يلجأُ الكثير من سكان المناطق الريفية إلى العمل في صناعة الفحم بوصفها مهنة رئيسة لهم، على الرغم من مشقَّة العمل الذي يحتاج إلى وقت وجهد طويلين لإنتاج كميات لا بأس بها من الفحم. وتُعد صناعة الفحم واحدة من المهن الشعبية الرائجة في أرياف المحافظات اليمنية، لما للفحم من أهمية بالنسبة للمواطنين في الأرياف والمدن على حد سواء .
في محافظة أبين (جنوب اليمن) يتخذ عدد كبير من سكَان المناطق الريفية -خاصة مديريتي خنفر وزنجبار- من صناعة الفحم مهنة أساسية لهم. فهي تغطي جزءا لا بأس به من احتياجات الأسر المعتمدة عليها بدرجة أساسية، قبل تدهور الوضع الاقتصادي في السنوات الماضية نتيجة الحرب.
ويلقى الفحم رواجًا في الأسواق المحلية، لكونه يُستعمل في أغراض عديدة، كتشغيل الأفران التقليدية التي تعمل أساسًا بواسطته وتتطلب عادة كميات كبيرة منه، والطهي و الشِّواء في المطاعم. ويُستخدم بديلا للغاز المنزلي حال انعدامه، كما يستخدم في إعداد "المَداعَة" وإحراق البخور.
يرى خبراء وباحثون زراعيون أن ذلك يُعد أحد أسباب توسع الاحتطاب الجائر الذي يتسبب بالقطع العشوائي للأشجار وبطرق مفرطة، ويلحق أضرارًا بالغة بالطبيعة ويهدد الغطاء النباتي، الأمر الذي يتطلب النظر إلى مثل هذه القضية بشكل جدي من قبل الجهات المختصة، وإيجاد الحلول المناسبة لها، إذ تمثل عملية الحصول على الأخشاب الجيدة وتجميعها أولى المراحل التي من خلالها يبدأ العاملون في صناعة الفحم عملهم اليومي، قبل الانتقال الى المكان المحدد لتحويلها إلى فحمٍ يُمكن الاستفادة منه، وبيعه في أسواق المدن الرئيسة، وتعرف هذه الأماكن بلهجة المحافظة الشعبية "بالمدامن"، ويواجه العاملون فيها مشقة كبيرة وجهدا مضاعفا. فالوصول إلى مرحلة الإنتاج الأخيرة تسبقها الكثير من الخطوات التي تكون غالبا محاطة بالكثير من المخاطر، خصوصا أن "المدامن" المخصصة لإنتاج الفحم تكون عبارة عن حفر يتم تجهيزها لاستيعاب كميات كبيرة من الأخشاب قبل تعريضها للنيران، و دفنها لمدة يومين تقريبًا، لضمان جودة الفحم وسهولة تسويقه.
في الجانب الآخر من معاناة العاملين بمهنة الفحم يرى باحثون ومهندسون زراعيون في محافظة أبين أن عملية قطع الأشجار بطريقة عشوائية لاستخدام الحطب في صناعة الفحم أمر مقلق للغاية، يهدد بالقضاء على الغطاء النباتي، على الرغم من إدراكهم لحاجة الريفين لمثل هذه الأعمال التي أصبحت بالنسبة لهم ملجأ للتخفيف من وطأة الحرب وتداعياتها
ويشكو صناع الفحم النباتي من تدني مستوى دخلهم الذي لا يوازي إطلاقًا المشقة التي يعانونها في مراحل إنتاج الفحم. ذلك أنه غالبًا ما تكون حصيلة المراحل التي تتطلبها صناعة الفحم - والتي تستغرق أسبوعًا كاملًا - لا تزيد عن حِملين (ما يعادلُ 8 أكياس)، يباع الحمل الواحد في أسواق محافظتي أبين و عدن بـ 8 آلآف في الحد الأقصى(أي ما يعادل خمسة دولارات)، ما يجعل الفحَّامين مضطرين لتكثيف جهودهم، والعمل طوال اليوم لتحسين دخلهم، والإيفاء بمتطلبات أسرهم .
في السِّياق ذاته يؤكِّد أمين ناصر لـ "خيوط"، وهو أحد العاملين في هذه المهنة منذ سنوات طويلة، أن العائد المادي الذي يحصل عليه نتيجة جهد أسبوع كامل لا يغطي مصاريف بضعة أيام، وأنه يجد نفسه عاجزا عن توفير الحد الأدنى من متطلبات أسرته الضرورية جدا، في ظلِّ التدهور المستمر للعملة المحلية وارتفاع أسعار المواد الغذائية. كما يُشير أمين إلى استغلال التجار للفحّامين، إذ إنهم يجنون أرباحا تفوق الثمن الذي يتحصل عليه الفحام بمعدل ثلاثة أضعاف تقريبا.
مهنة شعبية
في وقت سابق كان الفحامون في محافظة أبين يقومون بتصدير مادة الفحم إلى المحافظات المجاورة. فأسواق محافظة عدن (جنوب البلاد) على وجه الخصوص تُعد سوقا مناسبة لها، نظرا لزيادة الطلب عليه في الأفران والمطاعم. إلا أنه مؤخرًا تدنى مُعدل الطلب عليه، نتيجة انتشار الأفران الآلية، وتراجع القدرة الشرائية للنسبة الأكبر من المواطنين، الأمر الذي أثر على مختلف جوانب الحياة .
وعلى الرغم من أن مهنة صناعة الفحم تعد واحدة من المهن الشعبية المرتبطة بتاريخ المحافظة، فإنها حتى وقت قريب كانت محصورة على فئة المعدمين. لكنها مؤخرا تحولت إلى مهنة رائجة للكثير من المواطنين المتأثرين بتداعيات الحرب والصراع في اليمن، وبات الكثيرون مجبرين على امتهانها باعتبارها آخر الفرص المتاحة لديهم للخروج من دوامة الحاجة التي تسببت في عجزهم عن تأمين احتياجات أسرهم الضرورية، في ظل الانهيار المتواصل للوضع الاقتصادي، وانعدام فرص العمل.
يُشير وضّاح محمد(متعاقد في إحدى المؤسسات الحكومية، وأب لأربعة أطفال) إلى لجوئه للعمل في صناعة الفحم، بعد عجزه عن توفير احتياجات أسرته من ضروريات الحياة .
يضيف في حديثة لـ"خيوط": "قبل الحرب كانت الرواتب تكفينا إلى حد ما لتوفير أساسيات الحياة اليومية، لكننا في الوقت الراهن أصبحنا عاجزين عن ذلك، ما جعلنا نبحث عن أعمال إضافية تساعدنا على توفير متطلباتنا"، لافتًا إلى أن "العمل صعب وشاق بالنسبة له، خاصة أنه يحتاج إلى جهد مضاعف، وفترة طويلة من العمل، نتاجها الحصول على مبلغ زهيد لا يغطي إلا جزءا يسيرا من الاحتياجات".
كما يؤكد وضاح أن ضآلة العائد مقابل الجهد جعله يفكر في البحث عن عمل آخر، إلا أن انعدام الفرص جعله مرغمًا على التحمل والصبر، ومواصلة العمل في هذه المهنة الشاقة كثيرا .
ويتعرض الكثير من صانعي الفحم لمخاطر صحية كبيرة، نتيجة انعدام وسائل السلامة التي إن وجدت ستجنبهم التعرض لأمراض الجهاز التنفسي الناتجة عن استنشاق دخان حرق الأخشاب، إلى جانب احتمالية تعرضهم لإصابات جسدية إثر استعمال الآلات الحادة التقليدية، نظرًا لعجز الجزء الأكبر من الفحَّامين عن اقتناء آلات ومعدات تسهل عليهم عناء وأضرار تجهيز الفحم .
تهديد للغطاء النباتي
في ظلِّ الصعوبات التي ترافقُ صناعة الفحم النباتي في عموم المناطق الريفية، تبقى هذه المهنة واحدة من أبرز المهن الشعبية التي يواجه العاملون فيها تحديات كبيرة للاستمرار فيها، في ظل تراجعها مؤخرًا، إذ تحتاج هذه المهنة إلى تطويرها واستثمارها بشكل أكبر وأفضل، لضمان المحافظة عليها و توسعها .
في الجانب الآخر من معاناة العاملين بمهنة الفحم يرى باحثون ومهندسون زراعيون في محافظة أبين أن عملية قطع الأشجار بطريقة عشوائية لاستخدام الحطب في صناعة الفحم أمر مقلق للغاية، يهدد بالقضاء على الغطاء النباتي، على الرغم من إدراكهم لحاجة الريفين لمثل هذه الأعمال التي أصبحت بالنسبة لهم ملجأ للتخفيف من وطأة الحرب وتداعياتها .
في السيِّاق ذاته يؤكد علي محفوظ، باحث زراعي، لـ"خيوط"، ضرورة اهتمام مكاتب الزراعة بتوعية المزارعين والعاملين في مهنة صناعة الفحم بضرورة الاهتمام بالغطاء النباتي، وضرورة تجنب القطع الجائر للأشجار، الذي سينعكس بشكل سلبي على البيئة، ويعرض الغطاء النباتي للانحسار.