018، حيث بلغ عدد المصابين نحو (218912).
غازات سامة وخوف من الشكوى
هناك غازات عدة تتصاعد من المصانع؛ كثاني أكسيد الكربون CO2 بنسبة 80%، وغاز أول أكسيد الكربون 10%، وغاز كبريتيد الهيدروجين H2S 8%، وغازات أخرى لها تأثير غير مباشر بفترات زمنية، حيث تتكوّن باتحادها مع بخار الماء بالمطر الحمضي التي لها تأثير على التربة، كما يوضح المهندس فتحي الصعو، مدير دائرة البيئة بمحافظة لحج، في تصريح لـ"خيوط".
هناك من يرى أنّ المشكلة في وجود المصانع، تكمن فيما يحصل بعد ذلك من بيع للأراضي بالقرب من تلك المصانع، ويتم البناء وسط تجاهلٍ من الجهات الرسمية في حماية حق الطرفين، سواء ملّاك المصانع أو المواطنين؛ نتيجة لانعدام التخطيط العمراني للمناطق والأراضي.
في حين يشرح الدكتور حمدي التركي، اختصاصي صدر وجهاز تنفسي، لـ"خيوط"، أنّ أمراضًا كثيرة تصيب الجهاز التنفسي جراء تنفس الأدخنة المتصاعدة من المصانع، وتتسبّب في مضاعفة حالات الربو وأمراض الانسداد الرئوي والمزمن وحدوث انتكاسة، إضافة إلى الأضرار التي تُصيب الجهاز التنفسي على المدى البعيد، كالتليف الرئوي، وسرطان الرئة.
ويعمل في صنعاء وحدها، أكثر من 30 مصنعًا، تتوزع هذه المصانع بين معامل صناعة، وتكسير الأحجار، وإنتاج البُلك (نوع من الأحجار المُعَدّة بالأسمنت)، ومصانع بلاستيك، إضافة إلى مصانع أغذية خفيفة وبطاطس، وسط تجمعات سكانية كثيفة.
في السياق، تلخص المواطِنة أم طارق -اسم مستعار- معاناتهم من هذا الوضع، وسبب صدمتهم وعدم تقدُّمهم بشكوى للجهات المعنية، لـ"خيوط"، بالقول: "الأمر الذي جعلنا نصمت ونتحمل بكل صبر حتى مع إصابتي بالتهاب في الرئة؛ نتيجة وجود منزلي بالقرب من مصنع الأغذية الخفيفة، وتفاقم معاناتي في فصل الصيف، حين أقوم بفتح النوافذ للحصول على هواء بارد، فيصبح البيت كله معبَّأً بروائح الزيوت المحترقة التي تكاد تجعلني أختنق- هو الخوف من فقدان مصدر رزقنا الوحيد".
تضيف: "ابني يعمل داخل المصنع المجاور لنا، ويصرف علينا بعد أن أُصيب والده بالشلل، ونخاف إن اشتكينا أن نخسر قوت يومنا في حال تقدّمنا بشكوى".
مناطق سكنية وسط الأدخنة
يشير الناشط والصحفي البيئي، بسام القاضي، لـ"خيوط"، إلى نقطة مهمة في هذا السياق، تتمثّل في وجود المنشآت الصناعية وسط التجمعات السكنية، إذ تُسبِّب أضرارًا متعددة على البيئة؛ نتيجة ارتفاع وضخامة كميات ونوعيات الملوِّثات الناتجة عنها؛ كمصانع البلاستيك، والأغذية الخفيفة، وإن بدَت أقلّ ضررًا من مصانع الأسمنت والمواد الكيميائية، من حيث تلويث الهواء بالأدخنة والغازات التي تُخلِّفها تلك المصانع، وتؤثِّر بشكل كبير على البيئة من حيث الانحباس الحراري وارتفاع درجة الحرارة والأمطار الحمضية السامّة والخطيرة على صحة الإنسان والكائنات الحيّة الأُخرى.
هناك قوانين تنص على تخصيص مناطق جغرافية للمنشآت الصناعية، إلّا أنّ سماسرة العقارات وملّاك الأراضي يغضّون الطرف عن تلك القوانين، ويمضون في بيع الأراضي سعيًا لتحقيق أرباح مالية، غير آبهين بالأضرار المترتبة على المواطنين من ذلك.
أحد عقّال الحارات الشعبية بصنعاء -فضّل عدم ذكر اسمه- يوضح لـ"خيوط"، بالقول: "إنّ المواطنين يجازفون بشراء أراضٍ جوار مصانع من دون التفكير في العواقب والأضرار التي يمكن أن تصيبهم جراء تلك الخطوة"، لافتًا إلى مصنع الأغذية الخفيفة الموجود بحارته، الذي بُني قبل ثماني سنوات، وكانت المنطقة آنذاك شبه خالية من التجمعات السكانية، إلا أنّها اليوم أصبحت مليئة بالبيوت.
تفاوت في تقييم حجم المشكلة
يعتقد ملّاك مصانع بلاستيك أن لا علاقة لهم بموضوع وجود المصانع وسط التجمعات السكانية؛ كما يشرح ذلك لـ"خيوط"، عادل أحمد، مالك مصنع بلاستيك ومشمعات بصنعاء، حيث يقول: "ليست المشكلة مشكلتنا في الأساس، فعندما اخترت مكان مصنعي كان شبه خالٍ من السكان، ولكن بعد إنشاء المصنع بسنتين امتلأت المنطقة بالمساكن والمنازل"، إذ أصبح من الصعوبة -وفق حديثه- نقل المصنع بعد أن حصل على ترخيص وقام بجميع الإجراءات المتبعة للبناء.
يأتي ذلك بالرغم من قناعته من أنّ وجود المصانع في التجمعات السكانية مُضِرّ بالصحة والبيئة، لكن على الدولة تخصيص مناطق جغرافية للمنشآت الصناعية، وفرض غرامات وعقوبات على من يخالف ذلك؛ حتى لا يحصل أيّ ضرر للجميع.
يتفق المهندس كهلان الشجاع، المختص بالهندسة العمرانية، في حديثه لـ"خيوط"، مع ما طرحه عادل؛ في أنّ المشكلة تكمن في التوسع العمراني الكبير مع وجود مسبَق لمصانع في منطقةٍ مصنّفة أنّها بعيدة عن السكان، وما يحصل بعد ذلك من بيعٍ للأراضي بالقرب من تلك المصانع، ويتم البناء وسط تجاهل الجهات الرسمية حمايةَ حقّ الطرفين، سواء ملاك المصانع أو المواطنين؛ نتيجةً لانعدام التخطيط العمراني للمناطق والأراضي.
كما أنّ هناك قوانين تنصّ على أهمية تحديد مناطق مناسبة لإقامة مثل هذه المنشآت وإلزامها بأخذ الاحتياطات اللازمة للحفاظ على الأمن والسلامة البيئية، كقانون تنظيم الصناعة، الذي ينصّ في مادته (12) على تخصص هيئة الأراضي والمساحة والتخطيط العمراني والسلطة المحلية بمواقع الأراضي المقترحة مناطقَ صناعية، وفقًا لقانون الأراضي بالتنسيق مع الوزارة.
القوانين وحماية المدن
وحدّد القانون اليمني رقم (19) لسنة 2002، بشأن البناء في المادة رقم (23)، أنّه لا يجوز إصدار تراخيص لبناء مصانع أو ورش أو معامل أو كسارات أو مناشير حجار أو أيّ منشأة أخرى مُضِرّة بالصحة العامة أو مُقلقة لراحة السكان في المناطق السكنية، والسكنية التجارية، مشرِّعًا عقوبة من يخالف ذلك، بغرامة لا تزيد على 10% من قيمة الأعمال المخالِفة.
ومع تلك القوانين التي تبدو كأنّها مُنصِفة ومشجِّعة لأصحاب المصانع في المضيّ قُدمًا نحو الاستثمار والبناء وبين حماية حق الإنسان والبيئة من أيّ أضرار، يبقى السؤال حاضرًا: كيف ستُطبِّق الجهات المعنية تلك القوانين وتحمي المدن من الموت القادم؟