سقوط رهان الإمبراطورية

14اكتوبر ومنطلقات الكفاح المسلح
سعيد أحمد الجناحي
October 15, 2023

سقوط رهان الإمبراطورية

14اكتوبر ومنطلقات الكفاح المسلح
سعيد أحمد الجناحي
October 15, 2023
.

بحكم ترابط نضال الحركة الوطنية اليمنية، تعتبر ثورة 14 أكتوبر امتدادًا لثورة 26 سبتمبر 1962 على الساحة. لقد اندلعت بعد عشرة أشهر و18 يومًا، من قيام الثورة السبتمبرية. ومن البديهي أن تشكّل الثورتان ثورة واحدة لوطن واحد.

من هذا المنطلق، سنتناول خلفية وإعداد وانطلاقة ومسار الثورة الأكتوبرية التي تحقّقت بالكفاح المسلح. تعود الخلفية إلى الانتفاضات القبَلية المسلحة في مناطق ريف الجنوب، وتراكم الحركة العمالية والوطنية ممثلة بأحزابها الوطنية والقومية في عدن، وتصاعد نضالها الذي وصل ذروته في بداية الستينيات. 

يمكن القول إنّ المحاولة المنظمة للنضال المسلح تعود إلى عام 1958- إلى تجربة "تنظيم العاصفة"، وهي منظمة سرية أسّسها الأستاذ محمد عبده نعمان، ومن هناك عمل على تنظيم عدد من العناصر التي يثق بها في منظمة سماها "العاصفة"؛ للقيام بعمل مسلح ضد المواقع البريطانية، ووفّر للمجموعة متفجرات ومسدسات.

يذكر البريطانيون أنّ سلسلة من الانفجارات هزت المستعمرة عدن بشكل متلاحق، ابتداءً من مارس، وحتى يوليو 1958؛ أدّت إلى مقتل ضابط بريطاني، وتلا ذلك المزيد من الانفجارات والقنابل والمحاولات التخريبية. ولمواجهة هذا التهديد للأمن؛ أعلنت حالة الطوارئ، وتم القبض على عدد من الأشخاص، وتوقف نشاط المنظمة.

وأنشأ محمد عبده نعمان اسم (هيئة تحرير الجنوب اليمني المحتل)، وكان مقرها مدينة البيضاء، وانضم إليها عددٌ من الشخصيات والمشايخ من الوطنيين الذين نزحوا من الجنوب إلى الشمال؛ لمواقفهم المعادية للوجود البريطاني؛ ولمشاركتهم في الانتفاضات المسلحة. شكّل هؤلاء قيادة للهيئة برئاسة الأستاذ محمد عبده نعمان، أجرت اتصالات مع قادة المؤتمر العمالي، ورابطة أبناء الجنوب للمشاركة أو التنسيق في عملية الكفاح المسلح ضد الاستعمار البريطاني. قيادة هيئة التحرير واصلت إعدادها لخوض الكفاح، وعملت للحصول على مساعدات من خلال وفد يمثّلها زار عددًا من البلدان العربية، غير أنّ الوفد لم يحصل إلا على وعود فقط عدا مصر؛ فبعد مقابلة الرئيس جمال عبدالناصر، قدّمت مصر للهيئة كمية من الأسلحة وصلت إلى ميناء الحديدة عام 1960، لكن النظام الإمامي صادرها؛ إذ لم تكن سياسة الإمام جادة في تحرير الجنوب. 

قبل يومين من قيام الثورة في شمال اليمن، وفي 24 سبتمبر 1962، تصاعد النضال الوطني المعادي للمشاريع البريطانية إلى أوجه حين تضامنت القوى الوطنية، وكان العمال في مقدمتها، وأعلنت الإضراب العام، وتسيير المظاهرات؛ لإفشال اجتماعات المجلس التشريعي لعدن، والتي خصصت لاتخاذ قرار لضم عدن إلى اتحاد الجنوب العربي؛ لإكمال المشروع البريطاني، وتشكيل دولة اتحادية تمنحها بريطانيا استقلالًا صوريًّا؛ ولتظل تحت حمايتها، وإبقاء القواعد العسكرية البريطانية في عدن. كان لهذا المشروع أبعادٌ خطيرة، أهمها أن يكون لدولة اتحاد الجنوب العربي شرعية دولية تعيق تحقيق وحدة الوطن، شمالًا وجنوبًا. 

واجهت المظاهرات خلال يومي (24 و25) سبتمبر عملية قمع شديدة، فقد زحف المتظاهرون إلى مبنى المجلس التشريعي الواقع على تبة في مدينة كريتر، وطوقوه، وحالوا دون وصول أعضاء المجلس؛ مما اضطر الإدارة البريطانية إلى استعمال الطائرات المروحية لإيصال الأعضاء إلى مبنى المجلس لتامين اجتماعهم، كما استعانت بالجيش البريطاني الذي واجه الجماهير الغاضبة بالقنابل المسيلة للدموع والرصاص الحي؛ مما أدّى إلى استشهاد وجرح عددٍ من المتظاهرين، وشنّت الشرطة حملة اعتقالات واسعة، وكان عددٌ من قادة المؤتمر العمالي وحزب الشعب الاشتراكي بين المعتقلين. في ظل هذه المقاومة، وفي اليوم الثالث 26 سبتمبر، كانت انطلاقة ثورة 26 سبتمبر، وإنهاؤها عهد الإمامة، وإعلان الجمهورية، وكانت مظاهرات يوم الخميس 26 سبتمبر مختلفة؛ لقد شهدت شوارع عدن مظاهرات تؤيد الثورة السبتمبرية، وتهتف بسقوط الاستعمار، وحكومة الاتحاد، وتطالب برحيل الاستعمار البريطاني. 

لقد قلبت الثورة في الشمال الأوضاع رأسًا على عقب ليس على الساحة اليمنية، بل وفي الجزيرة العربية؛ لذا تعرضت إلى العدوان منذ الأيام الأولى لقيامها، وكانت بريطانيا واحدة من الدول التي رفضت الاعتراف بالنظام الجمهوري، وجعلت من ساحة الجنوب مكانًا لإيواء الملكيين وتدريبهم وتسليحهم؛ بهدف إسقاط الثورة والجمهورية، بل شنّت عدوانها المباشر على المناطق الحدودية إدراكًا منها أنّ النظام الجمهوري يختلف اختلافًا كبيرًا عن النظام الإمامي الذي تعايش مع استعمارهم ونفوذهم في الجنوب.

تحول الشمال إلى ساحة للقاءات القوى الوطنية. لقد أدرك الوطنيون أنّ الشمال أصبح قاعدة ثورة وخلفية لنضال تحرير الجنوب، ولا بُدّ من حماية الثورة والجمهورية في الشمال؛ لذا ما إن وجهت قيادة الثورة والجمهورية في الشمال نداءً للتطوع دفاعًا عن الثورة الوليدة حتى تدفق الآلاف من عدن إلى تعز؛ حيث فتحت معسكرات تدريب للمتطوعين من القوات الشعبية التي سميت "الحرس الوطني"، كما لبّى النداء الآلافُ من أبناء ريف الجنوب، خاصة من أبناء ردفان والضالع، بل كان التطوع من أنحاء الوطن اليمني.

وقائع الإعداد للثورة 

أصبحت ساحة شمال اليمن منطقة تجمع قيادات الحركة الوطنية الجنوبية؛ فقد وصل إلى صنعاء قادمًا من القاهرة، المهندس قحطان محمد الشعبي، بعد أن قضى فيها عدة سنوات لاجئًا سياسيًّا، وفور وصوله عيّنه رئيس الجمهورية مسؤولًا عن مكتب شؤون الجنوب اليمني المحتل بدرجة وزير، وأتاح وجود مكتب شؤون الجنوب مجالًا واسعًا للاتصال بأبناء الجنوب، أكانوا من الذين تواجدوا قبل الثورة، أم أولئك الموزعين في مناطق القتال من المتطوعين الذين انضموا إلى الحرس الوطني، أو الذين يتوافدون من الجنوب إلى صنعاء- مركز تجمع ولقاءات نقاش بين الفئات الوطنية المختلفة حول كيفية توحيد القوى الوطنية، وحشد قواها لتحرير الجنوب، وتوصلت تلك الجهود إلى عقد اجتماع في 24 نوفمبر 1962 في دار البشائر بصنعاء، حضره المئات من أبناء الجنوب، وممثلون للتنظيمات السياسية، خاصة من قيادة حركة القوميين العرب- فرع اليمن، وحزب الشعب الاشتراكي الذي كان قد أتيح له فتح مكتب في صنعاء وآخر في تعز. كان حزب الشعب الاشتراكي يتمتع بشعبية واسعة بحكم سيطرته على المؤتمر العمالي في عدن. 

توصل الاجتماع المذكور الذي كان لا يقل عن مؤتمر؛ لكثرة عدد من حضره، إلى تشكيل لجنة تحضيرية برئاسة المناضل قحطان الشعبي، وعضوية كلٍّ من: عيدروس القاضي، والشيخ ناصر السقاف، والشيخ عبدالله المحيلي، ومحمد علي الصماتي، وثابت منصور، والرائد محمد الرقم، ونجيب مليط، ومحمد عبدالله عولقي، وعلي محمد الكاظمي، وعبدالله محمد الصلاحي. 

أعدت اللجنة ميثاقًا وطنيًّا لتشكيل جبهة تحرير اليمن المحتل. وفي 5 مارس 1963، عقد اجتماع أقر فيه الميثاق الذي تضمن شعاره من أجل التحرر، والوحدة، والعدالة الاجتماعية. وأدان الميثاق الاتحادَ الفدرالي المزيف، وقيام اتحاد الجنوب العربي في الجنوب، وحذر من مخططات الاستعمار الذي يسير نحو منح الجنوب الاستقلالَ الشكلي، وقيام دولة الجنوب العربي الانفصالية المتآمرة على وحدة اليمن واستقلاله وازدهاره.

بادر فرع حركة القوميين العرب في عدن بقيادة فيصل عبداللطيف الشعبي؛ فأصدر بيانًا يؤيد فيه ميثاق الجبهة، وتشكيلها، ويؤيد ما أقدمت عليه القوى الوطنية في صنعاء، ويوضح الكثير من جوانب القضية الأساسية المتعلقة بتحرير الجنوب اليمني، وأهمية التحالف السياسي والنضالي بين مختلف القوى الوطنية اليمنية.

وأكّد الميثاق على ضرورة إقامة جبهة تحرير الجنوب اليمني المحتل، وشنّ حرب تحرير ضد الإنجليز حتى النصر والاستقلال، وضرورة تحقيق الوحدة اليمنية بعد تحرير الجنوب، وعدم الاعتراف بالأشكال الدستورية التي تفرضها بريطانيا، وتصفية القواعد العسكرية، وإنهاء الوجود البريطاني، وعدم الاعتراف بأي معاهدة فرضتها بريطانيا على المنطقة، وأي امتيازات حصلت عليها لاستغلال ثروات المنطقة، وحدد نهج النضال المسلح لتحرير الجنوب، ومن الأهداف أيضًا أن تتفتح الجبهة على كل القوى الوطنية، وتوحيدها، وإعدادها لخوض المعركة في إطارها. وجاء في الميثاق أنّ من مهام الجبهة الدفاعَ عن ثورة سبتمبر، واعتبر الجمهورية العربية المتحدة (مصر) قاعدة النضال التحرري العربي، وعليها تقع مسؤولية مساندة حركة التحرر في الجنوب. وجاء في نهاية الأهداف: الإيمان بالوحدة العربية، والعمل على قيام الوحدة العربية، وأذيع البيان من إذاعة صنعاء. 

بادر فرع حركة القوميين العرب في عدن بقيادة فيصل عبداللطيف الشعبي؛ فأصدر بيانًا يؤيد فيه ميثاق الجبهة، وتشكيلها، ويؤيد ما أقدمت عليه القوى الوطنية في صنعاء، ويوضح الكثير من جوانب القضية الأساسية المتعلقة بتحرير الجنوب اليمني، وأهمية التحالف السياسي والنضالي بين مختلف القوى الوطنية اليمنية، وضرورة إنجازها، وكذلك أن تكون مهام الجبهة الأساس: تحرير الجنوب من المستعمر.

وبينما كانت جهود اللجنة التحضيرية تُبذل في سبيل تشكيل الجبهة، فجأة رفضت قيادة حزب الشعب الاشتراكي قيام الجبهة تحت مبرر أن من يريد أن يشارك في المعركة، عليه الانضمام إلى حزب الشعب؛ ممّا أدّى باللجنة التحضيرية إلى أن تقدمت بمذكرة إلى الرئيس عبدالله السلال حملها ممثلون عن حركة القوميين العرب، وقطاع القبائل والجنود والضباط الأحرار يطالبون بفتح مكتب للجبهة، وحظي طلبهم بموافقة الرئيس، وأمر بإغلاق مكتب حزب الشعب الاشتراكي، إلا أنّ ذلك القرار واجه معارضة من بعض الشخصيات في السلطة من أنصار حزب الشعب الاشتراكي وحزب البعث. 

ولم تتمكن الجبهة من فتح مكتب لها، ورغم الصعوبات فإنّ جهود تشكيل الجبهة لم تتوقف؛ فقد وضعت حركة القوميين العرب ثقلها، ودعت إلى اجتماع عقد في 19 أغسطس حضره ممثلون عن سبع فصائل وتنظيمات سياسية وممثلون عن القبائل شكلت حركة القوميين العرب الفصيل الرئيسي بينها، وخرج اجتماع أغسطس بإعلان تأسيس الجبهة على قادة الميثاق الوطني المقر في مارس، ولم يغير فيها سوى الاسم الذي تحول من جبهة التحرير إلى الجبهة القومية لتحرير جنوب اليمن المحتل، وتم انتخاب المناضل قحطان الشعبي أمينًا عامًّا للجبهة القومية، وتم تشكيل مجلس تنفيذي لقيادة الجبهة بقيادته. 

في تلك الأثناء، ترك المقاتل غالب راجح لبوزة مع مجموعة من رفاقه المقاتلين من أبناء ردفان منطقةَ المحابشة إلى تعز؛ حيث نسق مع قيادة الجبهة القومية، ثم عاد إلى ردفان بهدف التواجد داخل المنطقة، ولما علمت السلطة البريطانية بعودة مجاميع من أهالي المنطقة؛ أمرت بتسليمهم لأسلحتهم أو تعرضهم لدفع غرامة كبيرة؛ وهو ما جعل المقاتل لبوزة ورفاقه يلجؤون إلى الجبال.

انطلاق الثورة وصمودها 

وفي تلك الأثناء، انتقل ثلاثة من ممثلي حركة القوميين العرب إلى القاهرة، وهم أعضاء الأمانة العامة: جورج حبش، ومحسن إبراهيم، وهاني الهندي؛ حيث التقوا بالرئيس جمال عبدالناصر، وطرحوا عليه موضوع الكفاح المسلح، وتشكيل الجبهة القومية، وعملت القيادة المصرية في صنعاء على فتح مكتب في مدينة تعز لجهاز يُشكّل من الضبّاط والخبراء؛ ليتولوا مهام تدريب وتسليح الثوار، وكانت الجبهة القومية لتحرير جنوب اليمن المحتل قد نقلت نشاطها إلى تعز لقربها من المناطق الجنوبية، ولم تكن الجبهة القومية بحاجة إلى تأسيس قاعدة لها؛ فقد تحول أعضاء كل الفصائل المؤسسة للجبهة القومية أعضاءً لها، وعلى وجه الخصوص أعضاء حركة القوميين العرب التي كانت خلاياها منتشرة في عدن، وأغلب مناطق ريف الجنوب، إضافةً إلى التفاف المئات من أبناء الجنوب من المؤيدين للكفاح المسلح حول الجبهة القومية، بمن فيهم المقاتلون العائدون من جبهات الدفاع عن الجمهورية بعد أن سُمِح لهم بالانضمام إلى الجبهة بأسلحتهم الشخصية؛ ليتم الاتفاق على عودتهم إلى المناطق مزودين بأسلحتهم الخفيفة تمهيدًا للكفاح المسلح.

في تلك الأثناء، ترك المقاتل غالب راجح لبوزة مع مجموعة من رفاقه المقاتلين من أبناء ردفان منطقة المحابشة إلى تعز؛ حيث نسق مع قيادة الجبهة القومية، ثم عاد إلى ردفان بهدف التواجد داخل المنطقة، ولما علمت السلطة البريطانية بعودة مجاميع من أهالي المنطقة؛ أمرت بتسليمهم لأسلحتهم أو تعرضهم لدفع غرامة كبيرة؛ وهو ما جعل المقاتل لبوزة ورفاقه يلجؤون إلى الجبال.

كان بعض رفاق لبوزة يسألونه عن بداية الكفاح المسلح، إلا أنه كان يرد عليهم: "علينا أن ننتظر التعليمات"؛ فقد كان الإعداد للعودة إلى الجنوب، وإعداد مناطق تموين قريبة تجري على قدم وساق. 

وفي أوائل أكتوبر تسلم المقاتل لبوزة رسالة إنذار من الضابط السياسي البريطاني، المستر (ميلان)، جاء مضمونها: "عليكم عدم العودة إلى الشمال، وأن عليكم وجماعتكم تسليم أسلحتكم؛ وإلا فستدفعون غرامات باهظة".

وكان رد المناضل لبوزة: "على القوات البريطاني ألا تتحرك ثلاثة كيلو مترات من معسكر الحبيلين"، ووضع في الرسالة طلقة رصاص حملها إلى الحبيلين المناضل قاسم شائف.

وفي الساعة الثالثة من بعد ظهر 13 أكتوبر، وصل النبأ إلى وادي (دبسان) بأن قوات بريطانية تعززها المدافع الثقيلة تتقدم باتجاه (وادي المصراح)، بقيادة الضابط السياسي المستر ميلان، ويصطحبها النائب محمود حسن، وأكّد النبأ المقاتل أحمد مقبل الذي كان يقوم بعملية الاستطلاع بإشارة تأكيد، حيث أطلق من بندقيته عدة طلقات في الهواء، وعلى الفور أدرك الثوار الإشارة، فتحركت مجموعة المقاتلين يتقدمهم لبوزة إلى (جبل البدوي)؛ رأس وادي المصرح (حيد ردفان)؛ حيث وضع مع رفاقه خطة المواجهة.

وفي صباح 14 أكتوبر، نزلت المجموعة بقيادة المناضل لبوزة إلى الوادي لصد القوات البريطانية المتقدمة، حيث دارت معركة ضارية بينهم وبين القوات البريطانية، دامت أربع ساعات، من الساعة الثانية عشرة ظهرًا حتى الرابعة عصرًا، أسفرت عن تراجع القوات البريطانية، وإصابة المناضل لبوزة بثلاث شظايا؛ فظلت جراحه تنزف، حتى فارق الحياة.

وفي مساء 14 أكتوبر 1963، أعلنت الجبهة القومية في بيان لها عن معركة ردفان بأنها انطلاقة لثورة التحرير، وأن المناضل لبوزة أول شهيد على طريق الحرية، ووجدت تلك العملية صدىً واسعًا، وشكّلت قناعة لدى القيادتين اليمنية في الشمال والمصرية بدعم الجبهة القومية، وتقديم كل التسهيلات لنضالها.

تحملت مصر أعباء دعم الكفاح المسلح، والذي جاء وفق استراتيجيتها في مقاومة الاستعمار، ومدت الجبهة القومية بالمال والسلاح والذخيرة، وأطلقت على عملية تحرير جنوب اليمن (عملية صلاح الدين)، وبينما كان المقاتلون في ردفان يتصدون للحملات العسكرية البريطانية، وتعمل قيادة الجبهة القومية على تصعيد الكفاح المسلح، وتوسيع مناطقه- أعلنت الأحزاب التي رفضت الكفاح المسلح عن مواقفها في حملات إعلامية قوية، ومنها ما جاء في كتيب أصدره (حزب الشعب الاشتراكي)، بعنوان (هذا هو موقفنا)، حدد فيه موقفه من الكفاح المسلح، ومما جاء فيه: "إن حزب الشعب الاشتراكي مع إيمانه الكبير بأن جلاء المستعمر من بلادنا واجب مقدس؛ فهو لا يؤمن بسفك الدماء، حيث يمكن حقنها، وأنه يعتبر النضال المسلح وسيلة رئيسية للضغط على الاستعمار، ومن أجل الوصول إلى حلول سياسية أفضل، وليس لإحراز انتصار عسكري حاسم على غرار انتصار دولة على دولة في حرب من الحروب، وأنّ الحزب يرفض الوصول إلى المجد الحزبي الرخيص على حساب أرواح الأحرار من القبائل في ردفان، والضالع، ويافع، ودثينة، والحواشب؛ دون أن يقدم للقبائل وقطاعات الشعب الأخرى تخطيطًا لما يمكن تحقيقه؛ وبذلك، فالحزب يرفض أن يرمي بالأرواح والممتلكات في حرب إقلاق لا حرب تحرير فاصلة، وقبل أن يستفيد الشعب من طرف دولي يحقق للشعوب المضطهدة أمانيها في الحرية والتقدم".

ووصفت قيادة رابطة أبناء الجنوب الجبهة القومية، بأنها عبارة عن تنظيم موجه من الخارج، ويسيطر على قيادتها عصبة من المارقين من الدخلاء على الحركة الوطنية ومحترفي السياسة، ولصوص المؤتمر العمالي، كما عارض الكفاح المسلح الحزب الوطني الاتحادي، وأعلنت قيادته موقفها الذي جاء فيه: 

"نحن لا نؤمن بسفك الدماء؛ إذ إننا لا نؤمن بأنظمة الحكم العسكري الديكتاتوري، أو ذات الحزب الواحد، ولا نقبل لأي بلد أو هيئة أو منظمة التدخل في شؤون بلدنا". 

أيقن البريطانيون في البداية أن معارك جبل ردفان لن تعدو كونها انتفاضة قبلية سيكون مصيرها كغيرها من الانتفاضات التي نجحوا في قمعها في الماضي، أو أنها لا تعدو كونها حالة من التمرد الذي حدث في جمادى الآخرة 1383هـ/ نوفمبر 1963، في منطقتي الحواشب والصبيحة؛ فقد قمع بعد أن سيرت القيادة البريطانية حملات عسكرية اشترك في إحداها (50) دبابة ومصفحة، وأوردت إذاعة صنعاء في 14 نوفمبر أنّ القوات الإنجليزية فتحت ست جبهات في ستة اتجاهات، وندّدت صنعاء بعملية القمع تلك. 

لقد تجاهل البريطانيون عمق المتغيرات التي أحدثتها الثورة السبتمبرية على ساحة اليمن كلها، وأنها فتحت المجال واسعًا لعملية الترابط النضالي لقوى الثورة اليمنية، بما يعنيه ذلك من تحول شمال اليمن إلى قاعدة إسناد لثورة 14 أكتوبر، بينما أدرك الثوار أنّ مهام حماية نظام الثورة والدفاع عنه من خلال امتداد الثورة تجاه الجنوب، لكبح التآمر لتحريره من الاحتلال الاستعماري البريطاني والعملاء الذين ارتبطوا به، ووجد الثوّار دعمًا بأشكال مختلفة من قبل المسؤولين عن المناطق المتاخمة للمناطق الجنوبية، وخاصة من الملازم أحمد الكبسي- قائد محافظة إب، وتحولت منطقة قعطبة القريبة من الضالع وردفان إلى مركز تجمع للثوار، وطريق عبور إلى المناطق الجنوبية، بالإضافة إلى خزن وتسريب الأسلحة والمؤن والغذاء للثوار.

وبعد استشهاد المناضل لبوزة، نشأ خلاف حول مسألة قيادة الانتفاضة المسلحة؛ عندئذٍ عين المجلس التنفيذي للجبهة القومية من بين أعضائه الشيخ عبد الله المجعلي لقيادة جبهة ردفان، واعترفت قبائل ردفان بممثل الجبهة قائدًا لها، وفي البداية تولى كل من عبدالله المجعلي، وناصر السقاف، وعلي عنتر مسؤولية تموين الثوار من قعطبة، وكانت تعز منطقة تدريب لكل من يستجيب لخوض الكفاح المسلح.

_______________

(*) مجتزأ نصيّ من مادة (ثورة 14 أكتوبر) الموسوعة اليمنية 2003، الجزء الثاني، الصفحات (794-803). 

•••
سعيد أحمد الجناحي

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English