انتشرت ظاهرة التسرب من التعليم خلال الفترة الأخيرة في مختلف المناطق اليمنية، وخصوصًا منذ سنة 2016 وما بعدها، فقد لعبت العديد من العوامل دورًا كبيرًا في تسرب الأطفال واليافعين -من كلا الجنسين- من التعليم، في مؤشر خطير قد يكون له تداعيات وخيمة مؤثرة في المستقبل على كافة الأصعدة في بلد يعاني ويلات الحرب منذ ست سنوات ومن آفات فقر وبطالة مزمنة.
ما يثير الدهشة أن أغلب حالات التسرب حدثت بإرادة ورغبة أسر الطلاب وبموافقة ومباركة منهم لأسباب ودوافع مختلفة، كما رصدته "خيوط" من محافظة أبين التي تشهد معدلات مرتفعة في تسرب الأطفال واليافعين من التعليم، كغيرها من المحافظات اليمنية.
وساهم تسرب الطلاب من المدارس في انتشار الجريمة، وتعاطي المخدرات، وزيادة نسب استغلال الأطفال وتجنيدهم في الصراع، بالإضافة لزجهم المبكر في سوق العمل.
إذ تقف وراء كل متسرب من التعليم قصة، سالم أحمد فضل، (20) سنة، يقول لـ"خيوط": "كنت أدرس في الصف الأول ثانوي، والدي عسكري في الجيش، وأمي ربة منزل، لدي ثلاثة من الإخوة الذكور، جميعهم خريجون جامعيون ولكنهم بدون عمل، ما جعلني أكره الدراسة، خاصةً وأنا أشاهد إخوتي الخريجين منذ أكثر من 10 سنوات دون وظيفة"، ويضيف فضل: "لهذا حاولت الانسحاب من التعليم والاتجاه للتجنيد وسط تشجيع من إخوتي ورفض تام من قبل أمي وأبي، لكن مع مرور الوقت وتوقف راتب والدي وارتفاع الأسعار ازداد وضعنا سوءًا، وخصوصًا أن أبي مصاب بمرض السكري، لهذا تركت التعليم واتجهت للتجنيد بدون أن أسمع أي اعتراض من أهلي هذه المرة".
البحث عن مصدر للعيش
كانت أوضاع فضل جيدة في بداية الأمر من حيث الراتب المناسب وعملية صرفه شبه منتظمة، إذ يقول فضل: "استطعت من خلاله إعالة أسرتي وإدخال البهجة لهم، لكن مع مرور الوقت أصبحت الأمور سيئة، حيث تم الزج بنا في الجبهات الأمامية دونما تخطيط أو تنظيم".
هذا الأمر تسبب مع مرور الوقت في مقتل العديد من أصدقاء فضل، كما يؤكد، وإصابته بجروح في نهاية المطاف، وما زاد الوضع سوءًا هو تقليص الراتب وانقطاعه لأشهر، ما دفعه إلى ترك التجنيد والبقاء في المنزل.
يضيف: "فكنت أعيل نفسي وأعيل أسرتي من بعض المبالغ التي كنت أدخرها عند أمي، والتي كانت تحلم بتزويجي بها، وما هي إلا شهرين حتى أفلست، على الرغم من كل محاولاتي للبحث عن عمل".
أنا الآن بدون تعليم وبدون عمل وبدون مستقبل حتى أحلامي وأحلام أسرتي تلاشت، ولم أستفد من التجنيد غير إدماني للقات وتناول الشمة والسيجارة، التي أنهكتني وجعلتني لا أفكر إلا بها فقط"، ينهي فضل حديثه.
اضطر العديد من أولياء الأمور لإيقاف أحد أبنائه من التعليم وترك الفرصة للآخر نتيجة لعدم القدرة على توفير الملابس والأدوات للجميع، في عملية هي أشبه بالتضحية بشخص لكي يستمر الشخص الآخر
من جانبه يقول نادر الشحيري، مدير مكتب التربية بمديرية زنجبار، إن هناك أعدادًا هائلة من الطلاب المتسربين من التعليم على الرغم من كل الجهود التي يتم بذلها لإيقاف تلك المشكلة، فأسباب التسرب وفق حديثه لـ"خيوط"، أكبر وأقوى من هذه الجهود الرامية للحفاظ على بقاء واستمرار التعليم.
يضيف الشحيري: "استنجدنا بجميع الجهات التي استطعنا الوصول إليها من منظمات دولية ومحلية وأولياء أمور من أجل مساعدتنا على إيقاف نسبة التسرب أو التقليل منها، والتي لم تعد تقتصر على الذكور فقط بل أصبحت تشمل كلا الجنسين"، ويعلل الشحيري أن سبب ذلك هو الارتفاع الجنوني في الأسعار، ما اضطر العديد من أولياء الأمور لإيقاف أحد أبنائه من التعليم وترك الفرصة للآخر نتيجة لعدم القدرة على توفير الملابس والأدوات للجميع في عملية هي أشبه بالتضحية بشخص لكي يستمر الشخص الآخر، وهذا مؤسف للغاية.
تورط في العنف
الجدير بالذكر أن السجون في الفترة الأخيرة أصبح أكثر مرتاديها هم من الفئات العمرية الصغرى ما بين 13-20 عامًا في قضايا عنف أو سرقة أو تناول مواد مخدرة أو حتى قتل؛ بحسب تعبير ياسر ناصر محسن علوي، الذي يعمل في شرطة محافظة أبين لـ"خيوط"، مشيرًا إلى أن هناك ارتفاع في عدد الأطفال المتورطين في قضايا جنائية ، العديد منهم أطفال متسربون من التعليم، وبعضهم ما زالوا في المدارس، لكنه تواجد شكلي لا جدوى منه، ويضيف ياسر قائلًا: "أنا لدي ابن يدرس في الصف السابع، لحد الآن لا يستطيع القراءة والكتابة بشكل صحيح، وكأنه ما يزال في الصف الأول، نتيجة تدهور التعليم، وإضراب المعلمين المتواصل وظروف الحرب وتقليص فترات التعليم بسبب وباء كورونا".
أسباب تسرب الفتيات
من جهته يقول علي إبراهيم عبدالله، الأخصائي الاجتماعي ومشرف الأنشطة بمدرسة الفتح للبنات، إن هناك تغير كبير في الأوضاع مقارنة بالماضي، بسبب توسع ظاهرة التسرب من التعليم. يضيف في حديثة لـ"خيوط"، أن هناك فتيات صغيرات في السن متفوقات في التعليم تم إيقافهن بدون سابق إنذار، وعند الاستفسار عنهن، تجد الأسباب متعلقة في أغلب الأحيان بزواجهن المبكر، وهي قرارات عادةً ما ترتبط أيضًا بالوضع المادي للأسر وبسبب العادات والتقاليد".
يشير علي في هذا السياق إلى حالة تم فيها كسر حاجز الصمت، وذلك بمنع إحدى الأسر النازحة من تزويج ابنتهم التي تبلغ من العمر 10 سنوات والتي كانت طالبة متفوقة في المدرسة التي يعمل فيها علي، إذ تم تقديم شكوى ضد الأب عند الكثير من الجهات، لإيقاف الزواج، لكن عناد الأب دفعه بعدم السماح لها بالذهاب للمدرسة مجددًا على الرغم من كل محاولات إقناعه.
إحباط الطلاب
على أن الأسباب تتعدى الأسر في سحب أبنائهم وبناتهم من التعليم من أجل الزج بهم في التجنيد أو العمالة أو الزواج، فالكثير من الطلاب أيضًا فقدوا الرغبة في مواصلة التعليم رغم الجهود المبذولة من قبل أسرهم، حد تعبير عيشة محمد (16 سنة) طالبة، لـ"خيوط" والتي ترى أنه لم يعد هناك أي رغبة في التعليم عند عدد كبير من الطالبات، إذ تدرس بعض الفتيات بضغط من أهاليهن، بعد أن ترك إخوانهن الذكور التعليم، "بعضهن الآخر متيقنات من عدم إمكانية الحصول على عمل حكومي بعد التخرج، لذلك اختصرن الطريق، حد تفكيرهن، أما أنا، فلا أجد المستقبل إلا بمواصلته"، تنهي عيشة حديثها.
في ذات السياق، يقول فضل سالم (22) سنة، طالب جامعي: "أذهب كل يوم إلى الكلية فقط لكي أجرب حياة الجامعة التي لطالما حلمت بها، ولكني لا أخفيك القول إنني كل يوم أفكر هل سأكمل تعليمي أو لا؟! إذ لا يوجد عندي وعند الكثير من زملائي أي رغبة أو دافع لإكمال بسبب الظروف المعيشية لأسرنا وبسبب وضع البلاد عمومًا".
عديد الأسئلة التي يبحث لها الطلاب عن إجابة، تتعلق بمرحلة ما بعد التخرج ، والتي تبدو للكثير منهم مرحلة يشوبها الغموض، إذ تمثل هذه الأسئلة الموجعة حال جيل بأكمله، وجد كل الطرق مغلقة بوجهه.
بعد أن أنهيت حديثي مع فضل سالم، ظللت أفكر لوهلة كم نحن متشابهون ومشاكلنا واحدة، وتذكرت معاناتي التي عانيتها بعد التخرج والتي ما زلت أعانيها ليومنا هذا بعد 12 عامًا من تخرجي بدون أي أمل للتوظيف، على الرغم من كوني الأول في المفاضلة، لا ريب أن يصيب اليأس العديد من زملائي المتخرجين قبلي ومعي وبعدي، ولا غرابة في أن يسلكوا الطريق السهل المكروه وهو التجنيد، أو الهجرة.