إنّ امتلاك مشروعية التغيير كفعل اجتماعي إنساني، لا بدّ أن يرتكز على مبررات موضوعية تُنكِر ما يكرّسه نظام الحكم القائم، من سياسات لا تراعي مصالح المجتمع، ولا تأبه بتطلعاته، ولا تستجيب لمطالبه، ولا تهتم بحقوقه وتصون مكتسباته، وتحفظ أمنه، ليبقى مقهورًا ومكبل الإرادة.
كما إنّ نجاح التغيير يبقى مرهونًا بنضج الظروف، وبالتفاف أصحاب المصلحة الحقيقية في التغيير ليضمن القائمون عليه تفاعل المجتمع، ومبادرته لرفد التغيير بما يحتاجه ممّا يدخره من طاقات وجهود وإمكانيات وخبرات.
ولقد وجد شعبنا العربي في اليمن نفسَه محاطًا منذ بدايات القرن العشرين، وخاصة في أعقاب ما سُمّي استقلالًا عن الدولة العثمانية، بساسة يدّعون زورًا الانتساب إلى نبي الأمة –محمد (ص)– الذي أسّس لتجربة إنسانية مائزة ببعديها، الروحي والمادي، على قواعد الحرية والعدل والمساواة. بل وجدهم لا يتمثلونه مسلكًا بما يكرسونه من سياسات تمييزية؛ احتكروا فيها السيادة، وقسموا المجتمع إلى أشياع خدم، وكفار تأويل، واتخذوا الكذب مركبًا لتبرير مظالمهم، ونشر الجهل، وواجهوا منكري سياساتهم بالعنف وبتهم التنصير والتكفير، وكرسوا أبشع أساليب الإجرام للقضاء عليهم (وكان التنكيل بمدينة صنعاء وأهلها في أعقاب فشل حركة 48م الدستورية، خيرَ مثال على ذلك). كما منعوا انتشار التعليم الحديث، وحرموا أبناء العامة منه. أمّا ما أبقوا عليه فلم يزِد عمّا سُمّي (بالمِعلامات) الأهلية، مع إلزام المستفيدين منها والقائمين عليها بتمجيد الإمام باعتباره ظل الله في الأرض، وخليفته على العباد. لا يُسأل عمّا يفعل، ويطاع فيما يأمر، وقد كانت هذه هي الصفة الغالبة للتعليم القائم.
أمّا ما سُمّيت مدارس رسمية، فبالرغم من محدوديتها واقعيًّا، فقد كان الادعاء السائد بأنّ التعليم (إلزامي ومجاني) في الوقت الذي كانت فيه ممارساتهم تكذِّب ذلك الادعاء، كما طغت على مناهجه الصفةُ المذهبية، ولم يقدَّم فيها من العلوم الطبيعية ما يتناسب مع حق الطالب في الإعداد، ووصلت حدَّ إلغاء تعليم اللغة الإنجليزية بعد انسحاب اليمن من الاتحاد الثلاثي؛ كما أغلقت المدارس الأهلية التي حاولت تقديم بعض العلوم الحديثة، وأغلقت أخرى رسمية بدعوات واهية، وقد بلغ طغيان الحاكم حينها حدّ حصر حق الانتساب للمدرسة الأحمدية بموافقة الإمام. كما كان الابتعاث لإكمال التعليم في الخارج يكاد يكون متاحًا فقط لأبناء الأمراء والمقربين، ومن نال من القلة حظوة.
ويكفي للتدليل أيضًا، أنّه عند قيام الثورة لم يثبت وجود مدارس ثانوية في طول البلاد وعرضها، إلا أقل من أصابع يد واحدة، وأنّ أول دفعة تخرجت من الثانوية العامة كانت في العام 1965م، وكان أغلبهم ممّن قدموا من عدن وابتعثوا للدراسة الجامعية في مصر. وقد كانت الحالة التعليمية لوحدها تشكّل سببًا كافيًا للتغيير؛ فكيف وقد تجمعت أسبابٌ كثيرة كانت تحضّ على التعجيل به، وذلك ما دفع الثوار إلى التعامل مع حتمية نضج الظروف بالسعي لتخليق أسباب لإنضاجها عبر التنسيق مع قائد الثورة العربية في مصر الشقيقة الزعيم الخالد جمال عبدالناصر، الذي كان يقود مرحلة تحول كبير يستهدف إرساء دعائم مجتمع الكفاية في الإنتاج والعدالة في التوزيع، ويكرس مبدأ تكافؤ الفرص، بَدءًا بتوفير التعليم المجاني الذي عمّ كل قرى ونجوع البلد، وصولًا إلى تأهيل الفرد ليكون عضوًا منتِجًا يكتسب من خلال دوره حق الاندماج والقَبول الاجتماعي، ولكنه في الوقت ذاته لم يغفل عمّا تعج به المنطقة العربية والعالم من أحداث وصراعات، فبادر للدفاع عن حقوق الشعوب، وفي المقدمة منها الحق في الحرية، ولم يتوانَ عن مقارعة الاستعمار أينما وجد، وسعى لمحاصرة وتعرية الرجعية العربية واحتضان حركات التحرر ودعمها.
علينا أن نعي أنّ ما جرى سابقًا وما يجري اليوم هو من محاولات جماعات الإسلام السياسي بمختلف مذاهبها وتكويناتها، سواء باعتراف الإخوان المسلمين بأنهم أنشَؤُوا الجماعة سعيًا للقضاء على الثورة لأنها غير إسلامية، أو بسعي سلطة الأمر الواقع اليوم لإعادة صياغة المناهج وصبغها مذهبيًّا، وإعادة إحياء ثقافة التسلط، وبجعل يوم 21 سبتمبر الذي مثّل انقلابًا على التوافق الوطني، وحال دون إمكانية الانعتاق بادعاء أنها ثورة.
وبناء على ما تقدَّمَ، فقد بادرت قيادة تنظيم الضبّاط الأحرار للإعداد للثورة وبالاستقطاب في الوسطين، العسكري والمدني، مع سعي حثيث للتواصل مع قيادة الثورة العربية في مصر لطلب الدعم والإسناد، تحسبًا للمخاطر المتوقعة التي قد تحول دون نجاح الثورة.
ولهذا لم تنتظر طلائع الثوار النضج الكامل للظروف، وخاصة الداخلية، فكان الحدث في 26 سبتمبر 62م، وكانت الاستجابة السريعة للدعم من مصر العربية بقصد حماية الثورة والتمكين، وبادرت بتقديم تضحيات جسام لم تقف عند حدود الدفاع عن الثورة ومنع وأدها، بل ودعم الثوار لاستكمال ثورتهم بتحرير الجزء الجنوبي من الوطن، ولم تتوانَ أيضًا عن تقديم الدعم المطلوب في مختلف مجالات الحياة، سعيًا لإعادة تشكيل ثقافة المجتمع، وبما يمكِّنه من إعادة تشكيل حياته بما يليق بإنسانيته. ولذلك تعددت مساعداتها بإرسال الطبيب، والمهندس، والمعلم، والكتاب المدرسي، والوسائل التعليمية المختلفة، وحتى دفاتر الطلاب، وعملت على تحديث أساليب التقويم، واستقبال ورعاية الطلاب اليمنيين المبتعثين للدراسة في معاهد وجامعات مصر والإنفاق عليهم، وتحديث التعليم، مناهجَ وإدارةً وأنظمةً وقوانينَ ولوائح، ومرورًا بتشجيع توسيع انتشار المدارس، وانتهاءً ببناء بعضها، ومنها مدرسة عبدالناصر في صنعاء التي تم هدمها وإنشاء أخرى محلها بسبب (تفكير مريض) مع وضع نظام بديل للقبول فيها، وجعلها حكرًا على ما أسموا المتفوقين من خريجي التعليم الأساسي والذين بدورهم لم ينالوا ما يناسبهم من التأهيل للحفاظ على تميزهم وتفوقهم. ولعل استدعاء أسماء أوائل خريجي الثانوية العامة في السنوات الأخيرة يكشف عن موقع خريجي المدرسة المذكورة، ويدلل على تدني الرعاية والتأهيل.
ثمّ إنّ تحقيق الرعاية والتأهيل المتناسبَين مع متطلبات الحفاظ على تفوقهم وتميزهم لا أراها متوفرة، حيث لذلك شروط ومتطلبات ومعايير لم تتوفر بعدُ للبيئة والأنظمة التعليمية بصورة عامة، ليتحول التعليم من خدمة إلى استثمار، كما لا نجد في القائمين على التعليم ما يؤهلهم لتوفير ذلك، بدءًا بالوعي، وانتهاء بمتطلبات توفير تعليم محكوم بمرجعية تربوية تعليمية ضابطة يمكن في ضوء مقاصدها وغاياتها قياس جدوى محتويات المناهج، ومتطلبات تجويدها، ولذلك حديث يطول.
ولعلّ من أهم أسباب ذلك، رغبة القوى المتحكمة بالسلطة، في تكريس التوجيه السياسي القائم خدمة لأهدافها، للحيلولة دون تكريس تعليم ديمقراطي يؤمن بحقِّ كلِّ طفلٍ في التأهيل المناسب، وبما يهذّب الاختلاف بتكريس تربية سياسية متزنة بدلًا عن التوجيه السياسي القائم.
ويبقى أمر هدمها مع تحويل وظيفتها، مع وظيفة مدرسة الثورة بتعز، المقدمة هدية من شعب مصر العربي، لا يؤكدان إلا على خبثِ مَن خطّطَ ونفّذ التغيير في كلٍّ منهما بكيد سياسي عبيط، أملًا بطمس كل أثر للإسهام الأخوي الذي قدّمته ثورة يوليو، بدلًا من إبقاء المدرستين عنوانين لتميز العلاقة بين ثورتين وشعبين عربيين إبان حقبة من تاريخنا المعاصر.
كما إنّ ذلك يأتي استمرارًا لمحاولات احتواء الثورة، والتي بدأت منذ الأيام الأولى لبزوغ شمس الثورة في 62م، للحيلولة دون تمكين المجتمع من استعادة إرادته المخطوفة، ووعيه بحقه بإعادة بناء علاقته مع من يحكم (باعتباره مستخدمًا لديه، لا متسلطًا عليه)، وحقه ببناء نظامه السياسي الذي يرتضيه، ويستجيب لتطلعاته، ويؤكّد سيادته عليه.
ولست هنا كائدًا أو معبرًا عن قناعة خاصة، بل لأنّي أنظر لذلك بنظرة المحترم للتاريخ، والمهتم بالتعليم المجود، وواجب تعميمه وإتاحته أمام الجميع كحق مكفول لأبناء المجتمع دونما تمييز، باعتبار ذلك المدخلَ الأساسي لتحقيق التغيير المستحق للمجتمع، وعبره ستتحقق التغيرات المطلوبة في علاقات الإنتاج والعلاقات البينية المختلفة، ولكوني أيضًا غير مقتنع بجدوى وفعالية ما يقدّم لأبنائنا من خدمات تعليمية تمارس السلطات بها الإغواء والتدليس بأنها مهتمة بالتنشئة والتأهيل للأجيال كما يجب، في وقت تفضح فيه مستويات مخرجات التعليم كل تلك الادعاءات.
كما أنّي أنظر للأمر من زاوية الإدراك والإيمان أيضًا بأنّ التعليمَ، قبل وبعد قيام الثورة وحتى الآن، مطلوبٌ (بكيفيته لا بكَمّه فقط)، ثم إنّ نظرة سريعة لأهداف ثورة يوليو أو ثورة سبتمبر 62م، تنبئ بأن استجابة قيادة الثورة في مصر كانت تعبيرًا عن التزامها بإنجاز أهدافها، ومنها المتعلق بالقضاء على الاستعمار والتخلف، وبناء مجتمع الكفاية والعدل، والسعي لتحقيق الوحدة العربية، ولذلك ارتقت استجابتها لنداء الثورة في اليمن، من مستوى التعاطف إلى مستوى الواجب.
كما أنّ كل الأهداف الستة للثورة اليمنية ما كان لها أن تتحقق إلا عبر بوابة التعليم الذي يجب أن نتخذه وسيلتنا الرئيسية لإنجاز الأهداف، فالتعليم المتناسب مع متطلبات إعادة بناء ثقافة مجتمعية رشيدة، يضمن إعادة تأهيل أبناء المجتمع، وإعادة تركيب علاقات الإنتاج بما يجرّم كل تمايز لا يأتي عبر مساهمة الفرد في الإنتاج باعتباره البوابة المثلى لتحقيق الاندماج والقبول الاجتماعي، ولتحديد المكانة المناسبة التي تغدو معها كلُّ محاولات الاندماج الأخرى الشائعة حاليًّا أمراضًا يجب تجفيف أسباب بقائها واستمرارها، وذلك ما عمل المتسلطون، ومن تتقاطع مصالحهم معهم، على منعه بكل الوسائل التي مورست منذ قيام الثورة وحتى اليوم!
وعلينا أن نعي بأنّ ما جرى سابقًا، وما يجري اليوم من محاولات جماعات الإسلام السياسي بمختلف مذاهبها وتكويناتها، سواء باعتراف الإخوان المسلمين بأنهم أنشَؤُوا الجماعة سعيًا للقضاء على الثورة لأنها غير إسلامية، أو بسعي سلطة الأمر الواقع اليوم لإعادة صياغة المناهج وصبغها مذهبيًّا، وإعادة إحياء ثقافة التسلط، وبجعل يوم 21 سبتمبر الذي مثّل انقلابًا على التوافق الوطني، وحال دون إمكانية الانعتاق بادعاء أنها ثورة(؟!) لم نرَ منها سوى المزيد من اختلال العلاقة بين المجتمع وبين من يتولى الحكم، وأثبتت بها الجماعة أنّها ليست أكثر من جماعة (فيد) إن لم أقل أكثر، وعليهم وعلى جميع من يحاولون وأد محاولاتنا للتغيير أن يدركوا بأنه إن كان بمقدورهم اليوم إعاقة التغيير فإنهم قد يأجلونه لكنهم لن يستطيعوا منعه، وأن كل ما يستطيعونه أو قدروا عليه لم يكرسوا به إلا وهمهم بتحقيق التمكين (الإقصائي) الذي يؤجّج الصراعات، ويحول دون الاستقرار في مجتمع المواطنة المتساوية، وأنّ حتمية التطور ستفرض شروطها، واستمرار الغي يضاعف تكلفة الإصلاح، ويعيق التوافق المجتمعي، ويخدم أعداء الأمة.
ومن هذا المنظور وبهذا المستوى، يجب أن ننظر لأهمية التغيير الذي حاولته الثورة منذ قيامها، ومعرفة الأسباب والصعوبات والكوابح التي وضعتها القوى المضادة، لتحول دون تحقيق التحولات الجذرية في مختلف مجالات حياة المجتمع. وبه أيضًا يجب إن نقيم الدور العربي المصري ونرفض محاولات تشويهه أو الإساءة إليه.
ولأنّ تتبع تأثير ثورة سبتمبر على التعليم كما يجب، (تفاصيل) وتحتاج لمساحات أكبر. لذلك سأكتفي، داعيًا إلى تحول التعليم من خدمة إلى استثمار، وأن يكون ذلك قريبًا بإذن الله.