تعاني الفتيات في الكثير من المناطق اليمنية، وخاصة الأرياف، الحرمانَ من الحقوق الأساسية والخيارات -وأغلبها شخصية- التي يكفلها الشرع والقانون معًا، ومنها حق اختيار الشريك "الزوج"، الذي قد يُفرض عليهن، وبالإكراه، في الكثير من الأحيان لأسباب عائلية أو قبلية أو مادية، وهو ما يؤدّي إلى عدم توافق واستمرار الكثير من العلاقات الزوجية، ويدمِّر أسرًا بأكملها، ويُلقي بتبعاته ليس على المرأة فقط، بل على الأطفال الذين ينتجون عن هذا الزواج، المتوقع نتيجته في الغالب منذ البداية.
على الرغم من أنّ المادة (16) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والذي صادقت عليه اليمن، تنص على أنه "لا ينعقد الزواج قانونًا إلا برضى الطرفين رضاء كاملًا لا إكراه فيه"(1).
ويُعتبر إبرام عقد الزواج في غياب الإرادة الحرة للطرفين المعنيين باطلًا ولاغيًا في عدد من الدول، كما أصبح الزواج بالإكراه يُمثّل جريمة يعاقب مرتكبها بالسجن أو الغرامة(2)؛ إلَّا أنَّ العادات والتقاليد القبلية، والمستويات التعليمية المحدودة، وغياب تطبيق القوانين في اليمن، لا تزال عائقًا في إحراز أيّ تقدّم في الحدّ من هذه الظاهرة، حسبما تعتقده إيمان عباس، الخبيرة في الشؤون النفسية الاجتماعية.
زواج المنفعة
وأوضحت عباس أنّ هذه الظاهرة عادت للبروز وبقوة بعد الحرب على اليمن، التي تستمر للعام الثامن، والتي تسبّبت بأسوأ أزمة إنسانية في العالم، حيث كشف تقرير لمنظمة الأمم المتحدة للطفولة "اليونيسف" أنّ ما يزيد على ثلثي الفتيات في اليمن يجبرن على الزواج قبل بلوغهن سن الـ18 عامًا(3). وأرجعت عباس ذلك إلى أنّ الأوضاع الاقتصادية دفعت الكثير من الأسر إلى زواج الشغار (البدل)، أو تزويج بناتهم لأشخاص ميسورين ماديًّا للتخفيف من أعباء إعالتهن، ولا سيما زوجات ضحايا الحرب، الذين أغلبهم في سنّ الشباب، ما يدفعهم إلى تزويجهن بأقاربهم بحجة الحفاظ على الأبناء، إضافة إلى زواج المصلحة القائم على المنفعة في مجال الأعمال وتحسين الدخل أو النفوذ أو التقاربات الحزبية أو القبلية، التي تدفع الفتيات ثمنها.
ويدفع زواج الإكراه بعض الفتيات إلى الهرب والبحث عن ملجأ آخر فرارًا منه، وهذا الخيار مكلف أيضًا، فهو كفيل بتعريضهن لخطر الموت على يد أفراد أُسَرهن، الذين يعتبرون هروب إحداهن طعنًا في شرف العائلة، كما قد تتعرض للمهانة وتشويه السمعة من قبل المجتمع، ونبذ العائلة الذي يصل إلى التبري منها، لتعيش بعيدة عنهم لسنوات أو لكامل عمرها، ويدفعها للبحث عن عمل قد لا يتناسب مع طبيعتها وأدوارها المجتمعية، لتتمكن من توفير احتياجاتها.
ضياع
"أبي عقد قراني على رجل مُسِنّ تجاوز الخمسين عامًا، وأنا طفلة في الصف الثالث الإعدادي، وعمري حينها 14 عامًا، توسلاتي لوالدي وبكائي لم ينجحا في تغيير رأيه، اضطررت عندها إلى الهروب، ومواجهة حياة قاسية، كلها شعور بالغربة والضياع"؛ تقول سلمى -اسم مستعار- وهي تحكي عن الضياع الذي تعانيه، وإحساسها بالغربة وهي في وطنها، بعد اضطرارها للهرب إلى شيخ قبلي في مدينة عبس بمحافظة حجة، بعد إجبارها على الزواج من رجل يكبرها في السن بـ37 عامًا.
ترى المحامية والمستشارة القانونية، رشا النجار، أنّه في الوقت الذي تتبنى فيه الكثير من منظمات حماية المرأة مثل هذه القضايا، فإنها لا تملك أماكن إيواء كافية للفتيات اللواتي يعانين في منازلهن، سواء بسبب العنف المنزلي أو زواج الإكراه أو الحرمان من الحقوق.
وتضيف سلمى: "لم يكن هروبي سوى رغبة في النجاة من أسوأ الاحتمالات التي توقعتها، وهو رجل مُسِنّ، وزوجته الأولى فاقدة البصر وتحتاج إلى رعاية متواصلة، لكنه لم يكن إلا بداية لمأساة أكبر، وهي الحرمان من لقاء أمي أو حتى النظر إلى وجهها أو أحد أفراد أسرتي، ومنذ أربع سنوات وأنا أعاني مذلة الانتقال بين السجن والشيوخ القبليين المعنيين بحل هذه القضايا، وما زلت أنتظر المجهول بعد أن رفض عقيدي منحي الطلاق ومنع زواجي بغيره؛ لأني شرعًا امرأة متزوجة".
زواج لا يدوم
في الجانب المقابل، عشرات الأسر التي لم يدُم عمرها طويلًا للسبب ذاته، وهو زواج الإكراه، ونتج عنها تشتت النسيج الأسري، بعد علاقات متوترة وأطفال لديهم مضاعفات نفسية حادّة، ونساء قررن عدم خوض التجربة مجدّدًا والتضحية بحياتهن في سبيل الأطفال غالبًا.
تحكي وداد عن قصة زواجها مرتين بالإكراه، وطلاقها في المرتين، لعدم قدرتها على تحمل الرجل الذي اختاروه لها في المرة الأولى وهو ابن عمها، وتقول إنّها كانت تشعر بنفور شديد تجاهه، خاصة بعد أن عرفت أنه كان على علم بعدم قبولها به، ومع ذلك استمر في هذا الزواج الذي لم يدم سوى شهر، لم تكن حينها قد أكملت تعليمها الثانوي رغم ولعها الشديد بالدراسة.
ومع أنّ القانون اليمني ينص صراحة على أن زواج الإكراه باطلٌ ولا يعتدّ به، وكل عقد بني على إكراه الزوج أو الزوجة لا اعتبار له، إلا أنّ وداد لم تجد من ينصفها ويطبق لها القانون، حين حاولت الرفض أثناء عقد القران، وقام إخوتها بتهديدها بالقتل؛ ما أجبرها على الموافقة.
زواجها الثاني لم يستمر أيضًا؛ بسبب غيرة الزوج الشديدة، وسوء طباعه واتهاماته الدائمة لها بالخيانة، أصرّت حينها على الطلاق، وهذه المرة قررت عدم خوض التجربة مجدّدًا، مكتفية بتربية طفلتيها الناتجتين عن الزيجتين الفاشلتين، بعد أن تمكنت من الحصول على عمل.
غياب الحماية
ويرى الشيخ حسن يحيى، أحد أعيان محافظة حجة (شمال غربي اليمن)، أنّ غياب وسائل الحماية القانونية والأسرية والمجتمعية من زواج الإكراه، أحد أكبر ما تصطدم به الفتيات المعرضات لهذا الخطر، الذي يهدّد صحتهن النفسية وحياتهن الأسرية ومستقبلهن التعليمي والوظيفي الذي يقضي عليه هذا الزواج، فتجد الواحدة منهن نفسها، إما مجبرة على الرضوخ والقَبول أو الهرب مهما كانت النتائج، وفي الغالب إلى جحيم مجهول من الخوف والإقصاء والاستغلال ومصادرة مزيدٍ من الحقوق، كما أنّ المجتمع ونظرته القاصرة للمطلقة، خاصة في عمر زواج قصير وشخص قريب من العائلة، يُرجِع السبب إلى المرأة ويطعنون في أخلاقها.
ويؤكّد يحيى أنّ عدد القضايا التي تصل إليهم بهذا الخصوص كثيرة، أغلبها قادمة من الأرياف؛ بعضها يتم حلّها أسريًّا، وبعضها يدرج في محاضر نيابية ويخضع للمحاكمات، لكن الحصول على نسب رسمية أو إحصاءات دقيقة أمرٌ ليس سهلًا، بسبب عدم توثيق الكثير منها، والاكتفاء بالحلول القبلية التي يختارها الأهل، لتجنب مزيدٍ ممّا يعتبروه تشويه لسمعة العائلة.
وترى المحامية والمستشارة القانونية، رشا النجار، أنّه في الوقت الذي تتبنّى فيه الكثير من منظمات حماية المرأة مثل هذه القضايا، فإنّها لا تملك أماكن إيواء كافية للفتيات اللواتي يعانين في منازلهن، سواء بسبب العنف المنزلي أو زواج الإكراه أو الحرمان من الحقوق، كما تتعرض هذه المنظمات لتهجم أُسَر هؤلاء الفتيات وإلحاق الضرر بمنشآتها أو العاملين فيها، والإساءة لأعضائها، خاصة في ظل غياب حماية الدولة والقانون في السنوات الأخيرة.
وتضيف النجار أنّ القانون اليمني يوفّر حماية للفتيات من هذا الزواج، إلّا أنّ اشتراط وجود الولي يصعب من توفر الحماية الفعلية، وتؤكّد على أهمية تشريع مواد ونصوص قانونية دقيقة ومفصلة لحماية الفتيات من زواج الإكراه، وتحديد عقوبات على المكرِه، وتسهيل إجراءات فسخ عقد الزواج في حال ثبات الإكراه، أمرٌ لا بدّ منه لتفادي انتشار أوسع لهذه الممارسة التي تفكّك المجتمع.
تم إنتاج هذه المادة بدعم من (jhr) صحفيون من أجل حقوق الإنسان والشؤون العالمية في كندا.