لا شيء يلفت انتباه المراقب والمتابع للوضع الراهن في اليمن مثل موقف كثير من النخب السياسية والاجتماعية والثقافية مما يجري، وهو موقف اتسم في الغالب بالسلبية، إن لم نقُل إنّ هذه النخب صارت أدوات طيعة تعمل لصالح الأطراف المرتبطة بالحرب، إما بالوقوف مع الأطراف التي أشعلت الحرب، أو مع الأطراف التي صنعتها الحرب ذاتها.
ومع أنّ التزام النخب بالحياد النسبي يعبر عن العجز في أسوأ حالاته، لكنه كان سيبقى أقل وطأة وخطورة من تحوّل هذه النخب من مدافعين عن البلد في وقت الرخاء إلى عوامل هدم أو شهود زور، تعمل لصالح القوى والأطراف التي تقف على النقيض من المبادئ والقيم التي طالما ظلت تعلن النضال من أجلها والتمسك بها والدفاع عنها، وفي مقدمة هذه المبادئ: الهُوية اليمنية، والسيادة الوطنية، والجمهورية، والثورة، والوحدة، والديمقراطية، والتعددية، والعدالة والمساواة.
وإنّ المراقب لما يجري في اليمن منذ نشوب الحرب التي أعقبت الانقلاب، تصيبه الدهشة المشوبة بالأسى والحزن لما آلت إليه الأوضاع عامة، وما آل إليه كثيرون ممن كانوا يوصفون يومًا بالنخبة، من الساسة والمثقفين والقادة العسكريين والمسؤولين والكتّاب والإعلاميين، حين صار كل واحد منهم يتخذ الموقف المناقض لنفسه وتاريخه ومبادئه وأفكاره وثقافته وشعاراته، كيف لا وقد أضحى "الجمهوري" العتيد داعمًا ومؤيدًا لمشروع كان هو نفسه يراه مناهضًا للثورة والجمهورية، وكذلك غدا "الوحدوي" الذي ناضل في سبيل الوحدة، منظرًا ومبشرًا بمشاريع التمزيق والتشطير، متنكرًا لمبادئه وشعاراته الوطنية، ومنكرًا حقائق الجغرافيا ووقائع التاريخ وأهداف النضال وغاياته. و"الديمقراطي" الذي كان يبشّر باحترام الرأي والرأي الآخر أصبح لا يؤمن سوى بالسلاح رأيًا واحدًا وموقفًا وحيدًا، معتبرًا كلَّ من يختلف مستحقًّا للقتل والتصفية، و"الأممي" الذي تلقى تعليمه في عدة عواصم بات مقتنعًا بأن التعصب المناطقي سبيلٌ لنيل الحقوق حتى لو كان ذلك على حساب ملايين الكادحين الذين كان يعدّهم لإشعال العنف الثوري ضد الإمبريالية العالمية والرجعية العربية والبرجوازية الصغرى والكبرى.
صحيح أنّ التحديات التي سبقت الحرب، وصاحبتها أو نجمت عنها كانت ولا تزال أقوى من قدرة هذه النخب –أو هكذا خُيّل لها- لكن ذلك لا يبرر للمناضل أن يخون مبادئه، ولا للثائر أن ينقلب على أهداف ثورته، ولا أن يتحول كل هؤلاء إلى بيادق تحركها أطراف الداخل والخارج خدمة لمصالحها وتنفيذًا لأجندتها فيما اليمن، واليمنيون يتردون في هاوية الضياع، مشردين ونازحين ولاجئين داخل الوطن وخارجه، منهكين وموجوعين جراء الحرب وبسبب الدمار الذي خلّفته في الواقع وفي النفوس.
إن بمقدور اليمنيين أن يتجاوزوا تبعات هذه الحرب وتداعياتها بإرادة قوية وإدارة فاعلة، لكن ذلك يصعب ويصبح في حكم المستحيل إن انعدمت الإرادة وتمزقت الإدارة، بل صارت إرادة القوى الفاعلة تبعًا لإرادة آخرين ورغبتهم.
ما كان لأي حربٍ مهما طال أمدها وزاد عدد ضحاياها أن تمنح المثقف فرصة التجرد من واجبه والتحلل من ضميره والتزاماته تجاه البلد والناس الذين اعتبروه المخلّص لهم والمنقذ، وما كان للمؤامرات والمكائد، مهما عظمت، أن تعفي الساسة ورموز المجتمع وقادته من تحمل مسؤوليتهم في حماية الوطن والدفاع عن الأرض والسيادة والهُوية والتاريخ، وما كان لأي شخص أوتي قدرًا من العلم أو حظي بشيء من الوعي أو صار على جانب من المسؤولية أن يتخلى عن دوره في الذود عن خبز الفقراء وأحلام البسطاء في حياة كريمة ومواطَنة متساوية.
لا وجع يؤلم أبناء اليمن أكثر من خيانة النخب، وتحولها من الدفاع عنهم إلى المشاركة في النيل منهم، حتى أوجاع الحرب يمكن الانتصار عليها وتجاوزها، وفي تجارب الشعوب التي عاشت ويلات الحروب والصراعات خير تجربة وبرهان على ذلك، لكن المؤلم حقًّا أن تتوالى الطعنات على الجسد المثخن بالجراح، وإن أشد الطعنات وطأة وأكثرها ألمًا تلك التي تأتي من الجهة/ الشخص غير المتوقع.
إنّ بمقدور اليمنيين أن يتجاوزوا تبعات هذه الحرب وتداعياتها بإرادة قوية وإدارة فاعلة، لكن ذلك يصعب ويصبح في حكم المستحيل إن انعدمت الإرادة وتمزقت الإدارة، بل صارت إرادة القوى الفاعلة تبعًا لإرادة آخرين ورغبتهم، وها هي إرادة أولئك الآخرين تتكشف يومًا بعد آخر في السعي لتمزيق ما تبقى من اليمن وتدمير ما أمكن تدميره، فيما النخب متواطئة وصامتة حينًا، ومشارِكة ومساهمة حينًا آخر، رغبة في الحصول على رضا القوى الخارجية أو خوفًا من الفصائل الداخلية التي باتت هي "سلطة الأمر الواقع"، في واقعٍ أسوأ ما فيه مرارته، وأبشع ما فيه تسلط القوى والمجموعات والتشكيلات المسلحة- ما دون وطنية.
والمثير للدهشة أنّ بعض من يُعتبرون نخبة، باتوا مقتنعين بالعمل تحت لافتات التشكيلات المسلحة، ينفذون توجيهات أمراء الحرب ويعملون لصالحهم الذي هو صالح الأسياد والداعمين والمموّلين خلف الحدود، والمصيبة أنّ هذه النخب تدرك أكثر من غيرها أنّ الأجندة التي يقفون معها، تقف هي في الاتجاه المعاكس لمصلحة اليمن وحلم أبنائه وبناء مستقبله المنشود.