يعد التعليم أهم المؤسسات الحيوية المخولة بإعادة إنتاج المجتمعات وتمكينها وتطويرها بما تقوم به من وظيفة تكوّن الأجيال الجديدة بتربية وتنمية العقول ونقل الخبرة وحفظ المعرفة وتداولها، وذلك بحسب رؤية فلسفية مدركة أو مضمرة عن النخبة المعنية بأمر تسويس المجتمع وتدبيره. والمؤسسة التربوية التعليمة هي تكوينية بالأساس، إذ تنهض بمهمة تصميم وتشكيل وتمكين النمط الثقافي المرغوب في مجتمعٍ من المجتمعات.
فكيف كان التعليم في جنوب اليمن قبل الاستقلال الوطني وبعده؟
في الواقع كان نظام التربية والتعليم السائد في جنوب اليمن قبل دخول الاستعمار البريطاني عام 1839، هو ذاته التعليم التقليدي العربي الإسلامي الذي يقوم بإعادة تشكيل الأجيال الجديدة وِفق النمط الاجتماعي المتوارث من أقدم العصور، بغرض إعادة تطبيع النّشْء. وترمز كلمة التطبيع هنا إلى تلك العملية التي بواسطتها يتعلم الفرد كيف يتكيف مع جماعته عن طريق اكتساب السلوك الاجتماعي الذي ترضى عنه تلك الجماعة، وبالنتيجة تصبح غاية التعليم، لا تغيير وتطوير المجتمع، بل إعادة إنتاجه عن طريق الحفظ والتلقين جيلًا بعد جيل.
مع الإنجليز اختلفت السياسية التربوية التعليمية في عدن المستعمرة، وذلك بما يتوافق مع أهداف الاستعمار وفلسفته في تسويس أمر الجنوب العربي؛ فالتعليم في عدن الذي كان أقدم عهدًا، وأكثر تقدمًا وأوسع انتشارًا، ارتبط منذ بداية الاحتلال البريطاني بحاجة البريطانيين والجاليات الأجنبية، وظل يسير قبل سنة 1937، على نمط النظام الهندي، ثم فصل عنه بعد تلك السنة عندما أصبحت عدن ترتبط مباشرة بوزارة المستعمرات البريطانية. ولأسباب سبق ذكرها، شهدت عدن خلال المدة الممتدة بين عامي 1946 – 1960، زيادة محسوسة في معدل التعليم بلغت 60% للأولاد، و40% للبنات، وهبطت معدلات الأمية خلال تلك المدة إلى 60%. وحسب التقرير السنوي لحكومة الاتحاد لسنة 1965، فقد وصل إجمالي المدارس في عدن في تلك السنة إلى 38 مدرسة ابتدائية، 12 مدرسة مدعومة من الحكومة، وخمس مدارس خاصة غير مدعومة، ويدرس في كل تلك المدارس 14600 طالب وطالبة. أما المدارس المتوسطة، فقد بلغت 23 مدرسة، 10 مدارس تتلقى دعمًا من الحكومة وخمس مدارس خاصة، يدرس في جميعها 7100 طالب وطالبة. وبلغ عدد المدارس الثانوية 13 مدرسة، خمس مدارس منها تتلقى دعمًا حكوميًّا، وثلاث مدارس خاصة، ويدرس في تلك المدارس الثانوية في ذلك العام 2900 طالب وطالبة. وفضلًا عن ذلك فقد كان في عدن في تلك المدة أربعة معاهد بعد الثانوية جميعها حكومية، وتضم حوالي 800 طالب وطالبة. [ينظر: محمود السالمي، اتحاد الجنوب العربي: محاولة توحيد المحميات البريطانية في جنوب اليمن وفشلها (1945-1967)، 2004].
على مدى أكثر من قرن من الزمن، تمكنت بريطانيا من إعادة تشكيل مدينة عدن على صورتها بما جعلها أشبه بجزيرة الأحلام المعزولة عن محيطها شديد التخلف، ولم يفكر الإنجليز بتعميم التعليم الحديث في سائر مناطق الجنوب إلا في السنوات الأخيرة قبيل رحيلهم
وهكذا يمكن القول إن عدن هي أول المدن في جنوب الجزيرة العربية التي شهدت نظام التعليم الحديث مؤسسيًّا ومنهجيًّا ومعرفيًّا. وذلك ليس حبًّا بسواد عيون أهل عدن، بل بغرض إشباع متطلبات المستعمر القادم من وسط أوروبا الغربية الصناعية المتطورة، التي تقوم فلسفتها على رؤية كلية لتغيير العالم على صورتها. ولكي يتغير العالم، "يحتاج المرء إلى تغيير الطريقة التي يصنع بها العالم. هذه هي الرؤية والممارسة العملية التي يتم عبرها إنتاج وإعادة إنتاج الجماعات". [ينظر: مارك مجدي، التعليم وإعادة إنتاج المجتمع المتخلف، الحوار المتمدن، 24 مارس/ آذار 2015].
نعم بريطانيا أحدثت تحولًا نوعيًّا في نظام التعليم بمدينة عدن يحاكي نظام التعليم الأوروبي الحديث، ولكن ذلك اقتصر على عدن فقط، ولم تُدر بالها على المناطق الجنوبية الأخرى، التي كانت ترزح في واقع تعليمي شديد البؤس والتخلف، إذا ما استثنينا الحواضر الدينية في تريم حضرموت وغيل باوزير والوَهْط في لحج، وكتاتيب الأربطة والهجر التعليمية التقليدية التي كانت تعلم أساسيات القراءة والكتابة لأغراض دينية بحتة في مختلف القرى والأرياف الجنوبية.
وهذا ما لاحظه الباحث الأكاديمي المؤرخ محمود السالمي بقوله: "ربما كان أكثر ما يميز النظام التعليمي في اتحاد الجنوب، هو ذلك التباين الشديد بين ما كان عليه في عدن، وما كان عليه في سائر ولايات الاتحاد الأخرى". [ينظر: محمود السالمي، اتحاد الجنوب العربي: محاولة توحيد المحميات البريطانية في جنوب اليمن وفشلها (1945-1967)، 2004].
وعلى مدى أكثر من قرن من الزمن، تمكنت بريطانيا من إعادة تشكيل مدينة عدن على صورتها بما جعلها أشبه بجزيرة الأحلام المعزولة عزلًا شديدًا عن محيطها شديد التخلف، إذ لم يفكر الإنجليز بتعميم هذا النمط الحديث من التعليم في سائر مناطق الجنوب الساحلية والجبلية إلا في السنوات الأخيرة قبيل رحيلهم، وبالذات بعد إعلان اتحاد الجنوب العربي. إذ شهد الاتحاد في عام 1965، زيادة أكبر في عدد المدارس النظامية بفعل التوسع من جهة، وبفعل انضمام ولايات جديدة من جهة أخرى، فبلغ إجمالي المدارس الاتحادية في تلك السنة -من دون ولاية عدن- 179 مدرسة ابتدائية.
ولأسباب تعود إلى اختلاف درجات اهتمام الحكومات المحلية، ظل التفاوت كبيرًا في توزيع تلك المدارس على ولايات الاتحاد؛ فسلطنة لحج كانت تمتلك وحدها من تلك المدارس 30 مدرسة، وسلطنة الفضلى 26، وسلطنة الواحدي 15، ومشيخة العوالق العليا، ودثينة، لكل منهما 11 مدرسة، وتوزعت أرقام المدارس الأخرى على بقية الولايات الإحدى عشرة بنسب متقاربة، كانت في الأكثر بين 5-7 مدارس في كل ولاية.
وعمومًا فقد كان يدرس في جميع تلك المدارس حوالي 16 ألف طالب وطالبة. وارتفع كذلك عدد المدارس المتوسطة في الاتحاد خلال ذلك العام إلى 17 مدرسة، كان يدرس فيها حوالي 1800 طالب، معظمهم من الذكور. وبعد أن كانت لا توجد في الاتحاد، حتى سنة 1962، أي مدرسة ثانوية، أصبحت فيه في سنة 1966، ثلاث مدارس؛ واحدة في مدينة الاتحاد (العاصمة الاتحادية) والثانية في الحوطة- لحج، والثالثة في زنجبار بولاية الفضلى. وكانت جميع المدارس الثانوية، بالإضافة إلى عدد من المدارس المتوسطة، تحتوي على أقسام داخلية مدعومة من وزارة المعارف الاتحادية، بلوازم السكن والتغذية المجانية للطلاب. كما كان هناك مصروف بسيط يعطى للطلاب شهريًّا، وكذلك كلفة المواصلات التي تعيدهم إلى قراهم ومناطقهم في نهاية الفصول الدراسية، بحسب المسافة بين سكن الطالب والمدرسة.
ومن الإنصاف الإقرار بأن الاستعمار البريطاني قد أحدث تحولًا إيجابيًّا في نظام التعليم بعدن في خدمة النخب الأرستقراطية، وما زال كبار السن الذين ولدوا وعاشوا في تلك المرحلة يتذكرون مدارسهم بشوق وحنين المحبين. إذ إن ولاية عدن أدخلت في 1964، نظام الخدمات الطبية لتلاميذ المدارس، فخصصت عددًا من الممرضين والممرضات وفنِّيي الأسنان لزيارة المدارس، وتقديم الرعاية الصحية الأولية للتلاميذ المحتاجين لها، وإحالة الذين كانوا يحتاجون الفحص الطبي الدقيق إلى المراكز والمستشفيات الطبية. وفي شهر نوفمبر/ تشرين الثاني من تلك السنة، أنشئت ثلاث عيادات لطب الأسنان، خاصة بتلاميذ المدارس في عدن، وكانت تفتح أبوابها ثلاثة أيام في الأسبوع، بحضور أطباء مختصين. وفضلًا عن ذلك، فقد كانت معظم المدارس الابتدائية الرسمية في عدن تقوم بتقديم الحليب المجاني يوميًّا لتلاميذها.
وبعد كل حساب، يمكن القول إن نظام التعليم الحديث في عدن الذي أتى به الإنجليز، كان عاملًا مهما في ازدهارها المدني والتجاري والثقافي والإعلامي والفكري، التي لم تشهد مثله أي منطقة أخرى في شبه الجزيرة العربية، إذ أفضى إلى استيقاظ الوعي السياسي وتشكيل الروابط والكيانات السياسية، ومعه بدأت الحركة النسوية التحررية في عدن، وغير ذلك من عناصر وعلاقات وممارسات وبنيات وقيم ورموز الحياة الحديثة. وفي عدن تلك الأيام، ازدهرت الصحافة والإعلام المقروء والمرئي باللغتين العربية والإنجليزية؛ "فتاة الجزيرة"، و"الرقيب"، و"الأيام"، والإذاعة والتلفزيون، والمطابع والمكتبات، وغير ذلك. وأنجب التعليم في عدن عددًا من النخب المتعلمة عالية التأهيل منهم؛ المحامي محمد علي لقمان، والإعلامي محمد علي باشراحيل، والتربوي محمد عبده غانم، والأكاديمي عبدالله فارع فاضل، والمفكر السياسي عبدالله باذيب، وغيرهم من الأطباء والطبيبات والمهندسين والمعلمات والإعلاميين والفنانين والأدباء والكتاب الذين لا يتسع المجال لذكرهم.
أما بعد 30 نوفمبر/ تشرين الثاني 1967، ونيل الاستقلال الوطني، فقد ترافق التعليم مع الثورة الراديكالية الكلية التي قلبت المجتمع رأسًا على عقب وأعادت تصميمه وتشكليه وطنيًّا عربيًّا وأمميًّا يساريًّا، جعل من التعليم رافعته للتغيير الاجتماعي الشامل، إذ انفتحت المؤسسة التعليمية الوطنية على كل فئات وشرائح المجتمع الجنوبي، ذكورًا وإناثًا بلا استثناء، كما كان الحال في عدن المستعمرة.
وتم إقرار التعليم إلزاميًّا ومجانيًّا لكل التلاميذ والتلميذات في المدن والأرياف، فضلًا عن مشروع التحرر من الأمية وتعليم الكبار، إذ في بضع سنوات انتشرت الثورة التعليمية انتشار النار بالهشيم في مناطق جنوب اليمن، وتم بناء المدارس الحديثة على نطاق واسع جدًّا، وفي عام 1985، أعلنت المنظمة الأممية للتربية والثقافة والعلوم اليونسكو، جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية أول دولة في شبه الجزيرة العربية تتحرر من الأمية، إذ تقلصت الأمية في الجنوب إلى 2% فقط من عدد السكان. [ينظر: ويكيبيديا – جوجل].
وحينما نتذكر اليوم نتائج الثورة التعليمية في جنوب اليمن منذ نيل الاستقلال الوطني في 30 نوفمبر/ تشرين الثاني 1967، حتى الآن، وما أنجبته من آلاف الخريجين والخريجات من الأطباء والمهندسين والأكاديميين والمعلمين والإعلاميين والأدباء والكتاب والدبلوماسيين والنخبة المتعلمة في مختلف التخصصات والمجالات، ندرك الأهمية الحيوية للتعليم والتحرر من الأمية.
فالتعليم هو مفتاح التقدم والتطور والنماء والارتقاء، ولولا السياسية التي خذلت الجميع لكانت نتائج التعليم غير ما هي عليه اليوم، وربما كانت عبارة الإنجليزي جرهماس هي لعنة عدن المستعصية، إذ قال حينها إن "عدن تمكنت من إنجاب أفضل المهندسين ورجال الأعمال، ولكنها عجزت عن إنجاب سياسيين أكْفَاء". فماذا بمقدور التعليم أن يفعله في ظل خراب الدولة؛ مؤسسة المؤسسات كلها!
ورغم ذلك يبقى التعليم هو الخيار الذي يستحيل تجاوزه بدون إشباعه في اللحظة الراهنة سريعة الإيقاع والتغيُّر، إذ إن التغيرات المتسارعة في مختلف مناحي حياة المجتمع اليوم، تجعل مفاهيم التربية والتعليم التقليدية موضع تساؤل: إذ كيف نعلّم التلاميذ بينما هناك نظريات ومناهج وموضوعات يكون قد عفا عليها الزمن قبل أن يترك التلاميذ مقاعدهم في المدرسة. نحن نعيش لحظة تاريخية فارقة تجعل التغييرات في الأشخاص عاجزة عن ملاحقة سرعة التغيرات الاجتماعية والثقافية والعلمية المتسارعة في العالم المعولم، الذي يشهد انفجار الثورة العلمية والتقنية الرقمية على نحو لم يسبق له مثيل؛ منذ آدم حتى الآن. أقصد أن المعارف العلمية والقيم التربوية في عصر العولمة وانكماش الزمان والمكان، عصر العلم والميديا الجديدة، تعيش حالة من التغيير والتبدل بوتيرة متسارعة في بضع ساعات فقط. وهذا يعني أن تحديات الحياة المعاصرة لا يمكن مواجهتها إلا بالاستجابة الإيجابية الفعالة، وتلك الاستجابة لا يمكنها أن تكون إلا بتغيير جذري في أدوات ومحتويات ووسائل وطرق التربية والتعليم العتيقة. فمجتمع الغد إما أن يكون في الروضة والمدرسة أو لا يكون. وهكذا يظل سؤال التربية الملحّ كما كان في كل العصور: ماذا نريد أن نكون؟!