في الرابعة والنصف عصر يوم 25 يناير/ كانون الثاني الفائت، اقتحم مسلحون وعناصر في زي الأمن، مقرَّ إذاعة "صوت اليمن" في شارع الزبيري (وسط صنعاء). بمحض وصولهم، باشروا بإيقاف الطاقم وتعتيم كاميرات المراقبة برش الطلاء عليها، ثم إغلاق مقر الإذاعة (ما يزال موصدًا حتى اللحظة).
الواقعة ذاتها تكررت مع سبع إذاعات أخرى في صنعاء، جميعها أغلقت خلال الأسبوع نفسه، لأسباب قيل إنها تتعلق بحيازة التصاريح، التي ما يزال سندها القانوني في التشريع اليمني محط إشكال وتعثر؛ الأمر الذي أفسح المجال لترجيح الاحتمالات بوجود مقاصد مبيّتة من جانب السلطات في صنعاء لإخراس الأثير، أو على الأقل إعادة ضبطه على إيقاعٍ يلائم المزاج العام لإعلام الصوت الواحد.
نقابة الصحفيين اليمنيين، أطلقت بيانًا أدانت فيه ما وصفته بـ"الإجراءات التعسفية المقيدة لحرية الرأي والتعبير"، وطالبت بسرعة إعادة بث الإذاعات التي تم إغلاقها، بمقتضى اللوائح التي أصدرتها سلطات الأمر الواقع في صنعاء عام 2017 لتنظيم عمل وسائل الإعلام، بما يتجافى مع القانون، بحسب البيان.
التراخيص مبررًا للحملة
مجلي الصمدي، مدير إذاعة صوت اليمن وصاحب الامتياز فيها، قال في حديث لـ"خيوط"، إن الإغلاق المفاجئ أتى "بزعم أننا لم نكمل إجراءات الترخيص ولم نسدد الرسوم، رغم أننا إذاعة موجودة من قبل وجود السلطة الحالية في صنعاء؛ ذلك أن الإذاعة بدأت بثها في 5 مايو/ أيار 2014، ولدينا موافقة على البث، صادرة من وزير الإعلام حينها.
حتى اللحظة، عادت إلى البث خمس إذاعات بعد امتثالها لعمل الإجراءات والتصاريح المفروضة، بموجب اللائحة المستحدثة، فيما ما تزال ثلاث إذاعات قيد الإيقاف (إذاعة القرآن الكريم، صوت اليمن، برق إف إم).
ينوه الصمدي، إلى حقيقة أن إذاعته لم تحصل على ترخيص، إنما على موافقة؛ لأن من الصعب الحصول على ترخيص في ظل غياب قانون نافذ ينظم عمل الإعلام السمعي والبصري، عدا عن القانون الذي تعثر إقراره في البرلمان منذ عام ٢٠١٢، كما تعثر إقراره أيضًا في عهد السلطة الحالية في صنعاء.
"لم يوافق البرلمان الموجود بصنعاء على إقرار هذا القانون، مع ذلك تحاول جماعة أنصار الله (الحوثيين)، تنظيم البث وفق ميولها، لذلك قاموا بعمل لائحة وزارية مقتبسة من القانون الذي فشلوا في إقراره، ومع هذا لم نرَ اللائحة ولا نعرف ما مضمونها"، يوضح الصمدي.
من جهته، يشير زيد فايع، مدير إذاعة دلتا إف إم -وهي إحدى الإذاعات التي تم إيقافها بصنعاء، في حديثه لـ"خيوط"، قبل أن تعود للبث بعد تسوية مالية دفعها نظير الترخيص- إلى أن "السلطات في صنعاء أمهلت كل الإذاعات في صنعاء عامًا كاملًا لإصدار تصاريح للبث، ولكن بالنسبة لإذاعة دلتا إف إم كانت المعاملات بطيئة، لذلك لم نستطع إصدار التصريح، حتى يوم الإغلاق، لكنني الآن مع إصدار التصريح عادت الإذاعة للبث.
أما مقابل الحصول على التصريح، يذكر أنه دفع مليون ريال، وذلك، بالمقارنة مع ميزانية الإذاعة، مبلغٌ كبير، إلا أن الإدارة اضطرت إلى دفعه مقابل الترخيص، تجنبًا لتوقف الإذاعة وتعطّل طاقمها عن العمل، وفقًا لفايع.
مرحلتان لتطويع الأثير
مصدر مسؤول، ذو صلة بحملة الإغلاق (طلب التحفظ عن ذكر هويته)، كشف لـ"خيوط"، أن ما حدث يعد جزءًا من خطة من مرحلتين، بدأت السلطات في صنعاء منذ فترة في تنفيذ الجزء الأول منها، حيث لا يمكن أن تسمح لأي إذاعة بالبث، ما لم تزود "الأجهزة الأمنية" ببيانات شاملة عن تفاصيل عملها، مهما كانت غير مهمة، كشرط حتمي لا يقبل المساومة.
يستطرد أن تفاصيل هذه الطلبات تتضمن مختلف تفاصيل العمل والكادر الوظيفي، إضافة إلى الدخل والميزانية ومقدار الإعلانات، وعدد الوقفات الإعلانية يوميًّا، وهذا ينطبق على جميع الإذاعات الخاصة تقريبًا".
أما المرحلة الثانية -بحسب المصدر المسؤول ذاته- هي التدخل المباشر في التحكم بمحتوى البث، إذْ لا بدّ أن يحظى كل ما يتم بثه خلال اليوم، بإجازة من السلطة، ويتوافق مع الرسائل التي تريد إيصالها إلى جمهور الإذاعة، سواء أكانت دينية أم سياسية، حتى لو يصل الأمر إلى استخدام القوة ومصادرة الإذاعة بالكامل، كما حدث أكثر من مرة سابقًا.
أحد مالكي الإذاعات الخاصة بصنعاء، أفاد لـ"خيوط" بما يؤكد هذه الجزئية "جنحنا للمهادنة والسير في طريق إجراءات الحصول على ترخيص منذ عام، لكن البيانات التي يطلبونها من مُلّاك الإذاعات ليست مهنية، وإنما تدخل في عملك وكل تفاصيلك، ومع ذلك مضينا ووافقنا على كل الشروط".
كشف أيضًا أن السلطات تعطي لائحة لكل إذاعة وتطلب من مالكها، التوقيع عليها، وهي أشبه بتعهد بتقديم كل البيانات والمعلومات السابقة أولًا بأول، "بالنسبة لي وافقت دون توقيع، ولهذا تعاملوا معي بحذر نوعًا ما، عند اقتحام إذاعتي كان القصد إرهابي بالقوة الأمنية، بدون مسوغ قانوني. طاقم الإذاعة تسعة أشخاص؛ مذيعين وفنيين كلهم تعطلوا وأصبحوا عاطلين في البيوت"، يضيف لـ"خيوط".
إجراء غير قانوني
من إجمالي 25 إذاعة تبث من صنعاء، أغلقت -خلال الأسبوع الأخير من يناير/ كانون الثاني الماضي- ثماني إذاعات، هي: جراند إف إم، صوت اليمن، الأولى إف إم، طفولة مجتمعية، الديوان، دلتا إف إم، برق إف إم، إذاعة القرآن الكريم.
حتى اللحظة، عادت إلى البث خمس إذاعات بعد امتثالها لعمل الإجراءات والتصاريح المفروضة، بموجب اللائحة المستحدثة، فيما ما تزال ثلاث إذاعات قيد الإيقاف (إذاعة القرآن الكريم، صوت اليمن، برق إف إم).
في تصريح لـ"خيوط"، يرى نبيل الأسيدي، عضو نقابة الصحفيين اليمنيين، أنّ ما حدث يأتي ضمن سلسلة طويلة من الانتهاكات والتعدي على الحريات الصحفية والإعلامية، التي بدأت بقصف مبنى التلفزيون والاستحواذ على القنوات والإذاعات الحكومية والخاصة، خلال الصراع في اليمن.
عن الشق القانوني، يقول الأسيدي، إنه تم قبل سنوات وضع لائحة في وزارة الإعلام، مخالفة لكل القوانين والشرائع المحلية والدولية، ويعد ما حدث نوعًا من الابتزاز، وتعدّيًا سافرًا على حرية الإعلام والصحافة، سواء أكان ذلك بهدف انتزاع أموال من المؤسسات ووسائل الإعلام، أم بهدف التوجيه والتحكم في المحتوى، كل ذلك يعد مخالفًا للقانون".
في عموم الحالات، تظل التجاوزات بحق المؤسسات الصحفية ووسائل الإعلام فعلًا مألوفًا ومتكررًا في اليمن، خصوصًا خلال السنوات الأخيرة من الصراع والاستقطاب السياسي بين أطراف الحرب، على نحوٍ يتناقض مع القانون اليمني والدولي وأخلاقيات الحرب، سعيًا وراء تطويع قناعات الرأي العام المحلي، وحشده حول فكرةٍ لا تؤدي إلى الحقيقة.